الركض خلف الواقع
«امرأة جميلة ربّما تكون موضوعاً فنياً للوحة قبيحة، كما أن صورة امرأة قبيحة قد تغدو موضوعاً فنياً للوحة فنية أخاذة في الجمال» بهذه البساطة يشرح الفيلسوف الفرنسي شارل لالو، أحد مؤسسي الاستتيكا الحديثة، مسألة اشتُهرت كثيراً في الأدب والفن الحديثين، وهي: «جمالية القبح» المفهوم الذي يشكّل عنصراً رئيسياً وملمحاً مميزاً في أدب زكريّا تامر، والذي تفرّد في ريادة القصّة القصيرة السورية لعقود خلت، غير أنّه بات الآن يواجه تهديداً قوياً؛ ليس من قبل أدب آخر مُنافس ظهر فجأة على الساحة، بل من حرب دامية دخلت عامها الرابع منذ شهر. وهي حربٌ تشترك مع أعماله وتنافسها بعدّة عناصر: الكابوس، العبث، اللامتوقع، والقبح؛ مع التمييز بين تلك العناصر في الحالتين الواقعية المعيشة من جهة، والأديبة من جهة أُخرى.
لقد كان على «النمور» أن تنتظر فقط إلى اليوم العاشر مع علمها وفهمها للمطلوب منها، كما أنّها كانت قادرة على الاختيار؛ تلك المدّة لا تُقارن بسبعة وثلاثين شهراً من معارك دامية سقط فيها كل شيء باستثناء غيوم السماء، ولا يعلم السوريّون فيها ما المطلوب منهم وكيف ومتى تكون النهاية. وفي الوقت الذي تطال فيه «الحرائق» جميع أنحاء البلاد، يبدو عنوان مجموعة قصصية مثل «دمشق الحرائق» مسألة بسيطة ومحدودة جغرافياً بمدينة واحدة. وأين هو «تكسير الركب» من تقطيع الرؤوس والأعضاء وشيّها؟ هذا كلّه ينزع بالواقع أن يكون لامعقولاً ومفارقاً بات العجائبي الأدبي نفسه قاصراً عنه.
إن جمالية القبح تقترح وتلمّح إلى الجمالية الطبيعية الصرفة، تفعل ذلك من خلال تأكيد غيابها، والتنويه بالوجه الآخر لها، إنّها جمال ولكن بقيمة سلبية معكوسة، وهي قيمة يُفترض أنّها لا تتغنّى بالقبيح ولا تعممه، بل تعرّيه وتنتقده. غير أنّها تحتاج واقعاً ثابتاً واضح الملامح لكي تعمل في مجاله الحيوي ومن أجل أن تتنافر معه وتشاكسه؛ إن تصنيفات المدارس الأدبية العريضة للواقع في علاقته مع الأدب لا تخرج عن ثلاثة احتمالات: الأدب كانعكاس للواقع. كجزء منه. أو كواقع آخر مواز؛ ما يعني أن ثمّة علاقة وجودية بين الاثنين، فماذا تكون الحال عندما لا يعود هذا الواقع واقعياً؟ وذلك مقارنةً مع نفسه منذ حين أولاً، وثانياً استحضاراً لمعناه ومضامينه من خلال أدب كان قد ناقشه، وعايشه، وصالحه حيناً باستعارة الشخوص والأدوات واللغة منه، وعاداه في أحيان أُخرى بنفيه والخروج على مسلّماته وأسسه.
في فترة اشتُهرت بأدب الاضطهاد السياسي عند الكثيرين من الأدباء العرب، تجلّى القبيح الجمالي عند مؤلّف «سنضحك» بمضامين عديدة كان أشهرها الأنموذج السلطوي ممثلاً بالسياسة والدين والكبت الجنسي، فحاز بذلك ميزتين معاً؛ المضمون الذي اشتغل الآخرون عليه فشكّل قيمةً بمفرده، مضيفاً إليه الشكل القبيح الذي يُعتبر بحد ذاته جمالية شعرية أدبية، وقد تفاوتت أهمية وقيمة ذلك المضمون من عمل لآخر؛ أحياناً يكون العنصر الأهم كما في (نداء نوح. ربيع الرماد). وأحياناً أُخرى يأتي فقط كمبرر للشكل وحامل له، ثمّة نموذج شهير للمضمون بوصفه مبرراً للشكل في قصّة: «تخيلتُ شجرة رمّان». ولكن في الحالتين، أي في مضمون الاضطهاد السياسي الكثيف، أو في الشكل الجمالي، فإنهما كانا يتّصلان بواقع فاعل، هادئ، يوصف بأنّه سلطوي ولكنّه واضح، فاعل بوصفه كتلة، ليس مشتتاً ولا مرتجّاً ولا مبهماً . فكانت تلك القصص القصيرة تأخذ كثيراً من قيمتها عبر مزج المنطقي باللامنطقي عندما كان المنطقي واضح المعالم والحدود، فتحمّله على شخصيات راهنة أو تراثية، وهي شخصيّات لا تمتلك عمقاً بقدر ما كانت مدفوعة لاستحضار أجواء محددة أحسن الكاتب توظيفها، وكثيراً ما تكرّرت ولكن نجحت بالنهوض بتلك الأجواء.
يُمكن الوقوف عند العلاقة بين الواقع المفارق والمضامين الفكرية الاجتماعية في واحدة من قصصه الشهيرة، فالعادات الاجتماعية، على سبيل المثال، يُمكن أن تُرفض في الظروف العادية بوصفها نفياً للحرية الإنسانية، ولكنّها في قصّة «النابالم» تأخذ معنى مفارقاً، فأحمد وليلى يسيران بين ضحايا النابالم في المستشفى، فيقول لها: «اتركي يدي لئلّا يراك أحد ويُخبر أهلكِ». في حالة كهذه لا تعود العادات نفياً للحرية الإنسانية، بل تأخذ معنى آخر وهو: السخف. إنّها هي ذاتها لم تختلف، ولكنّ اختلاف الظرف منحها توصيفاً آخر. الأمر نفسه يُمكن أن ينسحب على الأدب بوصفه عادة اجتماعية معرفية؛ فالأدباء اليوم يسيرون بين الضحايا وأخبار القتلى والعنف، ذلك قد يؤدّي إلى اختلاف في معنى المضامين والأشكال، أو على الأقل يتطلّب حزمة جديدة من العناصر الجمالية، غير تلك المتعلّقة بالقبح، فالأخير بات متوافراً ومن المصدر مباشرةً، ولا يحتاج إلى وسيط أدبي.
خطورة القصة القصيرة
لقد استنفد مؤلّف «القنفذ» جمالية القبح وأتى عليها، استعملها إلى أقصى حد أيّام السلم في استحضار للواقع من خلال التكثيف لا التوسّع، ومن خلال التركيز والاستخلاص لا التعمّق والإلمام، في شكل أدبي مُقتضب قادته شخصيّات كانت شخوصاً مؤسلبة أكثر منها أناساً واقعيين يمتلكون رغبات وأهداف ومشاعر، تلك إشكالية ملموسة عند شخصيات القصة القصيرة عموماً مقارنةً مع شخصيّات الرواية، غير أنّها تتفرّد أيضاً عند مُبدع «صهيل الجواد الأبيض» بكونها أقنعة اجتماعية تتصرّف وتفعل وفقاً لتقاليد خاصة بها توازي تلك التقاليد التي في الواقع، تشبهها شيئاً ولكنّها تبالغ حيالها، فلا تستغلّ إلا ما هو نافع لتحقيق هدفها الوحيد المماثل لهدف الكاتب، فتلتقي بأمر حاسم أو كارثة مُبهرة أكثر مما تتطوّر عبر الزمن. ذلك كان اتّجاهاً عاما ومذهباً أدبياً برز بين العديد من كتّاب القصّة القصيرة السورية وليس عنده فحسب.
إنّ خطورة القصّة القصيرة وفاعليتها تتمثّل في تأثيراتها على المزاج الأدبي العام وضبطها له. انها الجوهر البنائي لكلّ قصّ، والشكل السردي البدائي الأوّل، وهي حرّة تماماً في استقاء مصادرها؛ تأخذ من الحكاية الشعبية وعن الأسطورة، يُمكنها أن تستعير من بناء الأحلام المبهم، وباستطاعتها أن تُحابي قصيدة النثر فتتبادلا الاعتراف على مستوى التجربة الإبداعية والحرية في الشكل. غير أن بدائيتها السرديّة وصعوبة ضبط معاييرها النقدية يجعلانها هشّة أمام منافسة البدائية السلوكية المجتمعية الماثلة في أزمنة الحروب والتحوّلات الاجتماعية، فكيف يكون حالها وبماذا تتميّز عندئذ بعد أزمنة رخاء كانت قد تباهت خلالها على الواقع المعقّد ببدائيتها الصرفة؟ إنّ وضعها لن يكون مطمئناً إذا ما قورنت ببنت جنسها الرواية التي هي نفسها لم تصمد تاريخيّاً أمام تلك التحوّلات، مع أنها الشكل الأدبي الأكثر نضوجاً واحتمالاً للعناصر التاريخية والمجتمعية والمعرفية، ففي الأدب العالمي ثمّة قرائن قوية على تحوّلات فنّية وأدبية مصاحبة أو لاحقة على التحوّلات المجتمعية العنيفة؛ السوريالية ومسرح العبث واللامعقول كنتيجة وتفاعل للحركة الثقافية الأوروبية مع تبعات الحربين العالميتين، والواقعية السحرية كأدب تعامل أوّلاً مع سلسلة حروب أهلية عصفت بأميركا اللاتينية، وثانياً مع حياة مدنية صاعدة كان لا بد أن تتلمّس طريقها، فما هو إذاً التحوّل المقبل على أدب كان استبق الحرب الراهنة بالتبشير بالقبيح الجمالي؟ هنا ربّما تظهر فكرة لعلّها ليست خاطئة: إن استغراق زكريا تامر وجيل من كتّاب القصّة القصيرة بعنصري جمالية القبح واللامعقول لم يكن استغراقاً أصيلاً، بل انزياحاً معرفيّاً عن الأدب الأوروبي الذي اعتمد تلك العناصر بناءً على ظروف أصيلة مرّ بها، في بلاده وليس في بلادنا، والآن وقد حلّت الظروف الواقعية التي كان من المُفترض أن تُنتج عناصر أدبية أصيلة على مستوى الأحداث، ربّما سيكون على أدبنا عموماً، وكتّاب القصّة القصيرة خصوصاً، والذين جنحوا إلى المزاج الغربي أن يجهدوا كثيراً في ابتكار مقومات تُلائم هذا التحوّل الأدبي القادم لا شك، ذلك أنّ القصّة القصيرة تشكّل غالباً حقل التجارب الأدبي الأوّل في هذا المجال.
إذا كانت القصّة القصيرة تعتمد على المزج بين المنطقي واللامنطقي، فربّما تجد نفسها مضطرة لأن تتمثّل عناصر الجمال الطبيعي العادي البسيط، بحالته التذوّقية البدهيّة، بوصفه حالة غير واقعية تقوم على تضاد مع ما هو سائد، فالقبيح غدا في متناول الذائقة وعلى قارعة الطريق، والجمالي العادي البسيط أصبح هو غير واقعي وبعيد عن المنطق. هذا كلّه قد يعني انحساراً لأدب زكريا تامر، فهو لم يعد مفارقاً وعلى سجال مع الواقع، وتوقّف عن تكثيفه وترميزه؛ لقد بات يركض وراءه فلا يلحق به، ما يعني أنّه لم يعد راهنا حديثاً، بل أصبح قديماً من الماضي. مثلما أصبح الأدب المهجري قديماً بعد حربي النكبة والنكسة.
بشار عباس
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد