مسلمو أوروبا يخشون سيل كراهية «يجرف الجميع»
عاداته في عبور محطة القطارات، في لندن، تغيرت بعد الضجة العالمية التي أحدثها اعتداء باريس. يحدث ذلك مع أنه أستاذ في جامعة شهيرة، يسير بأناقته المعهودة، لكنه يعرف أن ملامحه الشرق أوسطية تكشف خلفيته. ويقول، بلهجة ساخرة، «اعتدت على التلفت كثيرا حولي خلال عبوري أي مكان. رأيت حركة الشرطة، أحسست فورا بالتوجس، وعفوياً فتحت سحاب السترة، وصار نظري لا يحيد عن أمامي».
لكن لماذا على شخص، يتمتع بمكانة مرموقة، أن يقلق؟ يجيب بأنه يكفي لمعرفة السبب رؤية المشهد الذي تابعه الملايين. كان يشير إلى ما حصل مع مراسل قناة «الجزيرة» في باريس نور الدين بوزيان، حين غص بالدموع وهو يحذر من تداعيات اعتداء باريس الإرهابي على المسلمين في فرنسا.
لكن مؤشرات اللحظات الصعبة لم تعد مجرد تخمينات، مع تنامي خطاب الكراهية ضد المسلمين في العديد من الدول الأوروبية. هذا ما رصدته بدقة الشبكة الأوروبية لمكافحة العنصرية، التي تتخذ من بروكسل مقرا لها.
وبالتزامن مع الاعتداءات التي تعرضت لها مساجد في باريس، كانت وسائل التواصل الاجتماعي حافلة بانفعال من يتحدثون عن تهديد المسلمين. ويقول مدير الشبكة ميشيل بريفو، في حديث مع «السفير»، إنه «حالما حدث هجوم باريس أمسك المسلمون في أوروبا قلوبهم. صارت تعليقاتهم تنتشر على فايسبوك، وهم يقولون: إذا حدث أن مرتكب الجريمة هو مسلم فسيكون ذلك مريعا لنا»، قبل أن يضيف «لم يأخذ وقتاً طويلاً كي يثبت لهم ذلك».
ويتحدث بريفو عن تهديدات باعتداءات وصلت إلى منظمة فرنسية، مناهضة «للاسلاموفوبيا» وعضو في شبكتهم، رغم أنها أعلنت إدانتها للجريمة وتضامنها.
اعتداء باريس ليس كغيره، ومن شبهه بهجمات 11 أيلول لديه مبررات قوية. فلم يحصل في تاريخ أوروبا الحديث أن يستهدف هجوم إرهابي كادر تحرير صحيفة. الضحايا لهم رمزية كبيرة لما يسمى «القيم الأوروبية»، التي تشكل حرية التعبير أحد أهم عناصرها.
والعامل المهم الثاني أن قصة الجريمة مرتبطة بالجمهور المسلم، شاء ذلك أم أبى. وشاهد الأوروبيون معظم تقارير التغطية العالمية الكثيفة، كالتالي: صور من باريس للمهاجمين، الضجة والهلع في باريس، ثم صور لحشود من المسلمين يتظاهرون ضد الرسوم التي يعتبرونها مسيئة للنبي محمد. وفق هذا البناء، الذي لم يمكن مهنياً تجاوزه، بدت القضية مترابطة، ومن في الحشود صار لهم علاقة سببية بما حصل في باريس.
لذلك صار رجال الدين المسلمون مطالبين بالرد، وصار الحديث معهم يصل مباشرة إلى الموقف من الرسوم الساخرة. كثيرون منهم كانوا محرجين، وهم يحاولون الفصل بين إدانتهم الصريحة للجريمة، ورفضهم نهج صحيفة «شارلي إيبدو». صار المشاهدون الأوروبيون، في حالة الانفعال التي يعيشونها، أمام تحول النقاش إلى سلبية رفض المسلمين قيم أوروبا.
وهكذا أصبحت الدعوات إلى «إسلام أوروبي» محوراً رئيسياً، وبعض المنادين بذلك هم رجال دين مسلمون. القضية تحظى بتأييد عز الدين الزير، وهو إمام مدينة فلورنسا ورئيس الهيئات الإسلامية في إيطاليا. ويقول، في حديث مع «السفير»، «نحن نعمل على هذا منذ سنوات، أن نكون مسلمين أوروبيين، لأن واقعنا في أوروبا مختلف عن الواقع في العالم العربي، والفتوى تتغير مع الزمان والمكان والحال». وأبرز محاور العمل على هذه القضية في إيطاليا هو برامج تأهيل الأئمة «من الناحية اللغوية والثقافية».
وعن أهم ما يحاولون علاجه، يقول الزير، بلهجة متأسفة، «يجب أن نكون صريحين مع أنفسنا، بأن لدينا ثقافة العداء نحو الآخر. هذا لا يأتي من أصل ديني، بل من فهم خاطئ للدين»، مشدداً على أنه «يجب ونحتاج أن نعتبر الآخر كما كرّمه القرآن الكريم بالقول ولقد كرّمنا بني إنسان، بغض النظر عن الدين والجنس وغيره، وعلى هذا الأساس تُبنى أمور كثيرة».
وسط كل هذه الضجة، لم يكن مفاجئاً الشعبية التي حاولت أحزاب اليمين الأوروبي المتطرف اصطيادها، في دول أوروبية عديدة. هذه الأحزاب تكسب تأييداً متزايداً، وهي تدرك أنها فرصتها لجذب المقترعين إلى خطابها. وها هي تخطط الآن لتحرك مشترك في هولندا والدنمارك وايطاليا، بعدما وجدت عنواناً جامعاً هو تهديد «الأسلمة». وهناك مؤشرات على إمكانية امتداد هذه الموجة إلى دول أخرى، خصوصا أن السويد شهدت مسبقاً اعتداءات على ثلاثة مساجد في مدن مختلفة.
ويغذي هذه الموجة أيضا «الإلهام» الذي شكلته شعبية حركة «بيغيدا» في ألمانيا، بعدما رفعت شعار معاداة «أسلمة أوروبا». لم يكن مشهداً عادياً حين سار، لدعم شعاراتها، أكثر من عشرة آلاف في مدينة دريسدن، فيما يسعى ناشطوها إلى تظاهرات دورية عابرة للحدود. بعد جريمة باريس، قالت الشرطة الألمانية إن هناك مخاطر من تحول «بيغيدا» إلى «خلية إرهابية». لذلك تعترف الأجهزة الألمانية بأنها ستكون أمام «عبء كبير»، حين ستحاول حماية الفعاليات والمناسبات التي يقيمها المسلمون الألمان.
إن ظهور هذه الحركة لم يكن سوى ذروة جبل الجليد، كما ظهر من دراسة حول موقف الألمان من مواطنيهم المسلمين أجريت قبل اعتداء باريس. الدراسة نشرتها قبل أيام مؤسسة «برتلسمان» المعروفة، في إطار مشروع متواصل عنوانه «رصد الدين»، ونتائجها شكلت جرس إنذار حقيقياً.
وبيّن استطلاعها أن 61 في المئة من الألمان يرون أن الإسلام «لا يتناسب مع الحياة في الغرب»، فيما 57 في المئة يعتبرون الإسلام «تهديدا» لهم. وأكد معدو الدراسة أن حالة العداء لا تنتشر على هامش المجتمع، بل في الطبقة الوسطى، وبين أحزاب اليسار واليمين الوسطي، كما أن 46 في المئة من طلاب الجامعات عبّروا عنها أيضا.
مكملة رسم هذا الأفق الأسود، تخلص الدراسة إلى أن «معظم الألمان صاروا ينفرون نفوراً متزايداً من الإسلام، والنتيجة هي الإقصاء والمشقة لمسلمي البلاد». كما توقع الباحثون أن يؤدي اعتداء باريس إلى تفاقم هذا الواقع، على اعتبار أنه «سيزيد مشاعر الرفض عند الألمان للمسلمين».
وفي هذا السياق، يحذر بريفو من حقيقة أن أنصار هذه الحركات لم يعودوا فقط القلة الفاشية، معتبراً أن ذلك يجعل التحدي أكبر، لأن «المشكلة الآن أن مرتكب جريمة الكراهية يمكن أن يكون أي شخص، أحد الناس العاديين في الشارع يفرغ إحباطه بالمسلمين العابرين، وهذا ما يحصل فعلاً».
وكان باحثون قد حذروا من أن «بيغيدا» نمت نمواً عفوياً بين الناس، خارج الأطر الحزبية. هذا الأمر يشدد بريفو على خطورته، معتبراً أن «حركة مثل بيغيدا تعطي الناس شعورا بأن الكثيرين يفكرون بالطريقة نفسها، أن كل المسلمين إرهابيون يجب رفضهم وإبعادهم، وهذا يغذي ويزيد فرص جرائم التطرف».
وفي هذه الأثناء تجري مبادرات عاجلة لتحريك الشارع المسلم. هذا ما تفعله مجموعة مثقفين مسلمين عقدوا سلسلة اجتماعات مع أئمة ورجال دين في مدينة أنتويرب البلجيكية. أحد قادة المبادرة هو البروفسور عبيد السليمان، رئيس قسم الترجمة العربية في جامعة «لوفن» العريقة. ويشرح، في حديث مع «السفير»، أنهم يريدون «تحريك السواد الأعظم الذي يلزم عادة الصمت»، كي يعبروا عن مواقف الإدانة للجريمة والتضامن مع الضحايا، مضيفا «صحيح أن ما حدث فعله مجرمون، لكن مسؤوليتنا هي عدم ترك الساحة لهم ولغيرهم من المتطرفين».
ويستهدف التحرك أيضا دفع رجال الدين إلى إظهار أن «ما وقع هو جريمة من الناحية الشرعية الدينية»، وهذا ما يحرك مخاوف بعضهم من ردود فعل التيار السلفي الحاضر في أنتويرب. فثاني أكبر مدن بلجيكا لا تزال تشهد فصول محاكمة عشرات «الجهاديين» المرتبطين بالقتال في سوريا، ومن المنتظر أن يصدر الحكم الأسبوع المقبل.
ويقول السليمان عن هذه المجموعة «نحن نسميهم التيار التلفي، المنتشر للأسف مع رموز له ومريدين». لكن ما قبل اعتداء باريس ليس كما بعده، ولا مجال للصمت كما يشدد الأكاديمي بنبرة متأثرة «لقد بلغ السيل الزبى، وبدأ التطرف يجرفنا جميعا، المعتدلين والمتصوفين وغير المتدينين».
وسيم إبراهيم
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد