المبادرة الإيرانية؛ لا للدستور الطائفي
شكّل تسريب بنود المبادرة الإيرانية، قبيل اطّلاع وزير الخارجية السوري وليد المعلم عليها، إحراجا للسوريين. فالمعلّم كان صرّح، كما تقتضي اللياقة الدبلوماسية بين الحلفاء، بأن طهران ودمشق تنسّقان معاً كل ما يتصل بالمبادرات والاقتراحات، لإنهاء الحرب على سوريا. لكن الجديد الذي تم تسريبه من المبادرة الإيرانية المعدّلة، يتعلّق ببند «إعادة كتابة الدستور السوري بما يتوافق وطمأنة المجموعات الإثنية والطائفية في سوريا».
وهو اقتراح لا تقبله القيادة السورية من حيث المبدأ.
سارع نائب وزير الخارجية الإيراني، أميرعبداللهيان، إلى القول إن بنود المبادرة، المسرّبة، مجرد «توقعات إعلامية»، وإن الصيغة النهائية للمبادرة موضع نقاش إيراني ــــ سوري يسبق الإعلان، رسمياً، عنها.
هل كان تسريب بند دسترة الاعتراف بالطوائف والاثنيات إشارة إيرانية ودية تعلن عن تفهّم مصلحة السعودية (في مشاركة سياسية إسلامية مقننة، دستورياً، في سوريا) وتستجيب لمصلحة الولايات المتحدة (في إنشاء كيان كردي)، أم كانت مجرد تلويحة عتب على السوريين والروس، الذين نسّقوا اختراقات في الحوار مع الرياض وواشنطن، من دون علم الإيرانيين، أم أننا، بالفعل، أمام اقتراح إيراني جدي لصيغة سورية تشبه الصيغتين، اللبنانية والعراقية؟
في كل الأحوال، فإن خيال السياسي الإيراني الذي صاغ هذا الاقتراح، استلهمه من تجربة سابقة للتفاهم الإيراني ــــ الأميركي في العراق، وخلاصته كتابة دستور يعترف بالطوائف والاثنيات وتمثيلها وحصصها السياسية؛ لكن ذلك الدستور/ اللعنة، كان ممكناً، وقتذاك، لأن العراق هُزِم عسكرياً، ووقع تحت الاحتلال، وحُلَّ جيشه، وحُطِّمَتْ دولته الوطنية.
سوريا، أكبر المعترضين على دستور بول بريمر ذاك، هل توافق على الانزلاق إلى الوضع العراقي، خصوصاً أن الدولة الوطنية السورية، ما تزال قائمة، وفاعلة، وذات سيادة، وقدم الجيش العربي السوري، في الدفاع عنها، وعن مضمونها القومي العلماني، عشرات آلاف الشهداء، وما يزال.
لطهران، الكثير من الفضل على السوريين وصمودهم في الحرب، لكن القيادة السورية لا تستطيع السير في اقتراح دسترة الطوائف والاتنيات، لأن ذلك ينسف شرعية النظام، بل شرعية الدولة السورية. وهو ثمن لا يمكن للسوريين دفعه.
لا يدخل الاقتراح الإيراني في باب السياسة، وإنما في باب التكوين الاجتماعي ــــ الوطني الأساسي للجمهورية العربية السورية. وهو ما يقع، بالطبع، خارج أي حوار أو حل؛ فالحوارات والحلول هي للمشكلات السياسية، أما الثوابت التكوينية للدولة السورية، فهي موضوع النزاع الأساسي بين سوريا وأعدائها؛ فهل تتنازل دمشق في السياسة، عمّا فشلت الحرب في انتزاعه منها؟
سوريا لا تعترف حتى بوطنيتها وهويتها الخاصتين، وإنما هي مؤسسة على فكرتين، لا تعارض بينهما رغم ما شهده الماضي من صراع بين أصحابهما: الهوية السورية فوق ــــ وطنية؛ فهي عربية أو مشرقية. وفي الحالتين، هل تقبل دمشق، بالإنحدار من الهوية القومية (العربية أو المشرقية) إلى مستنقع الهويات الطائفية والاتنية؟
جوهر سوريا أن رمزيتها القومية أكبر من حجمها، وفضاءها العلماني أوسع من حدودها، ودورها أعظم من قدراتها، ونموذجها التعددي الثقافي المتراكم، القائم على شرعية المواطنة المتحررة من كل ولاء طائفي أو اتني، هو النموذج المطلوب لنهضة بلاد الشام والعراق، وليس العكس.
كل هذه الدماء التي خضبت الأرض السورية، كل هذه التضحيات التي قدمها مجتمع دافع عن ذاتيته وقيمه، حتى اشتعل باللوعات والآمال، تغدو بلا معنى، حين تعترف الجمهورية العربية السورية بأن مواطنيها ليسوا سوريين، وإنما مسلمون سنّة وعلويون وشيعة واسماعيليون ومسيحيون أرثوذكس وكاثوليك وأرمن، وعرب وسريان وآشوريون وكرد الخ؛ فماذا يبقى من سوريا عندها، وما أهمية سوريا، حين تتحول من وطن موحَّد هو المركز المأمول للوحدة المجتمعية والتنموية والسياسية للمشرق، إلى تجمّع للطوائف والاتنيات؟
يُقال في تبرير الاقتراح: إن اصطلاح «طمأنة» الطوائف والاتنيات، لا يعني المحاصصة على الطريقة العراقية واللبنانية؛ كلا، فالاعتراف بالطوائف والاتنيات ، دستوريا، يعطيها حقوقا سياسية، ويؤسس لشرعية الهويات الفرعية، ويقود، حتما، إلى المحاصصة. وهذه وصفة لتخريب الدولة، وتفكيك المجتمع، وإيجاد آلية دائمة لتجديد الحرب الأهلية؛ بل للعجز، لا عن البناء،فقط، بل عن انتاج الكهرباء في بلد نفطي كالعراق، أو طمر القمامة في بلد سياحي كلبنان.
ويُقال في تبرير الاقتراح، أنه مخصص للكرد، في استنساخ للتجربة العراقية، نحو تأسيس كيان كردي سوري يتحول، كما كردستان العراق، إلى خنجر أجنبي في الخاصرة الوطنية، ويفتح باب التفتيت والفدرلة. غير أن المطابقة بين الحالتين، السورية والعراقية، ليست ذات معنى؛ فلا توجد أرض كردية في سوريا، بل يوجد أكراد هاجر معظمهم من تركيا على موجات، وتم منحهم الجنسية السورية على دفعات، آخرها قبل أربع سنوات فقط.
إذا جرى فتح ملف الطوائف والاتنيات، دستوريا وسياسيا، في سوريا، فسوف ينفرط البلد إلى غير رجعة، وسوف يدخل في باب التقسيم والفدرلة، وسوف يعجز العراق عن تجاوز كارثة المحاصصة الطائفية والاتنية، وتخيّم على المنطقة، الموجة السوداء للإرهاب الطائفي ــــ التكفيري؛ ففي العمق ما يريده المعارضون الطائفيون والتكفيريون، من القتال في سوريا، هو الاعتراف بالتكوينات الطائفية، والانتقال نحو «الديموقراطية» الطائفية أو الخلافة الطائفية. وكل ذلك ــــ بالنسبة للدولة السورية ومؤسساتها وجيشها ورئيسها ــــ خط أحمر.
نعم؛ مطلوب تعديل الدستور السوري، ولكن باتجاه (1) شطب أيّ إشارة إلى الدين نهائيا، والإقرار بأن الجمهورية هي لكل مواطنيها على التساوي، بغض النظر عن طوائفهم واتنياتهم، (2) وفرض قانون أحوال شخصية مدني موحد لجميع المواطنين.
ناهض حتر
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد