عند خطوط المواجهة في القصير (1): ارتياح لوجود «حزب الله»..لكن الخطر «الداعشي» قريب
قد لا يعني اسم مدينة القصير السورية للكثير من اللبنانيين، سوى أنها مجرد منطقة تابعة للدولة السورية، وأنها لا تستحق معركة كبرى، كتلك التي خاضها «حزب الله»، لتحريرها من براثن الجماعات التكفيرية.
هذه الرؤية التبسيطية للواقع الذي كان قائماً قبل الخامس من حزيران العام 2013، تاريخ هروب المسلحين من القصير، تتجافى مع حقيقة ما كان يُعَدّ لتلك المنطقة من مخططات، لجعلها حلقة الوصل الأساسية لـ «الإمارة الإسلامية» التي كان يجري العمل عليها من قبل المسلحين وداعميهم الإقليميين، وذلك من خلال ربط حمص بالشمال اللبناني، وصولاً إلى القصير وانتهاء بجرود عرسال.
ويمكن اعتبار أن تدخّل المقاومة قلَبَ المعادلة، ونسف مخطط إقامة هذه «الإمارة الإسلامية»، والذي، لو كتب له النجاح، لجعَل مدينتي الهرمل وبعلبك خطوط تماس مع الجماعات الإرهابية.
هذه الحقيقة قد لا يلمسها المرء إلا عند زيارته مدينة القصير ومنطقتها والقرى والبلدات اللبنانية المتداخلة معها.
ومنذ اللحظة التي أدار بها السائق محرك الحافلة، والأفكار تأخذك شمالاً ويميناً عمّا ستكون عليه حقيقة الواقع الذي نسجت حوله آلاف القصص والروايات إبان المعارك وقبلها.
بعد تنسيق الإجراءات الأمنية مع قبل الأشخاص المولجين بالحماية، تنطلق الحافلة وسط مواكبة أمنية، تفرض على السائق السير وفق خط محدّد. تمر الساعات ثقيلة، إلى أن تلوح مدينة الهرمل، حيث يتجنّب القائمون على الرحلة الدخول إليها، مفضلين اعتماد طريق فرعي، يؤدي إلى قرية حوش السيد علي اللبنانية.
وما إن تعبر الحافلة حاجر فرقة الحدود البرية في الجيش اللبناني، في الجزء اللبناني لقرية حوش السيد علي، حتى تبدأ الأراضي السورية. ويتوقف الموكب ومعه الحافلة لدقائق، في إجراء وقائي قرب أحد المنازل استعداداً للدخول إلى منطقة القصير. رتابة الانتظار تقطعها حركة السيارات والدراجات النارية، والشاحنات الصغيرة المحمّلة بالخضروات والبيض والحطب، متوجهة نحو الأراضي اللبنانية. وداخل الجزء السوري، يستعين السائق (مجتهداً) بشاب سوري من القرية كان على متن دراجته النارية لسؤاله عن طريق آخر يناسب حجم الحافلة، ويصل بها إلى «نقطة المهمة» التي تعتبر البوابة الرئيسية المتاحة حالياً للدخول إلى القصير.
يتطوّع الشاب كدليل، يؤشّر بيده للسير خلف دراجته في أزقة القرية، وما هي إلا لحظات حتى تنحدر الحافلة نزولاً، سالكة طريقاً ترابية ضيقة، بمحاذاة عدد من المنازل، ومجتازة بوابة حديدية كبيرة، فجسراً إسمنتياً يمر تحته نهر العاصي.
هنا «نقطة المهمة» يقول السائق المطلع جيداً على جغرافية المنطقة، لكثرة الذهاب والإياب إليها. وتستنتج لاحقاً أنها اسم على مسمّى، إذ لا يمكن عبورها إلا لمن كانت لديه مهمة.
ما إن يتم الانتهاء من «نقطة المهمة»، حتى تسلك الحافلة طريقاً معبداً، تنتشر على جنباته أشجار الحور التي تسيّج بساتين التفاح. ولا يطول الوقت حتى تصل إلى نقطة تفتيش رئيسة للجيش السوري، حيث تشاهد أحد العناصر يحمل بيده دفتراً يسجل فيه الداخل والخارج من المنطقة. دقائق ويفتح العنصر أمامنا الحاجز الحديدي، بعد تعريف أفراد الموكب عن أنفسهم وهوية العابرين ووجهتهم.
وفور عبور نقطة التفتيش، تتوجه نحو بلدة ربلة التي تقطنها غالبية مسيحية، وحيث صور الرئيس بشار الأسد والبطريرك لحام تغزو جدران المنازل وواجهات المحال التجارية.
تفاجأ بالمشهد، فالحياة في البلدة عادية، وكأن الحرب لم تمر من هنا. الشارع الرئيس يبدو مزدحماً بالناس والسيارات والدراجات النارية، والسكان منصرفون إلى أعمالهم، وهم يردّدون، بحسب أحدهم، أن الأمان الذي يعيشونه هو بفضل المقاومة التي أنقذتهم من الحصار الذي كان مطبقاً على بلدتهم، وتعرض خلاله حوالي 250 شخصاً من سكان البلدة للاختطاف، بينهم عدد من النساء والفتيات اللاتي اغتُصبن قبل أن يُفرج عنهن في صفقة تبادل، على اثر اختطاف عناصر الدفاع الشعبي عدداً من عوائل المسلحين.
لا يتردّد الأهالي في القول إنه في الوقت الذي سيرحل فيه «حزب الله عن المنطقة سيرحلون معه». هذه المقولة نقلها لاحقاً أحد المقاومين ممن شاركوا في معركة القصير.
من ربلة، يتمّ التوجّه إلى مكان التجمّع المحدد في قرية الصالحية.
قبل الوصول إليها يظهر من بعيد معبر جوسية الذي يبدو مقفلاً وخالياً إلا من الوجود العسكري للجيش السوري. التدابير والإجراءات الأمنية في محيط بلدة جوسية والمنطقة المحيطة بها، تشي بأنها عادية جداً، إذ لا شيء يدل على مظاهر الاستنفار والجهوزية للجيش السوري أو المقاومة اللبنانية، بخلاف ما يروّج له المسلحون عن سيطرتهم على مناطق محاذية للمعبر.
عند الوصول إلى نقطة التجمّع المحددة، يترجل الجميع من الحافلة، وتبدأ بعدها الإجراءات اللوجستية تحضيراً للذهاب إلى مواقع التماس مع تنظيم «داعش».
بعد هذه الخطوة، يتم استخدام الآليات العسكرية، في مجموعات كل واحدة تضم 5 أو 6 أفراد للتوجّه إلى المحطة ما قبل الأخيرة، غير أن بالإمكان اختراق هذه القاعدة، لتصبح المجموعة 7 أفراد. وتسلك، مع حلول الظلام، طريقاً غير معبدة محاذية للساتر الترابي الفاصل بين مشاريع القاع والأراضي السورية. وفي أعلى الساتر تتوزع نقاط عسكرية سورية عدة، هي عبارة عن غرف صغيرة، ويتناوب عدد من العناصر على مراقبة الجهة اللبنانية منعاً لأي اختراق عسكري. وقبل السؤال عن اسم المكان، يبادرك السائق بالقول «هنا الحدود».
مع اشتداد الظلام، تظهر أضواء بيضاء خافتة، موزعة على عدد من قمم الجبال الشاهقة. يلتفت الحاضرون إلى السائق مستغربين ومستفسرين عن سرّ وجودها في هذه المرتفعات، فيكشف عن «أنها مواقع عسكرية تابعة للمقاومة، ونحن ذاهبون إلى هناك». تعلو الدهشة وجوه الجميع، إذ لم يكن أحد ليظن أنه سيقضي ليلته في احد المواقع الأمامية، بل الخلفية.
تسأل عن نسبة الخطر، فيردّ السائق مبتسماً «هذه المواقع معرّضة دائماً للهجوم من قبل داعش وإنتو وحظكم».
تصل إلى المحطة ما قبل الأخيرة في منطقة تُدعى «النعيمات»، وما أن يتم الترجل من الجيب، حتى يخرج عناصر الموقع للـترحيب بالقادمين. يأتي أحدهم وبيده دفتر وقلم، ويطلب أن نأتي إليه مجموعات، لتسجيل الأسماء، على ألا يتجاوز عدد الأشخاص الستة.
بعد تسجيل أسماء أفراد المجموعة السبعة، يقول المكلف بعملية الفرز إننا ذاهبون إلى موقع «السمرمر 2». الطريق إلى الموقع تضع الجميع في تحدٍّ مع الطبيعة الجرداء، بسبب صعوبتها ووعورتها لكونها شُقت حديثاً، غير أننا سنتمكن في النهاية من التغلّب عليها وبلوغ الموقع بعد وقت قصير.
وفور الوصول إلى الموقع، يرحّب مسؤول الموقع هادي وعناصر الحامية بالسلام والترحاب، قبل أن يتلو هادي الضوابط والإجراءات العسكرية الواجب التقيّد بها، خصوصاً البقاء في الدشم، وعدم الصعود إلى السواتر، حرصاً على حياتنا من استهداف «الدواعش».
ثم يبدأ هادي بشرح جغرافية المنطقة، قائلاً «الأرض التي نحن عليها لبنانية، ولكنها لم تُحسم ملكيتها رسمياً للدولة اللبنانية بسبب عدم ترسيم الحدود، وهي ترتفع عن سطح البحر حوالى 1500» متر. ويضيف «اما الموقع الذي أنتم فيه، فيُدعى السمرمر2، وهو يتوسط موقعين نرى وميض أضوائهما بالعين المجردة، وهما متقدمان بعض الشيء عن هذا الموقع، ومهمتهما حماية موقعنا في حال تعرّضنا للهجوم، ويُسمّيان سمرمر 1 وسمرمر 3».
ويضيف مسؤول الموقع «أما عناصر داعش، فهم موجودون في الجبل المقابل، في نقطتين تقعان ضمن جغرافية جرود عرسال، واحدة تسمّى الكهف والأخرى تسمى الشجرة، ولا يفصلنا عنهم سوى وادٍ متوسط العمق. أما المسافة بيننا وبينهم فتبلغ حوالي 1500 متر خط نار». ويتابع «كما أنه يوجد مواقع للجيش في الجهة اللبنانية من مشاريع القاع، وهناك تنسيق معهم».
ويختم المسؤول كلامه بدعوتنا إلى العشاء والدعاء لنا. نتوجّه إلى المطبخ الذي هو عبارة عن غرفة صغيرة ذات سقف إسمنتي، تحيط بجدرانها الأكياس والبراميل المعبّأة بالرمال. نجلس إلى طاولة صغيرة صُنعت من صناديق الذخيرة، حيث توزعت الأطباق، التي ضمت الشنكليش، الحمص، السردين، البيض المقلي، إضافة إلى الشاي والجبنة. بعد الانتهاء من الطعام، نذهب إلى غرفة المنامة.
علي دريج
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد