عن رحيل فاطمة المرنيسي
«سلطانة» شرسة قارعت المقدّس
تُعد فاطمة المرنيسي من أهم النسويات العربيات. عالجت إشكاليات المرأة في الإسلام، ونشرت عدداً من الكتب التي نالت شهرة واسعة، محاولة نقد التراث الفقهي والأحاديث المعادية للنساء. في «نساء على أجنحة الحلم»، تحدثت عن طفولتها وسط عائلة تقليدية تقيم حدوداً بين الجنسين. رغم رؤيتها النقدية تجاه عالم النساء المغلق الذي تربت فيه، اتسمت نبرتها عن طفولتها بالصور والملامح الحميمة. شُغلت باكراً في فهم هذه الحدود: «غدوت يومها مشغولة بالبحث عن الحدود وقد استبد بي القلق حتى أصبحت عاجزة عن تبيّن الخط الهندسي الذي ينظم عجزي».
في عام 1982، صدر كتاب بالفرنسية حمل عنوان «المرأة في اللاوعي المسلم» La Femme dans l’inconscient Musulman ووقِّع باسم مستعار هو «فتنة آية صباح». لم تكن الأخيرة سوى المرنيسي، إذ حمّلت خلاصات العمل ـــ كما تلاحظ الباحثة اللبنانية عايدة الجوهري في مقالها «المرنيسي رائدة في مجال النسوية من منظور سوسيولوجي هل تصرف المرأة عن عبادة الله؟» ــ «التراث وزر تهميش المرأة، كنتيجة لنظام عبادي يقضي بخضوع الرجل للخالق والمرأة للرجل. وتكشف النقاب عن تنوع الخطاب الفقهي، مقارنة بالخطاب الأيروسي السائد في القرن السادس عشر مع ما سمته الخطاب الأرثوذكسي الممثل بالنصوص الأصلية وبعض النصوص الفقهية المتشددة». لم تأتِ المرنيسي من باب التخصص في الدراسات الإسلامية. اكتسبت مهارات منهجية متداخلة، فجمعت بين علم الجرح والتعديل (علم الرجال) ومناهج العلوم الاجتماعية الحديثة. اتضح هذا المنهج في «الحريم السياسي: النبي والنساء» الذي ركز على موقع المرأة داخل السلطة في الإسلام المبكر، واستبعاد النساء من الحقل السياسي وعودة الممارسات الجاهلية، ومقارعة الأحاديث المعادية للنساء والمنسوبة إلى الرسول التي ظهرت في مرحلة الفتن، وقيادة النبي لثورة من أجل الحقوق المرأة.ما فعلته يُعد فتحاً
علمياً، وإن اصطبغ أحياناً بلغة استشراقية
وعلى أهمية الخلاصات التي خرجت بها في الكتاب، إلا أنّها أقامت تمييزاً بين أربعة مستويات لمعنى الحجاب كما ورد في القرآن: الأول هو الحجاب/ الستار/ الفصل: «إنه الحجاب أو الستار الذي تسترت به مريم بعيداً من أهلها» (السورة 19 الآية 17). أما الثاني، فهو: الحجاب/ الاعتزال «الخدر لاحقاً المفروض بدئياً على زوجات النبي وحدهن (السورة 33 آية 53 وسورة 33 الآية 32) بناء على نصيحة عمر بن الخطاب» (نتيجة التداعيات التي ترتبت على معركة أحد)؛ والثالث هو الحجاب الذي يفصل بين المؤمنين والمدانين في يوم الحساب؛ والرابع هو الحجاب/ الجدار كما ورد في السورة 7 الآية 46 وهو يرتبط بالوحي، لحماية النبي المختار من اشعاع الوجه الإلهي.
أخضعت النص التراثي (ولا سيما الأحاديث) لعملية تشريحية تحوله إلى مادة للقراءة. «إنها تستخلص معنى النص من ذات النص نفسه، أي من خلال العلاقات القائمة بين أجزائه، وهي توظف المكاسب المنهجية التي وفرتها الثورة في مجال العلوم الإنسانية، فتمزج بين المعالجة البنيوية والتحليل التاريخي» كما يرى الكاتب السوري الراحل تركي الربيعو.
يدرج بعض الباحثين المرنيسي في خانة «النسوية الإسلامية». وبرغم اشتغالها في حقل تأويل ونقد الأحاديث المعادية للنساء، إلا أنّها لم تدعُ إلى أسلمة مصطلحات تستعار من الفكر النسوي الغربي كـ «أسلمة التمكين» و«أسلمة الجندر» و«جهاد الجندر» كما فعلت رائدات النسوية الإسلامية من أمثال أمينة ودود، ولم تدعُ إلى «إسلام نسوي»، فهي تدرس إشكالية السلطة/ المعرفة، وهذه المنهجية أخذتها عن الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو. وفي كتابها «ما وراء الحجاب: الجنس كهندسة إجتماعية»، أشارت إلى القيود التي وضعها الإسلام على النساء، وبنت هذه الخلاصة على اعتبار أنّ النساء المسلمات يشكلن خطراً على الأمة بسبب رغباتهن الجنسية التي تسبب خطراً للرجال. تقول: «إن البنية الاجتماعية الإسلامية كلها يمكن رؤيتها كهجوم على القوة المشتّتة للطبيعة الجنسية الأنثوية». واعتبرت أنّ الاسلام حد من حرية تصرف المرأة مقارنة بما كانت عليه في الجاهلية، وخصوصاً في ما يتعلق بالزواج والطلاق. وعلى خلاف المصرية عائشة عبد الرحمن (1913- 1998)، لم تخض المرنيسي في قضايا فهم النص القرآني من حيث الدلالات والألفاظ والتمييز بين السور المكيّة والمدنيّة، بل اكتفت بشرح بعض الآيات القرآنية المتعلقة بالنساء، ودحضت الأحاديث المعادية للمرأة.
ما يميز المرنيسي في أطروحاتها حفرها الدؤوب في مفهوم «الحريم» الذي تعرّفه في كتابها «هل أنتم محصنون ضد الحريم؟» بأنه «مفهوم مكاني وحدود تقسم الفضاء إلى قسمين: فضاء داخلي أنثوي، مستتر، ومحرم على كل الرجال ما عدا السيد، وفضاء خارجي مفتوح على كل الرجال ما عدا النساء. وكلمة حريم تعني الحرام والحرم في آن، أو المكان المقدس الذي يخضع الدخول إليه إلى قوانين محددة وصارمة. والحريم هو كذلك الفضاء الخاص المحظور على العموم وعلى غرار كلمة محظية ـــ أي courtisane بالفرنسية ــ يشمل الحريم في آن المكان والنساء اللواتي يعشن فيه ويملكهن رجل واحد هو الحامي والسيد».
أولت المرنيسي اهتماماً لموقع النساء الرئيسات المغمورات في التراث الإسلامي الذي يحاكي المنظومة البطريركية القهرية. تبدى ذلك في «سلطانات منسيّات»، حيث بحثت عن سلطاناتها، واستلت من التاريخ الإسلامي نساء مارسن السياسة والخلافة. سعت إلى الحفر عبر البحث الأركيولوجي في الذاكرة الجمعية العربية العاملة على إخفاء الدور السياسي لبعض النساء في التاريخ الإسلامي. وتساءلت: «لماذا لم تحمل أي امرأة مارست السلطة لقب الخليفة أو الإمام؟».
تعتبر المرنيسي من بين الباحثات الشرسات اللواتي قارعن المقدس الذكوري في التراث الإسلامي. ما طرحته منذ عقود يُعد فتحاً علمياً، وإن اصطبغ ــ أحياناً- بلغة استشراقية تخاطب القارئ الغربي. صحيح أن الدراسات الجندرية، والإسلام والمرأة، واللاهوت النسوي الإسلامي، والفقه النسوي المقارن، تجاوزت بعض خلاصات المرنيسي، وشهدت تطوراً ملحوظاً في العقدين الأخيرين على مستوى المناهج والخلاصات، ولا سيما لدى بعض العاملات في هذا المضمار كالمصرية ليلى أحمد، والتونسية رجاء بن سلامة، غير أنّ الأسبقية التي تسجل للمرنيسي تكمن في زعزعة الصورة المستقرة عن النساء في العقل الإسلامي الجمعي.
وفي ما يتعدى مقولة الورثة في حقل الدراسات النسوية العربية، يطرح الغياب المباغت لعالِمتنا سؤالاً حول تراجع الأدبيات المختصة في نقد الفكر الديني والفقه الذكوري في السنوات الأخيرة. ربما تسعفنا خلاصة المرنيسي «الإنسان الذي يرفض النقد لن يستطيع قط الترقي والسعي نحو الأكمل».
ريتا فرج
النسوية التي زعزعت «معبد الذكورية»
رحلت الكاتبة النسوية والباحثة السوسيولوجية المغربية فاطمة المرنيسي (1940-2015) أمس في الرباط، مخلفةً وراءها عشرات الكتب والمقالات التي رسخت لنقد الأنظمة الذكورية. تحدثت كثيراً في المحرّم منذ السبعينات، وفي الكثير من الأحيان، ألّبت عليها «حرّاس معبد الذكورية» وهي تكتب في السوسيولوجيا والنقد التاريخي، وتفكك البنيات الاجتماعية والسلطوية والجنسانية في علاقتها بالمرأة.
طيلة عقود، لم تتوقف مع حفنة من باحثات عربيات أخريات عن التأسيس لنسوية عربية جديدة، تمارس القطيعة مع الموروث الثقافي العربي الإسلامي من خلال قراءة جندرية للتاريخ والمجتمع. قراءة تخلصت في تجربة الأكاديمية المغربية من عقدة الغرب المتفوق الذي لم يسلم هو الآخر من انتقادها.
من حواري فاس الضيقة، ولدت في أربعينات القرن الماضي، حين كانت المرأة المغربية تعيش شرخاً بين الفضاء المنزلي والفضاء العام (الشارع، الأسواق...)، الذي يصير فانتازماً في أحاديث النساء عنه. ربما من هنا تشكلت أول التشريحات السوسيولوجية التي راقبتها عين المرنيسي. «مشاكلنا مع النصارى كما مع النساء تبدأ حين لا تحترم الحدود» بهذه الفكرة التي رددها والدها في طفولتها افتتحت كتابها «نساء على أجنحة الحلم» (1998) قبل أن تضيف «غير أن النساء كن مشغولات باختراق الحدود، مهووسات بالعالم الموجود خارج الأسوار». بين أمها ونساء العائلة والحي، والفضاءات الحميمة كالحمام الشعبي، والمدرسة الوطنية الحرة في فترة الحماية الفرنسية، تشكلت معالم الشخصية الأولى للباحثة التي تجاوزت دوماً الحدود. شخصية، احتاجت الصقل في مدارس الاستقلال، وفي الجامعات الفرنسية والأميركية، قبل أن تجد صوتها الفريد، انطلاقاً من الثمانينات، حين عادت إلى المغرب لتدريس السوسيولوجيا في «جامعة محمد الخامس» في الرباط. مسار أكاديمي نقلت فيه أهمية التحليل النقدي لوضع المرأة في المجتمعات البطريركية، إلى الجيل الجديد من الباحثين في العلوم الإنسانية. فككت البنيات الاجتماعية والسلطوية والجنسانية في علاقتها بالمرأة
طوال تجربتها الأكاديمية وحراكها داخل منظمات المجتمع المدني، أرادت المرنيسي أن تنفذ إلى حفريات تشكل صورة المرأة في المجتمعات الإسلامية انطلاقاً من التاريخ تارة، ومن المجتمع المحلي لبلدها المغرب طوراً. لم تتردد في التنقل في المغرب العميق، وقراه المعزولة عن المراكز، كي تفكك البنية القبلية والأسرية التي تعيد إنتاج نفسها وخطابها، عبر أشكال تتجدد، لكنها تحفظ «ماهيتها» التي تقصي المرأة. منذ كتابها عن «الحريم السياسي، النبي والنساء» (1987) إلى حكاياتها السير ذاتية «نساء على أجنحة الحلم» (1998) ومروراً بكتب قبلها وبعدها، آلت المثقفة المغربية أن تعطي صورة أخرى عن المرأة العربية. أن تعيد بناء صورة المرأة كفاعل في صناعة الشأن العام وداخل المجتمع، أغفلته الايديولوجيا الذكورية لمؤلفي سير الأمراء والملوك من خلال تدقيقها في سرديات التواريخ الكبرى لبلاد الإسلام.
لم تتردد الكاتبة في أن تقرن العمل الأكاديمي، بالنشاط داخل المجتمع المدني. هكذا نزعت مراراً قبعة الباحث الأكاديمي، وارتدت قبعة العامل الميداني الذي يتنقل، ويلتقي «الآخر»، المرأة هنا، لا كموضوع بحث فقط، بل كشريك في بناء المجتمع المستقبلي. هكذا أسست مع نسويات أخريات في الثمانينات منظمة أطلقن عليها «نساء، أسر، أطفال» التي أرادت الإسهام في نشر الوعي عند النساء، ليسهمن بدورهن في زعزعة جدار الذكورة، وبناء شخصية جديدة للأطفال، رجال ونساء المستقبل. أطلقت فكرة «القوافل المدنية» التي ذهبت للبحث عن النساء في عمق جبال الأطلس، حيث تصير استراتيجيات تدبر المعاش اليومي والبقاء، خيطاً ناظماً لمجتمعات القرى. وهو ما أوحى لها لاحقاً بكتاب «آيت سلّك» Les Aı̈t-Débrouille. إنها الرغبة في مد الجسور، مع جزء من النساء المنسيات.
ترجمت كتابات المرنيسي إلى الكثير من اللغات الأوروبية والآسيوية كاليابانية. وحصلت على اعتراف مهم في الأوساط الأكاديمية الفرنسية والأنغلو ساكسونية. كما نالت «جائزة أمير أستورياس» المرموقة مناصفة مع سوزان سونتاغ عام 2003. كيف لا وقد قدمت قراءة معاصرة للإرث الثقافي، مرتبطة بثقافة عربية عميقة، جعلتها تبحر في كتابات قامات مؤسِّسة للأدب والفكر العربيين. تظل الراحلة من قلة، استطاعوا أن ينتقدوا بحب، تراثنا العربي. لم تحمل النظرة الاستشراقية تجاه الموروث، بل عَرَّفَت بأهمية جزء مما طورته الذائقة العربية، كما هي الحال مع كتابها «الحب في بلاد الإسلام» (1984). في هذا الكتاب، تظهر كيف أن الحب في الثقافة العربية استحال ذائقة وضرورة لتملك المعرفة، كما هي الحال مع كتابات ابن حزم وشهاب الدين بن حجلة، والأنطاكي، وصولاً إلى الحب في الزمن الرقمي. شرّحت المرنيسي أعطاب الغرب أيضاً من النظرة العصابية إلى الحب إلى التحليلات الاستشراقية الحبلى بالفانتازم تجاه المرأة العربية. في «الحريم والغرب»، حللت الفروق بين النظرة العربية التي جعلت شهرزاد نموذجاً لقدرة المرأة على إنتاج الكلمة/ الخطاب الذي يحررها من بطش سيّاف الملك شهريار، وبين النظرة الغربية التي جعلت شهرزاد رمزاً شهوانياً وفانتازماً يحجّم المرأة في العالم العربي. وفي هذا قوة البحث العلمي عند الراحلة. إنه لم يتوقف يوماً عند الحدود الوهمية والأبنية المتسلطة.
محمد الخضيري
مداميك أساسية في كتاباتها المتمردة
حين صدر كتابها «الحريم السياسي: النبي والنساء» (1987)، كان بمثابة زلزال في الكتابة النسوية العربية. ها هي كاتبة عربية، تقتحم أسوار القلعة المحصّنة، وتطرح أكثر الأسئلة إشكالية، وخصوصاً تلك المتعلّقة بنساء النبي ودورهن في الحكم، بالإضافة إلى كشف المستور عن وقائع لطالما كانت تقع في باب المحرّمات مثل رفض الحجاب، وتعدّد الزوجات، والمساواة بين الجنسين.
هكذا، قلبت المرنيسي الطاولة رأساً على عقب في هتك يقينيات راسخة في التراث الإسلامي، لتجد نفسها في مواجهة اتهامات قاسية وصلت إلى حد التشهير بها. لكن صاحبة «سلطانات منسيات» (1990) لم تلتفت إلى الوراء، بل واصلت حفرياتها السوسيولوجية، وإضاءة المناطق المعتمة في التاريخ الإسلامي، وحجم الجور الذي طال المرأة في مجتمع ذكوري بامتياز. وتالياً، كيف لباحثة مثلها أن تزعزع صورة أبي هريرة، وتتساءل عن صحة الأحاديث النبوية التي جمعها، وفاق عددها 6 آلاف حديث، خلال ثلاث سنوات فقط، هي مدة مصاحبة أبي هريرة للنبي؟ اختارت المرنيسي مسطرة نقدية خاصة بها في استعادة وقائع نسوية مضادة وأطلقتها في الفضاء العام، ما أثار أكثر من زوبعة حول اشتغالاتها على فكرة الحريم، وإهدار حقوق المرأة في الإسلام، قبل أن تلتفت إلى «الحريم الأوروبي»، كما في كتابها «شهرزاد ترحل إلى الغرب» (2001). كأنها في اختيار شخصية شهرزاد، أرادت أن تستعيد الحق المهدور للنساء، ولو حكائياً، على أمل أن تشتل نبتة صغيرة في تربة الغد، مستعينة بأطروحات وافدة، ومرجعيات غربية في المقام الأول، ما أثار مآخذ كثيرة على توجهاتها النقدية والتشكيك بصحة استنتاجاتها المعرفية. نفض الغبار عن أوضاع النساء في مجتمع مغلق، ودعوتهن إلى الانعتاق من القيود الذكورية، ونسف فكرة الحريم الاستشراقية، مداميك أساسية في كتاباتها المتمردة، وربما المستفزّة، بقصد نبذ ما هو أسطوري وخرافي وسلفي في التفكير العربي الغارق في ركام التاريخ، من دون فحص أو مساءلة. لكن هل فشلت عالمة الاجتماع المغربية خلال سنواتها الأخيرة في ترسيخ مشروعها المضاد؟ على الأرجح أنها يئست من فتح كوة في النفق. الحجاب صار ظاهرة عربية، والفقه السلفي احتل الشاشات والكتب الصفراء وبيوت العبادة. هكذا لجأت أخيراً، إلى دوائر صغرى في المواجهة عبر إنشاء ورش للكتابة تتعلّق بموضوعات جريئة مثل الاغتصاب والتحرّش الجنسي، وأوضاع المعتقلين. كما انخرطت في تفعيل مشاريع المجتمع المدني، مكتفية بجماليات الهامش، وخلع رداء المناضلة النسوية، بعدما تمكّن خصومها من تحويلها إلى موضة عابرة، على غرار ما فعله تجاه كاتبة نسوية أخرى مثل نوال السعداوي. نظنّ أن نساء جيل الثمانينات اللواتي تأثرن بأفكارها في التمرّد، ينظرن اليوم بخفة إلى ألبوم صورهن آنذاك بنوع من الحنين، فهنّ اليوم محجّبات، ولا يتذكرن ماذا حل بتلك الكتب وعناوينها البرّاقة مثل «ما وراء الحجاب»، و«نساء على أجنحة الحلم». غابت فاطمة المرنيسي، فانتهى العرض، وأُغلقت القاعة.
خليل صويلح
ما وراء الحجاب
أقرب إلى عائشة التيموريّة وزينب فوّاز وهدى الشعراوي، منها إلى نوال السعداوي. هكذا دعتنا فاطمة المرنيسي في كل مناسبة أن ننظر في اتجاه آخر، غير ذاك المتعارف عليه، لدى الحديث عن خياراتها النسَويّة، ولدى مناقشة النسوية العربية في مواجهة التحديات الفكرية وضرورة التجدد واعادات النظر، وتفادي «العقم».
تلك المرأة الضخمة، الفارعة الطول، الجذلة، الساخرة، نسخة معاصرة من «الكاهنة» بعباءاتها الهادلة، «سلطانة» الجسد والحواس والعقل، عرّافة الناس الذين في أسفل الهرم. «مغربها» مغرب الناس العاديين المستغلين، والنساء اللواتي منحتهن حق التعبير («المغرب عبر نسائه»). ابنة العائلة المتديّنة، والبورجوازية الفاسية التي بدأت رحلتها العلميّة من مدارس «الحركة الوطنيّة» المغربيّة، خارج وصاية الاستعمار الفرنسي، العاشقة على طريقة ابن حزم الأندلسي، وريثة قاسم أمين، شريكة محمد أركون ومحمد عابد الجابري ونصر حامد أبو زيد وسائر العقلانيين العرب. هناك كانت تحبّ أن تكون، وهنا يجب أن نضعها اليوم باعتزاز… كلا لم تكن يوماً في حرب جنسيّة أو جندريّة، ولم تصوب سهامها ضد الرجل، لم تقارعه بحقد دونيّ، ولم تحاول تقليده ومسخه وسرقة جذوة النار المقدسة من يده… عالمة الاجتماع والكاتبة المغربيّة التي رحلت بالأمس في الرباط عن 75 عاماً، على فرادتها وتمايزها في الثقافة المغاربية والعربيّة المعاصرة، كانت منذ دراستها الأولى «ما وراء الحجاب» (1975)، في حرب على المنظومة السلطويّة، وآلة الاستغلال الماكرة التي تسحق الضعفاء، وتستغلهم، وتنفي عنهم انسانتيهم وحقوقهم وهويّتهم وكرامتهم وحقّهم في الاختيار. فعلت ذلك انطلاقاً من الحلقة الأضعف في النمط الاجتماعي… أي المرأة. كلا لم تقع صاحبة «الحريم السياسي» يوماً في المطبّ الاستشراقي الذي ما زال حتّى اليوم يفخّخ الجزء الرسمي والمكرّس والمرحّب به في الغرب، من الخطاب الفكري «التقدمي» المهيمن عندنا. ذاك الفكر، من شروطه كره الذات، رفض الحضارة العربيّة - الاسلاميّة جملة وتفصيلاً، واعتبار الدين الاسلامي أصل البلاء، والعلّة العميقة التي تعيق التقدّم، وتحدد شروط استعباد المرأة واستلابها… مشروع المرنيسي الفكري والاجتماعي، مشروع أركيولوجي قام على الانتماء إلى التربة الأصليّة، على الحفر في التراث الفكري والديني الاسلامي، لحصر العيوب ونقاط الضعف والعوائق، مع التأكيد على الصورة الايجابية للمرأة وحقوقها وموقعها في سلوك المؤسسين وقياساً إلى النص المرجعي. هذه الصورة التي صودرت من التاريخ الرسمي (الذكوري)، وتلك الحقوق التي طمستها السلطة الاجتماعية والسياسية، اشتغلت المرنيسي على استعادتها من خلال فضح الآليات السلطوية. لم تتردد هذه المناضلة النسوية المغايرة أمام المحظورات، ولم تخف كشف المسكوت عنه، وتناول «المحرّم»، وتحدي النظام البطريركي. قامت كل تجربتها على فكرة تجاوز الحدود: حدود الحريم الذي عرفته صغيرة وخصصت له رواية أوتوبيوغرافيّة بعنوان «أحلام النساء - طفولة في الحريم» والحدود التي تضعها السلطة المهيمنة لمحاصرة الفكر النقدي. هكذا درست «الحب في بلاد المسلمين»، و«الجنس والأيديولوجيا والإسلام»، و«الاسلام والحداثة: الخوف من الديمقراطيّة»، «شهرزاد ليست مغربية» واعادت الاعتبار إلى «السلطانات المنسيات» في تاريخنا العربي - الاسلامي. حين مُنعت كتبها في المغرب، نشرتها بلغات أخرى في عواصم «الاستعمار» القديم، لكنّها لم تمالئ الغرب ولم تنظر إليه بدونيّة، بل انتهرته: «هل أنتم محصّنون ضدّ الحريم؟». مؤلفاتها حلقات في مشروع تمرّد من داخل الواقع المغربي والعربي والاسلامي، وتجاوز لتلك الحدود القسرية التي يفرضها عالم الحريم، وبنيته الذهنيّة. لنقل «ذهنيّة الحريم»، وهو مصطلح غير بعيد عن «ذهنيّة التحريم» التي فككها صادق جلال العظم بعد محنة «الآيات الشيطانيّة».
بلى، «شهرزاد مغربيّة»، إنها فاطمة المرنيسي. مؤسسة النسَويّة الأخرى، والمثقفة العضويّة التي انتمت إلى أبناء الشعب، وأسست «القوافل المدنيّة». عالمة الاجتماع التي حازت «جائزة إراسموس» الهولندية (2004، مثالثة مع صادق جلال العظم وعبد الكريم سوروش، وكان محور الجائزة عامذاك «الدين والحداثة»)، تركت التعليم منذ عقد لتتفرّغ لحياتها مع الناس، وهي الوجه الفعلي لحياتها، كما لأبحاثها. سلطانة لن ننساها، علّمتنا أن نمعن النظر دائماً «ما وراء الحجاب».
بيار أبي صعب
سيرة
في مدينة فاس، ولدت فاطمة المرنيسي عام 1940 لعائلة بورجوازية محافظة ومقرّبة من الحركة الوطنية المناهضة للاستعمار الفرنسي. وبفضل المدارس الحرة التابعة للحركة الوطنية، حظيت بحق التعليم في عهد الاحتلال الفرنسي. لاحقاً، واصلت تعليمها في الرباط قبل أن تنتقل إلى «جامعة السوربون» في باريس لدراسة العلوم السياسية، ثم إلى أميركا حيث حازت شهادة الدكتوراه.
عادت المرنيسي إلى المغرب، حيث عملت باحثة في «المعهد القومي للبحث العلمي» في الرباط، ومدرسة للعلوم الاجتماعية في «كلية الآداب والعلوم الإنسانية» («جامعة محمد الخامس في الرباط») بين عامي 1974 و1981، وعضواً في مجلس «جامعة الأمم المتحدة». في الثمانينيات أيضاً، أسهمت في إطلاق تجمع «نساء، أسر، أطفال»، لنشر الوعي بين النساء. ومن أجل حقوق المرأة في جبال الأطلس، أطلقت مبادرة جماعية تحمل اسم «قوافل مدنية». في مؤلفاتها ودراساتها التي كتبتها باللغة الفرنسية، وانتقلت إلى لغات عدة؛ من بينها العربية والإنكليزية، وظفت المرنيسي آليات المعرفة المنهجية لتفكيك جذور الأنماط الاجتماعية التقليدية، مستندة بذلك إلى قراءة نقدية للتاريخ العربي الإسلامي. مقاربة القيود الدينية لمكانة المرأة ووظيفتها، أكان عبر النصوص الإسلامية، أم من خلال نقد الأدبيات الفقهية، شكلت ركائز أساسية في أعمالها. وقد سيطرت عناوين الجنس وتوزيع السلطة في الفضاء الاجتماعي، ودور المرأة في التاريخ الإسلامي على كتبها «الحريم السياسي»، و«ما وراء الحجاب ــ الجنس كهندسة اجتماعية»، و«الجنس والأيديولوجيا والإسلام»، و«الإسلام والديموقراطية». أما آراؤها ومؤلفاتها التي أثارت جدلاً عربياً واسعاً، فتعد مرجعاً أساسياً لا للحركة النسائية المغاربية والعربية فحسب، بل الغربية أيضاً من خلال «هل أنتم محصنون ضد الحريم؟»، الذي كشفت فيه عن العبودية المقنعة في الغرب واستخدام المرأة كسلعة. في أيار (مايو) عام 2003، حصلت المرنيسي على «جائزة أمير أستورياس للأدب» الإسبانية مناصفة مع الناقدة الأميركية الراحلة سوزان سونتاغ، ونالت عام 2004 جائزة «إراسموس» مع المفكر السوري صادق جلال العظم والإيراني عبد الكريم سوروش، حول محور «الدين والحداثة». كذلك اختيرت عضواً في «لجنة الحكماء لحوار الحضارات» التي شكلتها اللجنة الأوروبية برئاسة رومانو برودي. قبل أسبوع، حضرت المرنيسي لقاء نظمته جمعية «جمع المؤنث» في الرباط حول كتابها الجديد «روضة المحبين» (دار مرسم)، وكانت لا تزال تملك الاندفاع نفسه قبل أن تنطفئ أمس في الرباط بعد معاناة مع المرض وتوارى في ثرى مقبرة سيدي مسعود.
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد