«جند الأقصى» يبايع «فتح الشام»: حقن للدماء.. أم فتنة جديدة؟
يمكن رصدُ البيعة العاجلة التي قدّمها قائد «جند الأقصى» إلى قائد «جبهة فتح الشام» («جبهة النصرة» سابقاً) أبي محمد الجولاني بأنها إما نتاجُ صفقةٍ سريعة تدخلت لإتمامها بعض الأطراف الاقليمية التي تخشى من انهيار جبهتي حلب وحماه مع الجيش السوري، خصوصاً في ظلّ التصعيد الدولي الحاصل على خلفية تقدم الجيش في أحياء حلب الشرقية، أو أنها مقدمةٌ لتطورات كبيرة ستطرأ على المشهد «الجهادي» في سوريا، قد لا يكون أقلُّها احتمال نشوب صراع مسلح بين «أحرار الشام» و «جبهة النصرة»، ليشكل ذلك الحلقة الأخيرة في سلسلة «الفتن الجهادية».
وأعلن «جند الأقصى»، أمس، مبايعته لـ «فتح الشام»، وذلك «حقناً للدماء، وتجاوزاً للاقتتال الحاصل بيننا وبين أحرار الشام»، بحسب ما ورد في بيان مشترك وقّع عليه كلّ من أبو دياب السرميني، قائد «جند الأقصى»، وأبو محمد الجولاني قائد «فتح الشام». ونوّه البيان إلى أن «حل القضايا العالقة نتيجة الخلاف الأخير مع أحرار الشام يُحال إلى قضاء شرعي يُتفق بخصوصه مع فتح الشام».
وقد أدّى تغييرُ الحركة لموقفها من الإصرار على «استئصال الجند»، والذي لاقى إجماعاً نادراً حتى من القيادات المحسوبة على التيار «القاعدي» فيها، مثل أبي صالح الطحان، إلى موقف أكثر مرونة تضمن إصدار بيان بمشاركة بعض الفصائل الأخرى تضع فيه شروطاً لحل الخلاف وإحالته إلى محكمة مستقلة، وصولا إلى سريان اعتقاد بأن البيعة جاءت نتيجة اتفاق بين الأطراف لتسوية الخلافات بينها ووقف الاقتتال. وعزّز من ذلك تصريحات عبد الله المحيسني، قاضي عام «جيش الفتح» حول موافقة أبي أنس سراقب، أحد مؤسسي «أحرار الشام» والمفاوض باسمها، لحل الخلاف على مقترح يقضي بحلّ «جند الأقصى»، وفتح الباب أمام عناصرها للانضمام، من دون توضيح إلى أي جهة يكون الانضمام، وهو ما أكده أيضاً حسام الشافعي، المتحدث باسم «جبهة النصرة»، لكن دون أن يدخل في الأسماء والتفاصيل، مكتفياً بالإشارة إلى أن البيعة تمت بعد مشاورات مع «الأحرار».
لكن هذا الاعتقاد تحولّ إلى حالة من التخبط سادت مختلف صفوف الفصائل لدى خروج المتحدث الرسمي باسم «احرار الشام»، نافياً صحة ما أشيع حول موافقة الأحرار أو استشارتهم بخصوص البيعة. وشدد على أن «قرار استئصالهم (جند الأقصى) اتخذته أحرار الشام بالاشتراك مع باقي الفصائل الثورية ، ولن نتوقف عن واجب ابتدأناه معاً»، وهو ما أكده أيضاً عدد من قيادات الحركة، من أبرزهم المتحدث العسكري باسمها أبو يوسف المهاجر، وعمران أبو الحارث مسؤول العلاقات الاعلامية وعضو المكتب السياسي. وجاء تهجم أبي العباس الشامي على «جبهة النصرة» لقبولها البيعة، ليزيد من الشكوك حول ما يجري، خصوصاً أن الرجل يعتبر بمثابة الأب الروحي للحركة، وأحد قدامى مؤسسيها، وله نفوذ واسع داخلها.
أما على الأرض في محافظة إدلب، فقد استمرت المواجهات بين «أحرار الشام» و «جند الأقصى» في عدد من المناطق، أهمها حيش وقميناس وسرمين. وسقط جراء هذه الاشتباكات عدد من القتلى من «الأحرار»، أبرزهم عبد الله النعسان القائد العسكري لـ «لواء التمكين»، وسط محاولات جادة قام بها «لواء جند السنة» بقيادة حسام أبو بكر، لاقتحام بلدة سرمين التي تُعدّ المعقل الأبرز للجند في محيط إدلب. كما أكد محمد الفريد، القائد العسكري لـ «لواء العاديات»، أنه متجه نحو خان شيخون وما حولها، مشيراً في تغريدة على «تويتر» أنه وفصيله «ماضون على ما نحن عليه في الاستئصال حتى يأتي الأمر من قيادتنا بالتوقف». وتشير هذه المعطيات إلى أن الجوّ العام داخل الجناح العسكري في «أحرار الشام» بعيدٌ كل البعد عن مناخ الاتفاق أو الصفقة، وهو ما يضفي مزيداً من الغموض على الموقف، خصوصاً في ظل الصمت المطبق الذي لاذ به قادة الصف الأول من «أحرار الشام».
والأرجح أن «جبهة النصرة» عمدت إلى خداع «أحرار الشام» في المفاوضات التي جرت بينهما لإيجاد حلّ للخلاف مع «جند الأقصى». إذ كانت المفاوضات تتحدث عن «حلّ جند الأقصى وتفكيكه»، بحسب مصدر مقرب من «أحرار الشام»، لكن «جبهة النصرة» فسّرت الأمر بما يناسبها، واعتبرت أن بيعة الجند لها بمثابة الحل والتفكيك، فأرادت وضع «أحرار الشام» أمام الأمر الواقع عبر نشر بيان البيعة، مستبعدةً أن تقوم «الأحرار» بأي رد فعل عنيف مع «الجند» بعد أن اصبحت جزءاً منها.
وقد كسبت «جبهة النصرة» من هذه البيعة انضمام حوالي ألفي مسلح، نصفهم تقريباً من «المقاتلين الأجانب» إلى صفوفها، لتصبح بذلك أقوى قوة عسكرية بين الفصائل المسلحة، متفوقة حتى على «أحرار الشام» التي وصفت نفسها منذ يومين بأنها «الفصيل الأكبر» في بيان الرد على «جند الأقصى». لكن هذه البيعة من شأنها في المقابل أن تُعرّض «النصرة» إلى العديد من المخاطر والتحديات، أهمها أن «جند الأقصى» مصنفٌ مثلها على قائمة الارهاب الدولية، وبالتالي، فهي بهذه الخطوة تخاطر بإلغاء جميع المفاعيل الايجابية التي نجمت عن فكّ الارتباط مع «القاعدة»، كما أنها تكون قد عرّت نفسها مجدداً أمام بعض الدول التي طالما حاولت إلباسها ثوب الاعتدال، لتجنيبها القصف الروسي، وسوف تكون ذريعة روسيا لقصف «النصرة» اقوى بعد هذه البيعة، لا سيما أن واشنطن لم يمض على تصنيفها «الجند» على قائمة الارهاب سوى 20 يوماً.
لكن الأمر قد لا يتوقف عند القصف الروسي أو غيره، بل إن علاقة «النصرة» مع «أحرار الشام» باتت مهددة وعلى المحك أكثر من أي وقت مضى. وفي حال أصرّ بعض القادة العسكريين في «أحرار الشام» على قتال «جند الأقصى» في مناطق إدلب حتى بعد استظلالهم بالبيعة الجولانية، فإن هذا قد يكون شرارة لاندلاع قتال مباشر بين «أحرار الشام» وبين «جبهة النصرة»، الأمر الذي من شأنه أن يشعل المشهد «الجهادي» برمته في سوريا، ناهيك عن تفكك «جيش الفتح» الذي يعد القوة العسكرية الأكبر ضد الجيش السوري، بالإضافة إلى ما سيؤول إليه الحال في محافظة إدلب من فوضى عارمة نتيجة الاقتتال بين الطرفين اللذين يتوليان إدارتها.
لذلك قد تكون خطورة هذه التداعيات هي التي حملت قادة الصف الأول في «أحرار الشام» على الصمت مرغمين. وذلك لسببين: الأول الإحراج الذي ستشعر به قيادة الحركة أمام أنصارها في حال أعربت عن قبولها للبيعة، ما يعني بيع دماء قادتها الذين قتلوا في المواجهات مع «الجند»، والثاني الخوف من تصاعد الخلاف مع «جبهة النصرة» وانزلاقه إلى حروب ضروس قد لا تبقي ولا تذر، مفضلة عوضاً عن ذلك الاستمرار في مواجهات عادية مع جماعات «الجند» المحاصرين في بعض مناطق إدلب في محاولة للقول إنها لم تتراجع عن سياسة الاستئصال، مع مواصلة التفاوض مع «جبهة النصرة» لإيجاد مخرج من هذه الورطة يناسب كليهما.
عبد الله سليمان علي
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد