خليل درويش: مركب الأحزان
كأن حياته فيلم سينمائي لا يخرج من صالة عرضه حتى يعود إليها، فبين الحانة والمقهى والمسرح وفي دهليز الحارة الشامية يتفقد خليل درويش (دمشق، 1967) أماكنه الأولى عند مصعد جبل قاسيون، مشرفاً على مدينة لم يعُد يعرفها بعد رحيل معظم ندماء العمر، وهجرة البعض الآخر فوق قارعة المنافي. هو الرجل الذي ولد في عام الهزيمة لأسرةٍ مكوّنةٍ من أبٍ متطوّع في الجيش (إبراهيم) وأمٍ (فوزة) ربيا عشرة أبناء جاء هو ثالثهم بعد فتاتين؛ ففي غياب ربِّ الأسرة الطويل على جبهات القتال البعيدة كانت العائلة التي جاءت من بلدة «مو حسن» (20 كم شرقي دير الزور) منذ ستينيات القرن الفائت لتقيم في «حي الأكراد» (ركن الدين) أسوةً بجميع القادمين من الأرياف البعيدة لنيل فرصة عمل في عاصمة البلاد.
المرة الأولى التي سيذهب فيها خليل إلى مسقط رأسه كانت في أثناء «حرب تشرين» (1973)؛ عندما أرسل الأب المحارب عائلته لتقضي أيام معركة أكتوبر في «موسكو الصغرى» (لقب «مو حسن») التي اشتهرت به لكثرة شبابها المنظمين في صفوف الحزب الشيوعي. وقتها اكتشف ذلك الطفل (الفرا) نهره الكبير بعد أن كان قد تدرّب على السباحة في نهر «يزيد» أحد فروع نهر بردى السبعة، وما إن رأى الفرات حتى ناداه طميه الحنون: أن اقفز إلى أحضاني. رحلة كان يقطعها ركوباً على حمار برفقة صبايا القرية اللاتي كُنّ يصطحبنه في نزهة ورودهن الماء، ليتركنه بعد ذلك يسرح بخياله مع طيور وحيوانات وأسماك الفرات الساحرة، منقّلاً بصره الطفل على قوارب الصيادين وأهازيجهم الشعبية.
آخر مرة زار فيها «الدير» كانت في شهر آب من عام 2011: «لحسن حظي أنني تمشيتُ على الجسر المعلّق، وسهرتُ مع الأصدقاء في مطعم «الشرداق» لكنني اليوم حزين، إذ لا أعتقد بأنني سأسكر مرةً أخرى على شط نهري الضليل». تغيّر الظرف الآن، يقول: « دمّرت الحرب كلّ شيء، وقتل «داعش» صديقي الشاعر بشير العاني، لقد ذبحوه مرتين، الأولى عندما ذبحوا ابنه أمام عينيه، والثانية عندما ذبحوه على مقربة من النهر الذي كتب له ديوانه (حوذيّ الجهات)».
سلطان العارفين
أتمّ الصبي المرحلة الابتدائية في «مدرسة محي الدين بن عربي»، ويا له من اسم لائق لمدرسة، يقول مضيفاً: «لا زلت حتى الآن أمرّ بقربها مستذكراً تلك الأيام. أعتقد أنني أنتمي لآخر جيل حظيَ بمدرّسين محترمين». «سلطان العارفين» ترك في نفس الفتى الصغير أثراً لن يُمحى، طابعاً شخصيته بتصوفٍ لم يجعله زاهداً تقليدياً بقدر ما وضعه في قلب تجربة الحياة الكثيفة التي عاشها بعد نيله شهادة البكالوريا.
مقصورة في قطار دمشق ـ حلب ستأخذه لدراسة «المعهد الهندسي» في عاصمة الشمال السوري: «كان أحلى طريق يسلكه قطار في العالم، نزهة مشتاق كنتُ أُمضيها برفقة قهوتي وسجائري طوال الرحلة، فلقد لعبها الكومبيوتر معي هذه المرة، وكانت أجمل لعبة، فعبر المفاضلة الإلكترونية أرسلني الحاسوب إلى حلب».
بين أحياء «الميدان» و«بستان الباشا» و«السريان القديم» في مدينة الشهباء، قضى الشاب الطالع إلى معمعة الحياة «أجمل أربع سنوات في حياتي»، منخرطاً في أنشطة اليسار، وذلك بعد أن كان قد انتسب إلى الحزب الشيوعي السوري وهو ما يزال غريراً، ليحضر أول اجتماع للحزب في بيت المترجم الدمشقي نذير جزماتي، ومن ثم ليقوم كرفيق قرأ لينين وستالين وغرامشي، بتوزيع «المناشير» بين حلب ودير الزور ودمشق: «في الثمانينيات كان هناك حضور للنقابات وتجمّعات الشغيلة، فاليسار كان له دور في حياة الناس، لكن للأسف وقعت الصدمة مع انهيار الاتحاد السوفياتي وحوادث الأخوان، فتمّت تصفية وتجريف اليساريين لصالح قوى أخرى من ليبراليين وليبراليين جدد وحركات إسلام سياسي؛ احتلت المشهد اليوم في غير بلد عربي، بعد أن أخذت دعماً كاملاً لإحلال الرايات السوداء بدلاً من الأعلام الحمراء ذات المنجل والمطرقة»!
الفكر اليساري لم يقتصر لدى الشاب على ميدان العمل الحزبي، بل تعدّاه إلى نقاشات مباشرة في الثقافة والفنون والاقتصاد والفلسفة، فقد اهتدى درويش وقتذاك إلى منتديات فكرية كانت تقام أسبوعياً في بيوتات حلب، جامعةً إيّاه ـ هو الأصغر سناً بينهم ـ مع كلٍ من عبد الرزاق عيد وجمال باروت ومحمود الساجر ووليد إخلاصي وفؤاد مرعي. جدليات فكرية كانت بمثابة بذرة لطليعة تمرّدت على السائد، حايثها درويش مع زملاء الجامعة في «ملتقى الشعراء الشباب السنوي» بكلية الآداب، مع كل من محمد فؤاد، حسين بن حمزة، خالد خليفة، عمر قدور، لقمان ديركي، صلاح داوود، مها بكر. جيل شعراء الثمانينيات الحلبي حاول التقاط أدواته من قراءة مغايرة للنص وكتابة اعتمدت قصيدة النثر بمثابة «مانفيستو» ثوري نشد حياةً أكثر عدلاً ومساواة وتحرراً.
العودة إلى دمشق
عام 1993 عاد إلى دمشق، ليتمّ تعيينه في وزارة المواصلات كمشرف فني على أعمدة الإنارة الخاصة بطريق المطار. المكان الذي سيصيغ على ضفتيه حانةً لأصدقائه، محيلاً كُتلاً من البيتون المسلّح إلى كراسي وطاولة كيفما اتفق، زرع قربها دالية عنب وشجرة مشمش شاميتين؛ مرتجلاً مكاناً لسهراته مع كلٍ من شاكر الأنباري، يعرب العيسى، غازي سلامة، أحمد كنعان، خليل صويلح. وسيكتب هذا الأخير عن مجالساته مع درويش فصلاً كاملاً في روايته «دع عنكَ لومي» مُقارباً في مفارقة روائية سيّد مَن غنّى: «يابو ردين يابو ردانا» صادحاً بحنجرته العذبة أغنية ذياب مشهور، كلازمة شهيرة لكل مَن عرف هذا الرجل عن قرب.
مساحةً للبوح اخترعها بدون أن تحول الوظيفة الرسمية من إكمال نمط حياته، والذي سيصبح من الآن وصاعداً أسلوباً يومياً في مزاولة هوايته كنديم مزمن على طاولات عامرة في حانات «فريدي» و «القنديل» و «العمال» مسترشداً بأغنيات ومواويل كل من ناظم الغزالي وإياس خضر وحسين نعمة ورياض أحمد.
هكذا أصبح الشاب الفراتي وجهاً من الوجوه الدائمة على ليالي العاصمة، وظريفاً من ظرفائها القلائل الذين ما زالوا حتى اليوم يجوبون شوارعها ليلاً بحثاً عن مدينة لم تعُد كما كانت، فقد تعتعها السُكْرُ، وأعياها جمَامُ الكأس ومن ثم فراغُها من أصحابها الراحلين عنها. يسرد خليل قصته مع رفاق العمر: «هناك عند ساحة المحافظة وعلى طاولة في مطعم «الريس» كنّا نجتمع طوال عشرين عاماً، أنا وبرهان بخاري، ولؤي عيادة، وطارق حريب، ومحمد جومر، وأبو عدنان داغستاني، ومحمد بخاري الموريتاني وعاشق الشام الأول، وطبعاً حبيب قلبي عادل حديدي. ظرفاء كانت لا تستوي الجلسة بدونهم. هؤلاء اللمّاحون أنقياء القلوب، ماتوا جميعهم مكتئبين أو حزانى من حربٍ منعتهم من مغادرة منازلهم نحو طاولاتهم في حانات باب توما و(بارات) باب شرقي». كنا قد أرسينا تقليداً لتلك الطاولة، يوضح: «كان كلّما مات واحدٌ من ركاب قارب الأحزان هذا، نأتي في اليوم التالي لنشعل شمعةً ونصبُّ كأساً له قبالة كرسيّه الفارغ، ثم نشرب بصحته حتى الصباح! اليوم لم يتبقَ سواي على متن مركب الأحزان».
الحانة لدى هذا الرجل لم تكن خمّارة تقليدية، بل حضرت بمعناها الثقافي كمكانٍ للقاء يومي أفرز تياراته وأفكاره ورؤاه، حيث اختفت هذه الأماكن تقريباً من شوارع العاصمة السورية هي ومرتاديها من أهل الفن والثقافة، والذين كان من أبرزهم ممدوح عدوان، وصلحي الوادي، وعلي الجندي، ودعد حداد، ونجاة قصاب حسن، وآخرون. يطلق درويش على طاولته في الحانة اسم: «مركب الأحزان» والذي كان قد استقاه من كتابته لزاوية في جريدة «الدومري» حملت عنوان: «أبو عدنان في مركب الأحزان»: «كتبتها في العدد الافتتاحي فقط، ثم أوقفها القائمون على الجريدة من دون سببٍ يُذكَر».
الشعر المؤجّل؟
العديد من الأمسيات الشعرية حفلت بقراءاته، لكنه عام 1997 سيفاجأ الجميع في أمسية مشتركة له مع فارس البحرة في «المركز الثقافي الفرنسي» وذلك عندما قرأ خليل لكل من لقمان ديركي وعلي سفر وحكيم مرزوقي، قبل أن يلقي للحضور من أشعاره. في عام 2010 كتب قصيدة طالب فيها بـ «حق العودة» إلى غاليري وبار «نينار»: «من أيام فقط نظرتُ هناك إلى ظلال مَن غادروا، وتساءلت في سري: يا تُرى هل سيعودون؟ من فترة قصيرة سافرتُ إلى بيروت وهناك التقيت ببعضهم، وحين قلتُ لهم إنني عائد إلى الشام، استغربوا الأمر وقالوا لي: «وهل ستعود فقط لتجلس في تلك الزاوية من نينار»؟ قلت لهم: «صحيح أن المكان لديّ هو الناس، إلا أن مدينتي الناعمة أصبحت اليوم ذاكرتي الشخصية. لهذا تُراني الآن أجلس وحدي في بار (فندق أمية) مستحضراً الأيام والوجوه الغائبة، ويُسعدني اتصال هاتفي من بيروت، ليطلّ صوت اسكندر حبش فنغنّي ونرقص، نقرع الكؤوس ونضحك، فتضحك معنا سماعة الهاتف المحمول».
لم تشدّني مساحة «الفايس بوك»، يعقب «الرجل الأحزن»: «الأصدقاء هم ندماء الطاولة، أما «الفايس بوك» فهو مثل النجوم الآفلين على التلفزيون، من أول كبسة زر على «الريموت كنترول» يتبخّرون. «الفيسبوكي»، كذلك يُشبههم، فهو نجمٌ ينطفئ من أول «لايك»! يا أخي ما الذي تشكو منه الأرض؟ الأرض قصيدةٌ لقدميّ، أتهجّاها روحاً روحاً، حرفاً حرفاً».
أماكن ووجوه تغصّ بها ذاكرة الرجل الخمسيني، ففي قصيدته «رواقيات» نقرأ سجلاً كاملاً من أسماء عديدة لرواد غاليري وبار «الرواق العربي» بحيّ «العفيف»، والذي أصبح راهناً قهوة ثرثرة ونراجيل: «كتبتُ عن هالة الفيصل وناصر النعساني وكذلك عن مصطفى الحلاج الرسام الفلسطيني الذي احترق في مرسمه: «والحلاج مصطفى، يسوّي بياضَ لحيته وسادةً لأنثى، ويبعثرُ سنينه القادمات، بقدمي طفلٍ يُحبُ الرقص والألوان».
نشر درويش في الصحافة بشكل متقطّع مقالات على صفحات كلّ من «الحياة» و «السفير» و «تشرين الأسبوعي»، وبرغم كتابته لعشرات النصوص الشعرية، إلا أنه حتى اليوم لم يُصْدِر مجموعته المُنتظرة: «على ارتفاع شبرٍ من الحياة» والتي يُخبرنا أنه بصدد تجميع نصوصها وتهيئتها للطباعة، لكنه في الوقت ذاته لم يتوقف عن ممارسة ولعه بالتشكيل، إذ يرسم يومياً على كلّ ما تقع عليه يداه من صحون وورق ومناديل. كما ساهم في الإعداد لعروض مسرحية مع سوسن دروزة، كان أبرزها «مصابة بالوضوح» (2004) و «الخبز اليومي» (2006). تجربة خاضها بروحٍ عالية من الشغف مع كلّ من نادر عمران، وخالد الطريفي، وأحمد المغربي، وجمانة مصطفى. نجوم فرقة ومهرجان «لفوانيس» الأردني.
شراكته امتدّت فيما بعد مع المخرجة الأردنية دروزة في مجال الفيلم الوثائقي أيضاً، ليُنجزا معاً أشرطة لصالح قناة «الجزيرة» وشبكة «الأوربت» كان أهمها بورتريهات عن شخصيات فنيّة وثقافية سورية وعربية كان منها: عمر أميرالاي، أسامة محمد، إميلي نصر الله، موفق قات، عبد السلام العجيلي.
يعمل خليل اليوم مع كلّ من الصحافي سالار أوسي والفنان باسم صباغ والشاعر أحمد بغدادي على تحقيق كتاب شعري مشترك بعنوان: «شقة في الطابق الرابع»، يسجلون فيه ما يشبه مدوّنة عن يوميات الحرب: «لن أترك هذا المكان برغم أنه محزن، ما زال لديّ أمل مع أن المنطق يقول إن قصتنا طويلة وطويلة جداً، لكنني لن أغادر رغم أن الأرصفة تغيّرت، ورغم أن الأصدقاء رحلوا. عادل حديدي كان فقده كارثياً على حياتي. كان دائماً يقول لي: «يا خليل، إياك أن تبدأ من حيث انتهينا»! ولهذا سأنفّذ وصيتك يا صديقي، وسأعمل من اليوم على إصدار كتاب شعري وآخر قصصي، وثالث روائي، وسأقيمُ معرضاً لرسوماتي، وطبعاً، سأكتب فيلماً وسأؤلّف مسرحية و»يا حمد مُرّ متل ما مرينا»!
سامر محمد اسماعيل
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد