ملحم بركات... من بعدك لمين ؟
توفي الموسيقار ملحم بركات بعد صراع مع المرض في مستشفى "أوتيل ديو" عن عمر يناهز الـ71 عامًا. أكّد الشاعر نزار فرنسيس، الذي كتب لبركات أشهر أغانيه، الخبر عبر حسابه على "تويتر": "رفيق عمري راح.. نفسي حزينة حتى الموت..".
ولد الموسيقار في بلدة كفرشيما، ترك المدرسة وقرر الإلتحاق بالمعهد الوطني للموسيقى. لقي تشجيعًا من حليم الرومي وفيلمون وهبي الذي ربطته علاقة وثيقة به وبالمحلن ايلي شويري.
توجّهه نحو مسرح الأخوين رحباني فلعب دور البطولة في مسرحيات "الأميرة زمرّد" و"الربيع السابع" و"مشيت بطريقي". قدّم أولى ألحانه في ثنائي "بلغي كل مواعيدي" مع جورجيت صايغ. كما لحّن أغاني مسرحية "حلوة كتير" لصباح، ومن بينها: "المجوز ألله يزيدو"، و"صادفني كحيل العين"، و"ليش لهلق سهرانين".
قدّم ألحانًا لعدد من المطربين منهم وديع الصافي، وصباح، وسميرة توفيق وماجدة الرومي، ووليد توفيق. قدّم مئات الاعمال الفنية، طبع من خلالها الأغنية اللبنانية أشهرها: "على بابي واقف قمرين"، "جيت بوقتك"، "العذاب يا حبيبي"، "حبيتك وبحبك"، "موعدنا أرضك يا بلدنا".
السفير
«أبو مجد»: سليط اللسان، كبير القلب، رهيف الموهبة
الموسيقار... أبو مجد، وأيضاً ملحم بركات (1945 ــــ 2016). الاسم لا يعني شخصاً، بل هو يشير إلى ظاهرة، ويختصر تجربة فنية نادرة، ويحيل إلى موهبة إبداعية فائقة التمايز. الرجل الصاخب، الذي لا يتكلم إلا ليثير زوبعة، والفنان الاستثنائي الذي لا يغني إلا لتصير أغنيته حدثاً عصيّاً على التغاضي، هو أيضاً الكائن البشري المتمرد الذي تشبثت به الحياة كثيراً وعاندت طويلاً قبل أن تسلمه أمس للغياب في «أوتيل ديو» حيث احتشد محبوه وعشاقه أمام باب المستشفى.
احتاج أبو مجد إلى كمّ هائل من طيبة القلب، وسماحة المحيا، وبراءة الطوية حتى يكون محبوباً بقدر ما كان. أمكن لطفولته المقيمة أن تجعل الآخرين يمنحونه من المغفرة ما كانوا يضنّون به على سواه. لم يسلم أحد من سلاطة اللسان الناري، الذي كان أقرب إلى سوط جلاد محترف، لكنّ أحداً لم يسعه أن يحمل الأمر على محمل الضغينة. كان يكفي لذلك الثغر المخاتل أن يفترّ عن ابتسامة لعوب، حتى يصير العتب شيئاً من الماضي، وتتحول الإساءة المفترضة إلى طرفة غير مسبوقة. لم يبد ملحم بركات يوماً أنيقاً في حديثه، لكنه كان ــ على الدوام ــ بارعاً في استيلاد الضحكة البكر من الشفاه المقترة واستنباتها في الملامح المتجهمة. كان لديه من الحبّ ما يكفي لأن يصيب حتى أعداءه النادرين بعدواه المباركة.
في 15 آب (أغسطس) عام 1945، ولد ملحم بركات في كفرشيما. كان والده النجار يمضي أوقات فراغه بالعزف على آلة العود، وكان الصبي الممتلئ بالموهبة، ينتظر غياب أبيه حتى يتناول العود، ويحرك أوتاره بعبث مميز. تحلق حوله الناس، وظلوا كذلك حتى يوم الرحيل، سرعان ما اجتذبته الموسيقى نحو عوالمها الساحرة. كان الموسيقار العملاق محمد عبد الوهاب أول من لفت انتباهه، تأثر بألحانه التي تخطت زمنها. لم ينتظر بركات الكثير من الوقت حتى يجاهر بموهبته، ويطرح سمات التحدي التي تميز شخصيته. اختار كلمات من جريدة يومية فعمد الى تلحينها وتأديتها في حفل مدرسي. كان الموسيقار الاستثنائي سيد درويش يعلن نظرياً استعداده لتلحين كلام الجرائد، لكن ملحم بركات فعلها، وكان صبياً حينها. وضع بعد ذلك نشيداً للمدرسة. يذكر أنّ والده سأله مستنكراً بعدما صارحه برغبته في دراسة الموسيقى: «هل تنوي منافسة محمد عبد الوهاب؟». لكن كلام الأب لم يحبط الولد العنيد. في السادسة عشرة من عمره، ترك المدرسة ليلتحق بمعهد الموسيقى. فعل ذلك بالسر عن والده، كان يخبئ كتب المعهد في كيس ورقي يتركه على مدخل المنزل.
شارك ملحم بعد ذلك في برنامج تلفزيوني خاص بالمواهب الناشئة، خضع لاختبار من كبار أهل الفن، وقد أجمعوا على امتلاكه موهبة نادرة. أثارت طبقات صوته العالية، معطوفة على قدرة استثنائية في الأداء، اهتمام كل من أصغى اليه. قادته الخطى لاحقاً نحو المدرسة الرحبانية التي تعامل معها بذكاء لم يتيسر لكثيرين غيره، خرج من القفص الرحباني بعد سنوات أربع، لكنه كان يقدم للأخوين الرحباني بعض الألحان بناء على الطلب. تحول إلى شريك عوضاً عن أن يكون تابعاً. يروي هنا أن صداقته لابن بلدته الفنان النادر فيلمون وهبي، كانت عاملاً حاسماً في قراره بمغادرة الجنة الرحبانية الواعدة. قال له في رحلة صيد: «أنت فنان موهوب وثمة الكثير في انتظارك. لن يعطيك الرحابنة الفرصة التي تستحقها، إن أفضل ما يسعك الحصول عليه هنا هو أن تكون نسخة عن نصري شمس الدين». كان لموهبته الموسيقية المتجذرة أن منحته ثقة بنفسه قلّصت من حاجته إلى الاعتماد على الوجبة الغنائية الجاهزة. سرعان ما تحول جواز مرور لعبور الآخرين نحو معترك النجاح. لحّن لكثيرين، وكان حصول أحد المغنّين ــ إحداهنّ غالباً ــ على لحن منه يعني دفعة مؤثرة نحو عالم الشهرة. لم يكن بوسع أكثر النقاد تشدداً إبداء ملاحظة حول لحن يحمل توقيع ملحم بركات، وظل وفيّاً لعادته الطفولية المشاغبة: يكفي لنص ما، مهما كان متواضعاً، أن يقترن بنوتاته الساحرة حتى يصير علامة إبداعية مسجلة. بعض ما تميز به ملحم أنه أدرك حقيقة كونه عبقرياً، ولم يسع ــ مدفوعاً بوهم التواضع الزائف ــ أن يخفي ذلك. استغل قدراته حتى آخر رمق إبداعي، لم يدار النزق المصاحب عادة لذوي الموهبة الحقيقية، ولم يحاول ضبط إيقاع مزاجه وفقاً لمقتضيات العرض والطلب، فكان، كما يستحق، متفرّداً، لا يشبه إلا نفسه.
رحل ملحم بركات تاركاً مساحة شاسعة من الفراغ العاطفي والفني والموسيقي لا يبدو أنها قابلة لأن ترمم بعده. في ذمة الذاكرة الجامعة أيها الفنان الملهم.
علي العزيز- الأخبار
مواقف سياسية ثابتة
لم يكتف ملحم بركات بالغناء والتلحين فحسب، بل كان أيضاً يطرح آراءه السياسية من دون تردد. بصوته القويّ ونبرته العفوية، كان يدافع عن رأيه بشكل حازم.
قبل شهرين تقريباً، أحيا حفلته الأخيرة في بعبدا، وسرّبت فيديوهات من السهرة وهو يشتم السياسيين الذين يمنعون وصول العماد ميشال عون إلى رئاسة الجمهورية.
تداول الناشطون الفيديو على السوشال ميديا حيث بدا وهو يصرخ «ما بدّن عون يجي رئيس، عم يضحكوا علينا ونحنا مصدقين». لكن ذلك لم يكن تصريحه السياسي الوحيد، بل سبقته تصريحات أقوى منه. ضمن إطلالته في برنامج «المتهم» الذي قدّمه رجا ناصر الدين ورودلف هلال على قناة lbci قبل سنوات، كشف بركات أن «حزب الله» «هو الفريق السياسي الأقرب إلى قلبه لأنه حرّر بلدنا من الاحتلال الاسرائيلي». دافع «الموسيقار» عن تواجد الحزب في سوريا، وعرّج على الجيش اللبناني، قائلاً «أنا باق في بلدي طالما الجيش فيه». على الضفة الأخرى، كان لبركات موقف حاسم من الحرب في سوريا، لافتاً إلى أنه لا ينسى فضل السوريين عليه بعدما غنى سنوات طويلة في دمشق وإحتضنه الشعب هناك.
الأخبار
مجبول بروح النكتة... والكثير من الوجع
«ليك... شو مفكر تعمل مطرب وفي محمد عبد الوهاب؟!» كلمات سمعها ملحم بركات من والده، فحفرت مكانها في وجدانه وحفّزته ليصبح الموسيقار ملحم بركات. خلال حوار متلفز، قال: «وقتذاك إرتجفت، لكني حسمت أمري وقلت: نكاية بوالدي سأفعل شيئاً، سأكون الولد الذي سيدفع والده للتفاخر أمام الجميع».
كان مولعاً كوالده بـ «موسيقار الأجيال»، يجيد أداء أغنياته، وربما استوحى منه الرغبة في التجديد في الموسيقى، فكانت خطواته نحو الوصول الى قمّة المجد، مدفوعة بعنفوان وقسوة، تجسدها جملته الموسيقية القوية الصاخبة، التي هدرت في أرجاء الأرض، بصوته أو بصوت الكثير من المطربين خلال نصف قرن من الزمن.
هو من أراد إثبات أنّ الملحن قادر على كل شيء، فقام بتلحين مقال في الجريدة، ثم تجرأ واسمع لحناً لفيلمون وهبي إدعى أنه لصديق له من الشويفات. وقتذاك، قال شيخ الملحنين: «ملعون من صنع هذا اللحن، يبدو أنه موهوب». وعليه، إستهل صاحب «ومشيت بطريقي» صعود سلم النجاح. ومع أغنية «الله كريم» الوطنية (كلمات توفيق بركات ولحن فيلمون وهبي)، برزت قدرات صوت نجم جديد، فمنحه فيلمون اغنية ثانية هي «سافر يا هوا» ( كلمات مصطفى محمود).
دفعه فيلمون، للتوجه الى دارة الرحابنة، فقدم معهم أعمالاً مسرحية عدة، لكن هذه الشراكة لم تدم طويلاً. سرعان ما خلع صاحب «الفرق ما بينك وبيني» عباءة الأخوين رحباني، ليبدأ مسيرة حملت نكهة خاصة ومختلفة، مما لفت كبار المطربين إلى جملته اللحنية، منهم وديع الصافي (يا بني)، صباح («المجوز الله يزوده»، «كحيل العين»، «ليش لهلق سهرانين»، «يا لبنان دخل ترابك»...)، ماجدة الرومي (اعتزلت الغرام)، وليد توفيق (ابوكي مين يا صبية). كما منح ألحانه لكل من سميرة توفيق، ونجوى كرم (مصنع بارود) وميشلين خليفة... ومن ألحانه الأولى «بلغي كل مواعيدي» التي شارك جورجيت صايغ غناءها خلال مسرحية «حلوة كتير» مع «الشحرورة» صباح.
على المسرح الغنائي، لم يكن مرور بركات أقل شأناً من نشاطه الفاعل في صناعة وتطوير الأغنية العربية، وحتى من حضور صوته القوي المميز. لقد ترك بصمة تشبه شخصيته في كل عمل مسرحي قدمه، مثل «الأميرة زمرد»، و«الربيع السابع» مع الأخوين رحباني، وبعد ذلك «ومشيت بطريقي». وعلى المسرح، بكى والدته تافيديا في كل مرة غنى فيها «بوعدك يا كبيرة هاك البيت». لم تتركه السينما من دون أن تخطفه ولو مرة لخوض غمار الفن السابع، فأدى بطولة «حبي لا يموت» (1984) مع الممثلة هلا عون (إخراج يوسف شرف الدين)، ليربح الجمهور كليباً سينمائياً لرائعته «يا حبي اللي غاب».
لا يمكن اختصار تاريخه في جمل، لأن مجرد مرور إسمه، يعني جملة من التراكم لصالح الفن العربي أولاً واللبناني خاصة كونه إلتزم الغناء والتلحين باللهجة اللبنانية من منطلق الوفاء لرواد هذه الأغنية من أساتذته.
كان يقول: «ما في ألعن من الفقر الا الغنى»، لكنه عانى نكسات مادية قهرها بالعمل. كان يلحن بشكل خاطف وسريع، وهو يقود سيارته أو في الطائرة. قال يوماً إنّ الأغنية الوحيدة التي تصف شخصه من الناحية الإنسانية هي «انا الوالي». شخصية أراد أن يخيف بها كل الظالمين. وبكلماته للإعلامية هيام أبو شديد في لقاء متلفز: «تنتهي ولايتي مع الموت، حدودي الموت. وحتى أنا عم موت بدي فزّع، بدي تخاف مني العالم».
هكذا، شكّل صاحب «جيت بوقتك» حالة فنية خاصة امتدت خيوطها لتجمع بين شغفه بالموسيقى وحبه الصارخ للحياة بشغب عفوي مجبول بروح النكتة والكثير من الوجع، مما جعل كل أعماله غنية بالإختلاف لا يقوى على تجاهلها أحد. نجاحات حفرت إسمه بحروف من ذهب على قائمة أفضل الملحنين العرب، وجعلت أعماله مكوناً أساسياً في قائمة مكتبة الموسيقى العربية منها: «على بابي واقف قمرين»، «العذاب يا حبيبي»، «أحلى ظهور»، «حمامة بيضا»، «شباك حبيبي»، «شو بعدو ناطر»، «ولا مرة كنّا سوا»، و«تعا ننسى»... رحل ملحم بركات وفي عقله حلم أخير لم يتحقق، أن يترك جملة موسيقية من أعماله في عهدة صوت فيروز، بينما بقي في قلبه غصّة على الوطن، الذي اعطاه كل يوم سبباً للبكاء.
تقام مراسم وداع الفنان الراحل غداً الأحد، عند الواحدة ظهراً في «كنيسة مار نقولا» (الاشرفية)، على أن يوارى الثرى بعدها في مسقط رأسه كفرشيما.
هناء جلاد- الأخبار
من وديع الصافي إلى فارس كرم: تجربة تختصر مسار الفن اللبناني
يصعب أن نحظى بلحنٍ يراقصنا في أصخب سهراتنا ويتسلل إلينا في لحظاتنا الحميمة ليتلاعب بمشاعرنا ويحرك حنينها. ها هو خريف تشرين الأول يباغتنا مرةً أخرى ليخطف رفيقاً لوديع الصافي. رحل أمس صاحب «سلم عليها». يروي لأصحابه من مبدعي لبنان كيف استطاع أن «يلعب اللعبة»، ويحافظ على مستواه وسط «البركان» الثقافي والموسيقي الذي هز العالم العربي من بعدهم.
رحل بعدما نفد بريشه بأقل خسائر معنوية ممكنة.
ولد ملحم بركات في بلدة كفرشيما، التي أنجبت فيلمون وهبي، وماجدة الرومي، وعصام رجي. تربى على يد والدٍ احتار بين ميوله الموسيقية وخوفه من غرق ابنه في هذا الفن الذي كان برأيه ملكاً للمدرسة المصرية آنذاك. في تلك الفترة، لم يكن قد تشكل بعد فن موسيقي لبناني مستقل بالكامل مع «عصبة الخمسة» والمسرح الرحباني، الذي سيصبح ابنه من معاصريه ورواده.
استعراضياً، تميز شقي كفرشيما بشراسةٍ تتدفق في صوته وعيونه، فنتذكر بدايته التمثيلية مع الرحابنة، ونسترجع مشهد «المحكمة» في مسرحية «الشخص» (1968)، ليظهر بعدها في أدوارٍ أكبر كما في مسرحية «الربيع السابع» (1984)، ثم تابع مسيرته التمثيلية مستقلاً عنهم في «ومشيت بطريقي». أخذ أول ألحانه «الله كريم» من ابن بلدته ورفيقه في الصيد فيلمون وهبي الذي تأثر بركات ببساطته وأصالة ألحانه. لاحقاً، بات يلحن لكبار المغنين كوديع الصافي (جينا نسأل خاطركم)، صباح (صادفني كحيل العين)، وغسان صليبا (يا حلوه)، ماجدة الرومي (اعتزلت الغرام)، فريال كريم (عم بزعلني للو) وغيرهم كثر.
إلى جانب فليمون وهبي، نتلمس تأثره بعبد الوهاب وفريد الأطرش، غير أنه تمكن من امتلاك هوية موسيقية خاصة من دون تكرار نفسه لحنياً، رغم تكرار بعض النماذج الإيقاعية في الكثير من الأغاني. كثيراً ما كان يروي كيف يثور على نفسه حين يكتشف بأنه «سرق سهواً» لحناً من ألحانه القديمة وكيف كان يسارع إلى تغييره. يتحدث عن نفسه بتعجرفٍ أحياناً، فيما تكشف حقيقته شيئاً من التواضع والشفافية، فيشكو عتبه بغضبٍ كامنٍ على مغنين جدد، ليدخل في متاهات العالم الفني ودهاليزه وزواريبه، فيخطئ تارةً، ويُظلَم طوراً.
كلامياً، تميزت أغانيه بعفوية، ولم يتفوق فيها الشعر على اللحن يوماً. كما نلاحظ فقر الإنتاج الموسيقي مقارنةً بثبات بنية اللحن وجماله، وهذا أمرٌ مستغرب كي لا نقول محزناً، في زمنٍ تكثر فيه الإنتاجات الموسيقية ذات الجودة العالية، لتزين ألحاناً موسيقية بدائية فقيرة وغير ناضجة.
الصبي الشقي الذي لا يتقيد بقوانين اجتماعية ولا بقيود إعلامية، لطالما غيّر مسار برنامج حواري ليلائم طبعه ومزاجه. رفض وسائل التواصل الاجتماعي، وأثبت مع ذلك نفسه في وجه صخب التجارب الموسيقية الجدية وغير الجدية، التي تعمل بجهدٍ كي تتفوق إعلامياً وتصل إلى أكبر عدد من المتابعين followers. أدى ألحانه مغنون من مختلف المستويات والفئات الفنية، وفي كل تجربة نرى لحنه متألقاً يدل على جنون صاحبه وعبقريته.
نرى في حياة هذا الفنان، المتناقضة، خطاً يصف المسار الفني اللبناني بشكله الدقيق وبدون مجاملة. هو من القلائل الذين تماشوا مع السائد، وشاركوا بأفضل ما عندهم بدل الاعتكاف، ليوضح صورة المراس الفني وحالته في مختلف الظروف الثقافية. لطالما انتقد المعتكفين وتجاهل تدنّي المستوى الثقافي الإقليمي. مع هذا الفنان الـ«مختلف»، نرى أول ألحانه بصوت وديع الصافي وآخرها بصوت فارس كرم.
أما أعماله الجديدة نسبياً مثل «مش عارف» (2012)، «صاير كذاب» (2010)، «بدك مليون سنه» (2010)، فلم تأخذ صدى كسابقاتها إلا في أغنية «البطيخ»، رغم أنها لا تقل إبداعاً عن تلك الألحان القديمة. فهل أحبط هذا من عزيمة الموسيقار الذي لطالما حاول جاهداً أن يعوّد الجمهور على الاستماع إلى مقطوعة موسيقية بدون كلام قبل بداية كل حفلة؟ وبالحديث عن «البطيخ» المستفزة التي تمثل واقعنا بتجرد وشفافية، فإنّها لم تستطع أن تحجب لحناً مألوفاً، يذكرنا بشيءٍ من المدرسة الرومانسية القديمة. فها نحن مجدداً نلتقط جمال ألحانه حتى في أرخص الكلمات وأسوأ الإنتاجات الموسيقية من حيث الآلات والتسجيل. هذا إن لم نذكر التضليل البصري الذي يمارسه كليب الأغنية. ربما هو ذلك التقطيع الأنيق للأحرف العربية ضمن القالب الإيقاعي الذي يمتاز به، فيكاد يتهجى كلماته ضمن ذلك الإيقاع البطيء الراقص الذي يلجأ إليه دائماً ولو في وسط الأغنية، وهو الذي ــ ببطئه وحركته الراقصة ــ يشبه شخصيته التي تجمع بين العفوية والجدية وبين العنف واللطافة وبين المرح والغضب والخجل. يهاب الكاميرا والاستديو... والموت. خاف الموت، فبنى معه صداقة، حين شرع بتحضير لحن جنازته منذ ما يقارب عشرة أعوام!
لارا ملاعب- الأخبار
ذاكرة طويلة من الألق والضوء
لا ريب في أنّ طول الفترة الزمنية التي احتلت فيها هذه الشخصية الفنيّة مكانها ومكانتها في الصفوف الأولى بين المغنين والملحنين العرب، دليل واضح على عمق هذه الموهبة وكيفية استفادتها من المدارس الغنائية الشرقية، لا سيما مدارس الغناء الديني في الشرق كمدرسة الغناء البيزنطي التي تظهر ملامحها بشكل واضح في أسلوب الغناء الذي أداه ملحم بركات خلال مراحل حياته الفنية.
وقد يجهل القارئ أن هذه المدرسة شرقية محلية أصيلة، فالمؤلفون في منطقتنا الشرقية التي كانت تمثل سوريا الكبرى، هم من قاموا بوضع هذه الألحان وطرق أدائها، سواء من شكل الجملة الموسيقية أو طريقة الأداء التي ارتبطت باللغة المحكية التي تطورت مع تتالي حضارات مرت على المنطقة. المدرسة الثانية التي تظهر في طرق أداء (بركات) ـ في المراحل الأولى خصوصاً ـ قدم فيها الموشّح العربي هي مدرسة التجويد التي تبرز خصوصية مخرج الحرف العربي بشكل واضح مع صعوبة الجمل الأدائية. أذكر على سبيل المثال مجموعة الموشحات المعنونة باسم «صاحب الليل».
ومن الجدير ذكره أن نضيء على خصوصية هذا الصوت الذي يوصف بأنه من أقوى الأصوات على المستوى العربي لقدراته الأدائية على كامل المساحات الصوتية، العالية والمتوسطة وطبقات القرار (الصوت الأسطواني) أي يمتاز صوته بالقوة نفسها على مختلف الطبقات وبتعدد الجمل اللحنية وتعقيدها وصعوبة القفزات الموسيقية ولا سيما عندما يريد استخدام العرب الصوتية التي تشكل جزءاً هامّاً من هوية الغناء العربي الأصيل، حيث لحّن لنفسه عدداً من الأغنيات التي تتميز بالصعوبة البالغة ما جعلها شبه مستحيلة الأداء على الآخرين. حيث ينتمي صوته لطبقة «تينور» أي الصوت الصداح القادر على أداء الطبقات العالية ذات الخصوصية السمعية لدى الأذن العربية. كما يذكر للكبير الراحل انطلاقه من المدرسة الرحبانية أداءً وتلحيناً، من ثم أخذ خطه الخاصّ في طرق التلحين، وقد استمرت هذه المسيرة رغم صعوبة المنافسة مع عباقرة الفن الذين عاصروه، فظلت جليّة في ما غناه، وفي الألحان التي قدمها للآخرين ومما لا يمكن تجاهله حضور المشهدية المسرحية في ألحانه، فقد وضع العديد من المؤلفات الغنائية التي تحمل مشاهد مسرحية مفعمة بالنفس الرحباني، متأثراً بوقوفه آنذاك أمام العديد من القامات الغنائية الكبيرة كالسيدة فيروز والسيدة صباح، وظل ذلك راسخاً في أسلوبه وفي ألحانه.
ومن الاحتراف صياغته صوراً موسيقية تضاهي الصور الشعرية حضوراً. ويحسب لموسيقار الأجيال إبداعه في صنع ومزج مختلف الألوان الموسيقية ضمن اللحن الواحد، من خلال الانتقالات المقامية الغريبة والإيقاعية المتنوعة بين السريع والبطيء، وخلق المفاجآت اللحنية الممتعة والمحببة، ما ساهم في وصول ألحانه بقوة إلى مختلف الشرائح والأجيال، ولا سيما أن أسلوبه الموسيقي يتميز بالثورية التي انطلقت من الأصيل والكلاسيكي وصولاً إلى المعاصر. ظل هذا المبدع على طول مسيرته متمسكاً بالهوية الشرقية المحلية التي كانت قادرة على منحه بعداً عربياً وعالمياً، فاستحق عن جدارة لقب موسيقار الأجيال الذي أطلقه عليه الموسيقار محمد عبد الوهاب بعد أن استحقه من الذائقة السمعية العربية.
من أقواله
«لا أطرب لأي من الأصوات اليوم. «طرب ما فيه. فيه مغنين بسلّوا بس»، لكن أصواتهم لا تطربني طبعا»..
«كل يلي عملو فن حقيقي قبل ما في احترام إلهن ولا تقدير، والقصة سايبة والدولة غايبة. إذا سرقة سيارات مش قادرين يمنعوها ت يمنعوا سرقة الفن»
«حضرت موسيقى أنا وطيب حتى كرم حالي بعد ما موت»
(«شباب السفير» 6-8-2010)
«أين هم الزعماء السياسيون في لبنان؟ لا يوجد زعيم سياسي بمستوى جمال عبد الناصر مثلاً، هناك فقط رجال سياسة في لبنان!»
(«السفير» 24/11/1995)
«في السابق عندما كنت أسمع لحنًا جميلاً لم أكن أنام حتى أقدم لحنًا أفضل «يبطحه». الفن منافسة شريفة».
(«النهار» 21-4-2006)
«الحياة رحلة حلوة لها بداية ونهاية، أسأل الله أن يجعلها طويلة. الموت حقّ إنما أخاف أن أموت مريضًا معذبًا. أتمنى أن تنتهي حياتي فجأة».
(«المجلة» 10-2-2008)
فادي عطية- السفير
إضافة تعليق جديد