مؤتمر أستانة: ما بعده... تماماً كما قبله
انعقد مؤتمر أستانة، فعلياً، بمعنى النظر في حل (أو مسار حل) الأزمة السورية، في اليوم الأول للإعلان عنه بين منظميه ورعاته، بعد انكسار المسلحين في شرق حلب. الاتصالات بين المكونات الثلاثة وما وراءهما، روسيا وتركيا وإيران، وأيضاً الدولة السورية، تواصلت من حينه مع اختلاف وتباين رؤى، حول كيفية ومدى ووجهة و«فرملة» تثمير الانتصار العسكري المحقق، كإنجازات سياسية، وهو تباين لم يجر اختراقه فعلياً، حتى اليوم الأول لانعقاد المؤتمر.
كان واضحاً من حينه، بعد هزيمة المسلحين في حلب، أنّ الإرادة الروسية توجهت نحو إنقاذ تركيا من انكسارها بانكسار المسلحين، ولأسباب ومنطلقات ترتبط أيضاً بدائرة أوسع من ناحية روسيا من الساحة السورية نفسها، فيما اتجهت الإرادة التركية لتلقف التوجه الروسي، كمنطلق شبه وحيد وعملي، للحدّ من الخسائر ومحاولة فرملتها، مع التطلع لتحقيق ما يمكن من مصالح، من دون دفع أثمان سياسية وخسارة أوراق ميدانية إضافية، في مرحلة ما بعد استعادة حلب.
لكن قد يكون كلا المطلبين متعذراً. فلا تركيا ستغير من توجهاتها وموقفها الفعلي، ولا الروسي بقادر على جذب التركي إليه، كما يتعذر على الدولة السورية استئناف الفعل الميداني من دون الغطاء الروسي. في الوقت نفسه، يتعذر على روسيا فرض الأجندة السياسية من دون موافقة الدولة السورية وحلفائها الأكثر التصاقاً بها. نعم بإمكان موسكو فرض مسار ما ومباشرته، لكن لحلفائها حق النقض الذي من شأنه أن يفشل هذا المسار، والعكس صحيح.
الموقف الأميركي، أو العامل الأميركي، هو مغيّب وحاضر في أستانة. وهو تغييب يعدّ شكلاً ومضموناً تظهير تراجع وفشل خيارات واشنطن في سوريا، وربما عبرها باتجاه الإقليم، لكن من دون غياب خيارات بديلة، نظرياً. الأمر نفسه ينسحب بشكل واضح جداً، على «الدول العربية المعتدلة»، مع تغييب بطعم الهزيمة والنبذ، بلا تطلع من أعداء هذه الدول وخصومها وأيضاً حلفائها، لما يحفظ لها حتى ماء الوجه.
من ناحية الدولة السورية وحلفائها الأكثر التصاقاً بها، كان واضحاً منذ البداية أن الإرادة اتجهت، على خلاف الموقف الروسي، نحو ترجمة الانتصار العسكري سياسياً، بشكل كامل أو ما يقرب منه. وإلا، فمزيد من الانتصارات الميدانية، التي من شأنها الضغط أكثر على الطرف الثاني، تحديداً التركي، لتحقيق الإنجاز السياسي الكامل.
من هنا، وضمن هذه المحددات، بات يفهم، أكثر، موقف الرئيس بشار الأسد، في مقابلة قبل أيام مع قناة يابانية، أنّه «حتى الآن، نعتقد أن المؤتمر سيكون على شكل محادثات بين الحكومة والمجموعات الإرهابية من أجل التوصل إلى وقف لإطلاق النار، والسماح لتلك المجموعات بالانضمام إلى المصالحات في سوريا، ما يعني تخليها عن أسلحتها والحصول على عفو من الحكومة».
في سياقه، يأتي موقف طهران، التي عبّرت عن «تقديرها» عبر وزير خارجيتها، محمد جواد ظريف، بضرورة «التواضع تجاه توقعات لقاء أستانة»، وفي تماهٍ مع موقف الأسد، عبّر أيضاً عن ثقته بأن تسهم نتائج محادثات أستانة في «توسيع عملية المصالحة» في سوريا.
في موازاة الموقفين المتطابقين، الإيراني والسوري، برز موقف روسيا التي حاولت إشراك الأميركي في المؤتمر، بناء على منطلقات وأسباب تتجاوز الساحة السورية، وفي تطلع إلى العلاقة بينها والإدارة الأميركية الجديدة. صُدّت هذه المحاولة بموقف إيراني حاسم رافض لهذه المشاركة، كراع من رعاة المؤتمر، فاقتصرت على المشاركة الشكلية عبر السفير الأميركي في كازخستان. مع موقف روسي لافت، حدد بموجبه نتيجة مؤتمر أستانة قبل انعقاده، للناطق باسم الكرملين دميتري بيسكوف، بأنه «من غير المرجح الوصول إلى أي اتفاق بشأن سوريا، في محادثات أستانة».
أما لجهة الجماعات المسلحة، على اختلافها، فطرأ نتيجة لتغيير ميزان القوى والانكسار الميداني في حلب، تغيّر لم يكتمل بالكامل بعد، في توصيفها من أداة عسكرية للتغيير في سوريا، بما يحقق مصالح الرعاة الإقليميين والدوليين، وفي مقدمتهم تركيا، إلى سلعة في سوق المزايدة على أثمانها، وتحديداً على طاولة المفاوضات البينية للأطراف المؤثرة فعلياً في الساحة السورية، في هذه المرحلة. نعم تأمل أنقرة أن تبقي على هذه الجماعات أطول فترة ممكنة، وتؤمّن لها مستلزمات البقاء، لكن حتى اللحظة التي تضطر فيها للتخلي عنها، في موازاة استدراج عروض لأثمان من الطرف الآخر. الظرف وميزان القوى والتباين في موقف حلفاء سوريا، قد تسمح لأنقرة المراهنة على ذلك، وتتيح لها الأمل بأثمان تجبيها لتحقيق جزء من مصالحها في سوريا. لكن من جهة هذه الجماعات، وصلت بالفعل إلى حائط مسدود.
سواء كانت هذه الجماعات منقادة بالكامل إلى الإرادة التركية، أو كانت جزءاً من سياسة التخادم المتبادل بينها وبين أنقرة، فهي وصلت إلى المرحلة التي تسعى فيها، مع آمال مقلصة، للإبقاء على وجودها مع تراجع آمالها السابقة التي وسعت دائرتها إلى حد كبير جداً. «القاعدة» ومثيلاته، وبمسمياته المختلفة، فقد دوره ووظيفته كأداة للتغيير في سوريا، إلا بما يتعلق بضرورة بقائه لاستبيان رعاته كيفية ومدى الثمن الذي يمكن سحبه من خصومهم وأعدائهم، كي تسمح أو حتى تساعد، في اجتثاثه.
من هنا يتضح، أن اليوم الذي يلي «الأستانة» هو نفسه اليوم الذي سبق. نحن الآن في مرحلة التجاذب بين مصالح المكونات المؤثرة، مع تداخل فيما بين الأطراف، حتى تلك المتحالفة، بما يتجاوز الساحة السورية نفسها. مع ذلك أيضاً، هو ميزان منقوص، بمعنى أنّ الأميركي يغيب و/ أو يغيّب عنه، علماً أن الصورة النهائية للمعادلات لا تتضح إلا مع استبيان موقف الإدارة الأميركية الجديدة، إن كانت ستستأنف مقاربة الإدارة السابقة، بالمماحكة وإطالة عمر الأزمة السورية في ظل الفشل، أو تعتمد مقاربة جديدة، ضمن خيارات لم تتضح معالمها حتى الآن.
من هنا، يجب التطلع إلى اليوم الذي يلي المؤتمر، لا إلى المؤتمر نفسه، الذي أعلن منظموه، فشله مسبقاً. ما يستتبع الحديث عما وراء الرفض الإيراني للمشاركة الرعائية لواشنطن في مؤتمر الأستانة؟ كدلالة لا ترتبط بالمؤتمر نفسه، بل بالمرحلة التي تليه، والخيارات الأميركية المقدرة لها.
يحيى دبوق
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد