التطرف والمحتوى المجاني
الجمل ـ رشاد كامل:
بما أننا من الشعوب التي لا تدفع ثمن المحتوى، فكان من الطبيعي ألا نصنعه، فمن غير المنطقي من وجهة النظر التجارية، أن نستثمر في منتج لا يباع، بل يفضل استهلاكه اذا كان مجانياً، ووصل الينا دون أي جهد لسرقته. ولذلك اعتشنا على استهلاك ما يقدم لنا مجاناً ابتداءً من الاخبار وانتهاء بالأفلام الإباحية، مرورا بما هو ثقافي وضمنا، الثقافة الدينية.
المكتبات التابعة لوزارة الثقافة والكتب التي تطبع وتنتظر كثيرة وممتدة، ولا يزورها أحد !؟ 425 مركز ثقافي منشور في سورية، معظمها ينتظر زبائن ولا يزورونه!؟ الاف المكتبات المدرسية، وبالنادر أن يطلب طالب او طالبة كتابا منها
وفي البحصة، مركز قراصنة المعلومات السوريين، يمكنك أن تشتري أكثر 100 الف كتاب موضوعين رقميا على سواقة واحدة، وغالبا لا يشتريها أحد، وإن اشتراها، لا يحترم محتواها المجاني، فلا يقرأ أيا منها.
كتبنا الجامعية مدعومة ورخيصة، ومعظمها منسوخ من الأجنبية وركيك، وجامعاتنا مجانية، لذلك لا رواتب مهمة لخريجينا، فهم لم يدفعوا ثم العلم الذي حصلوه.
وهذا كله ليس عبثا ولم يأت من فراغ، بل أتى من تراث تناقلناه لأجيال ومئات السنين المتعاقبة، مفاده أن كل ما نحتاجه من ثقافة سيأتي مجاناً، كنا نتلقاه سابقاً على شكل خطب او دروس في الجوامع أو في عظات المآتم، والآن نتلقاه مطبوعاً أو مبثوثاً، من نفس ولاة الأمر، ومن نفس شيوخ الكتاب. والرابط المشترك بين الثقافة المجانية اليسارية والكتب والعظات الدينية المجانية، أن لا أحد يدقق في المحتوى.... فالمحتوى المجاني لا يستحق التدقيق.
من لعب فينا هذه اللعبة فهيم وخبيث ويعلم أنه لو طالبنا بقيمة المحتوى، لطالبناه بالسبب، ولطالبناه بتقديم ميزات محتواه الذي يحاول بيعه لنا عن غيره، ولطالبناه بالدقة، ولطالبناه بالمرجعيات العلمية، ولدققنا بالنتائج، ولقارنا ما يقدمة من محتوى مع غيره من منافسيه، وبالتأكيد لكنا تلقفنا ما هو مكتوب بجدية أكبر كوننا دفعنا ثمنه.
التيار السلفي فهم هذه المعادلة جيداً، وبدأ جهاد المحتوى منذ زمن الكاسيت، ولعب على كسل الناس ونعاسهم عند سماعهم خطب الجمعة بعد أكلة الفول، فخرج اليهم بالكاسيت في سياراتهم وفي بيوتهم، يروي لهم القصص، ويسليهم ويحفزهم، بمحتوى ... أهم ما فيه أنه مجاني. وانتقل جهادهم في تعميم المحتوى المجاني الى الفضائيات، بمئات البرامج التي لا يدفع ثمنها أحد، وتؤمن لمتابعيها التسلية الدينية والطائفية مجاناً بلا تدقيق ، ولا حرج ، فهي مجانية.
انتقلوا الى الانترنت ومزاياها، ووسائل التواصل التي فتحت باب التفاعل المجاني، لمحتوى، هو ليس محتوى، بل هو مجموعة من التعليقات والتعليقات المضادة واسسوا عبرها، لجهاد السباب والتكفير الجمعي .. ووصل اخيراً محتوانا المجاني الى التطرف الكامل، وأصبحت روايات منسوخة عن اعرابي لا نعرف اسمه "عنعن" عن الرسول أهم من أهم النظريات العلمية والسياسية ومكتشفات العلم الحديث .. وأصبحت الحالة القصصية للمشايخ على المنابر غير مضبوطة، فهم يستطيعون أن يخترعوا أي قصة، أي قصة على الاطلاق مرجعيتها اعرابي، صحابي، عالم من العلماء، حكيم من الحكماء، وحتى عن أصدقاء عاشوا تجارب في الغرب والشرق وفي الحارات المجاورة للجامع، ويلصقوا بهم حكمتهم التي يريدون انفاذها في مجتمعهم المستمع اليهم مجاناً ..
والحداثيون منهم، انتقلوا الى تسخير أسماء وكتب علمية غربية كافرة لم يسمع بها أحد غيرهم، وهم مطمئنون أنه لن يسمع أحد بها ولن يدقق، فلا أحد يدقق بالمحتوى المجاني، يسخرون أجزاء غريبة من علوم غريبة، ونظريات غريبة، وذلك للتأكيد أن الغرب الكافر أثبت رواياتهم في عظمة ما يطرحونه من تطرف بدون محتوى !!
والقصص تتناقل، لأنها سهلة ومجانية ..والقصص تكون أجمل إذا ما انتهت بالجنة والحوريات ، فالتطرف هو نتيجة حتمية للامحتوى .. ولمجانيته . ولذلك تصبح حياة المتطرف نفسها مجانية ، وفهمكم كفاية..
فالمحتوى المجاني أخطر بكثير من حالة اللامحتوى ..والجهل والمجتمعات الجاهلة قد تنتج امراضا مجتمعية من فقر وجريمة. لكن المجتمعات التي تربت على المحتوى المجاني، غالبا التطرف من كل الأنواع مصيرها ...
لا حل سهلا ... ولا حل بسيطا ، ولكن الأزمات تسرع الحلول ، والبداية في أن ندعم المحتوى الإيجابي ، المحتوى الوطني، المحتوى الجامع للأمة ، ونعلي من شأن كتابنا، ومبدعينا، وناشرينا، وصحفنا ، ونعاملهم كما ينبغي أن يعامل أبطال التغيير .وندفع لهم مالاً وجاهاً ..عندها فقط تبدأ عملية الانتقال الإيجابي ..
إضافة تعليق جديد