13-02-2018
أوركسترات وجوقات ومغنون وعازفون: أعجوبة جمالية لا تتكرر!
رحل يوهان سيباستيان باخ عام 1750. هكذا، شكّل مطلع الألفية الثالثة محطة استثنائية في تاريخ الموسيقى الكلاسيكية الغربية، إذ تزامن مع الذكرى الـ250 لرحيل المؤلف الألماني الذي جمَّل وجه كوكبنا، كما لم يفعل مؤلفٌ آخر أو رسّامٌ أو نحّاتٌ أو أديبٌ أو مسرحيٌّ أو مهندسٌ. تحضَّر ناشرو الأسطوانات والمهرجانات والموسيقيون وحتى الكتّاب، فوضعوا الخطط للاحتفاء بالمناسبة، كلّ على طريقته وبحسب موقعه. بعبارة أخرى، الـ2000 كانت سنة باخ بامتياز. في لبنان لم يكن متوقّعاً من أحدٍ إنجاز تحية محترمة إلى باخ، سوى «مهرجان البستان»، لكنه لم يفعل إلّا جزئياً. عامذاك، غلّب منظّمو المهرجان الشتوي — الذي كان قد انطلق قبل ست سنوات — حدث حلول ألفية جديدة ثالثة، على ذكرى باخ. تماهى إذاً العنوان العريض لـ «البستان» مع هذا المفصل الرقمي في الروزنامة الزمنية، لكن كانت ثمة التفاتة إلى ذكرى غياب مهندس الموسيقى الأكبر في البرنامج، إذ حُجزَت حصة الأسد فيه لأعماله.
بعض أمسيات تلك الدورة خصّصت بالكامل لباخ، وفي بعضها الآخر طُعِّم البرنامج بعملٍ أو أكثر من ريبرتواره إلى جانب أعمال مؤلفين آخرين. نذكر من هذه الأعمال أبرزها: الـ «ماغنيفيكات»، البرندنبورغ كونشرتو رقم 3، كونشرتو آلتي كمان، أعمال للكمان المنفرد، «كانتاتا القهوة» (وهو عمل غنائي غير ديني من فئة الـ «كانتاتا»، ذو موضوع خفيف وشعبي يتناول انتشار «آفة» شرب القهوة التركية في المجتمع الألماني في ذاك الزمن)، أعمال للأرغن، المتتالية الأوركسترالية رقم 2 وغير ذلك.
من شهدوا إطلاق الدورة عام 2000 في المؤتمر الصحافي السنوي، تفاجأوا بعدم تخصيص كامل الأمسيات لباخ، وأدركوا أن ما مِن مؤلفٍ سيحظى إذاً بهكذا شرف في المستقبل، طالما أن شيخ المؤلفين لم يفعل. أتى الجواب عام 2006، حيث قفز اسم موزار ليحتل العنوان الأساسي للدورة، في الذكرى الـ250 لولادته. بعض عشّاق «القدّيس العبقري» أحسّوا بالغبن وربما الإهانة. أما أتباع «العبقري الأزعر» فسجّلوا انتصارهم وناموا على حرير… فالحدث التالي التي سيشهده العالم في ما يتعلّق بباخ لن يأتي قبل سنة 2035، أي الذكرى الـ350 على ولادته!
فرض حجم المفاجأة في أن يكون «باخ» عنوان دورة «البستان» التي تنطلق الليلة، المقدّمة الآنفة. فالـ2018 هي، بالمناسبة، سنة الفرنسي كلود دوبوسي في الروزنامة الموسيقية الكلاسيكية (مئوية رحيل أحد مؤسسي التيار الانطباعي). أما المؤلف الألماني، فلا شيء لافت له علاقة به هذا العام… لا ذكرى ولادة ولا غياب. لا طلب (بعد) من الأمم، متحدة، لتقديسه لدى كل الأديان الموحِّدة وغير الموحِّدة والسماوية وغير السماوية! لم يشعّ (بعد) النور من قبره وسط كنيسة سان توماس في مدينة لايبتسيش الألمانية! لم يُفرَض (بعد)، تحت مراقبة عسكرية للقبعات الزرق، بثّ أعماله ليل نهار في شوارع الأرض كلها! لم يكتشِف العِلم (بعد) أن باخ اكتشف سرّ الكون وترجمه إلى أصوات بديعة، نسميها، نحن البشر، موسيقى! فلماذا باخ؟ الاحتفال باليوبيل الفضّي لانطلاق المهرجان الشتوي يستحق ويفرض ربما دورةً مميّزة، والحال هذه، ولكن ذلك لا يبرّر كليّاً احتلال جيش باخ «البستان» لأكثر من شهر ولـ23 أمسية يحييها عشرات الموسيقيين (أوركسترات، جوقات، مغنون منفردون، عازفون منفردون، قادة أوركسترا،…) الذين يتوافدون تباعاً، من أوروبا بشكل أساسي. كل هذه التساؤلات ها هو الجواب عليها: عندما نكون بصدد رجل بعظمة وموهبة وصدق وتفاني وإخلاص يوهان سيباستيان باخ، لا ضرورة لمناسبة ولا لتاريخ جذّاب (يوبيل ذهبي، يوبيل ماسي، مئويّة، مئويّتان،…) ولا لحدث كبير لتبرير تخصيص مهرجان كامل باسمه في أي بقعة من الأرض. باخ أكبر من المناسبات والتواريخ والجغرافيا. من يعرفه يعلم جيداً أنْ لا مبالغة في هذا التوصيف ومن لا يعرفه لم يسمع صوت الخالق بعد.
إذاً، في يوبيله الفضّي، عَنوَنَ «مهرجان البستان» دورته بـ «باخ» من دون الحاجة إلى إرفاق هذه الأحرف بصفةٍ قبلها أو بعدها لدعم أهمّيتها. لكن أهمية تخصيص مهرجان كامل للمؤلف الألماني، على كبرها، لا تكفي لتجعل من الدورة حدثاً موسيقياً ذا قيمة فنية عالية. فالبُعد المحوري هنا قوامه الموسيقيون الذين سيؤدون أعمال باخ الذي كتب لأشكال موسيقية كثيرة (باستثناء الأوبرا)، تحتاج إلى عازفي هاربسيكورد (أو بيانو، كبديل «عصري» للآلة العتيقة) وأوركسترات من الحجم المتوسط وجوقات كبيرة ومنشدين منفردين وعازفي كمان وتشيلّو وأرغن وفلوت، إلخ… وهنا نقطة القوة التي تتمتّع بها «دورة باخ» المرتقبة، إذ تخطّى المستوى العام للأسماء المدعوة كل التوقّعات، نسبةً إلى حدث يحصل في بلدٍ صغيرٍ (حجماً وتأثيراً عالمياً) ومجهول (اسماً ومصيراً)، يتريّث معظم الموسيقيين الغربيين قبل زيارته، فيعتذرون حيناً أو يلغون الزيارة بعد الموافقة المبدئية، كما حصل مع عازف البيانو الأميركي كيت أرمسترونغ (وهو ظاهرة موسيقية ونابغة علمية، علماً أنه عمره 25 سنة فقط) الذي فضّل عدم المشاركة بعدما خافت أمّه عليه، ربّما نتيجة تحذير الخارجية الأميركية رعاياها من زيارة لبنان (قبل فترة وجيزة). أرمسترونغ كان سيحيي أمسية مخصّصة لباقة من أعمال باخ في 3 آذار (مارس) المقبل، ويعتبر اعتذاره خسارة كبيرة (دُعيَت بدلاً منه الروسية ناتاليا موروزوفا، وهي عازفة بيانو متواضعة جداً!)، لكن وفرة الأسماء الكبيرة (بين مكرّسين ومخضرمين ونجوم صاعدة) حفظَت للدورة استثنائيتها. بمعنى أوضح، أرمسترونغ كان بمثابة حبة كرز على قالب الحلوى… والقالب تزيّنه أكثر من حبة. من جهة ثانية، يمكن تقسيم الأمسيات، انطلاقاً من برنامج كلٍّ منها، إلى:
أولاً: الأمسيات المخصّصة لأعمال «صاحب الدورة» دون سواه، وهي تشكل القسم الأكبر من الاحتفالية (13 من 23)، وتكمن أهميّتها، لناحية ريبرتوار باخ، في أنها تطال كل الفئات الموسيقية التي تركها الرجل، من أعمال لآلات منفردة (أعمال للهاربسيكورد ستُعزف عليه أو على البيانو، وأخرى للكمان أو الشيلّو أو الأورغن الكنسي) إلى الأعمال الأوركسترالية وموسيقى الحجرة (افتتاحيات، متتاليات أوركسترالية، كونشرتوهات من مختلف الأشكال وسوناتات لآلتين) والأعمال الإنشادية (قداس، أوراتوريو وكانتاتات).
ثانياً: الأمسيات المطعَّمة (بنسب مختلفة) بأعمال لغير باخ (منها ما هو مكتوب كتحية له من مؤلفين أتوا بعده) إلى جانب أعمال له، وهي قليلة (4 من 23).
ثالثاً: الأمسيات غير الكلاسيكية، لكن المرتبطة بباخ بشكل مباشر (إعداد خاص لبعض أعماله) أو غير مباشر (موسيقى معاصرة تستوحي من أسلوبه في التأليف).
رابعاً: الأمسيات الهجينة أو غير الموسيقية، المرتبطة، أو لا، بباخ، مثل الأمسية الشعرية التي يحييها الممثلَان رفعت طربيه وميراي معلوف بمرافقة عزف حي لمقتطفات من ريبرتوار باخ على التشيلّو (الأول من آذار/مارس) وأمسية الـBreakdance الراقصة على أنغام عزف حي على الهاربسيكورد والبيانو (25 الجاري) وكذلك الأمسية «الغريبة» (مشروع يدمج موسيقى عصر الباروك بالموسيقى الشرقية، الإيرانية تحديداً) التي تجمع الفرنسيَّين، الاسم الصاعد جان روندو (هاربسيكورد) وتوماس دانفورد (لوت/luth) والإيراني كيفان شيميراني (سنطور وإيقاع). الملفت في هذه الأمسية هو أنْ ليس على برنامجها أي عمل ذي علاقة بموضوع الدورة، على الرغم من أنّ لروندو ثلاثة إصدارات، خصّص اثنان منها لباخ حصراً!
ضحّى باخ بالكثير من راحته. سهر الليالي. بذل جهوداً جبارة ليترك كل هذا الجمال الذي أثبت التاريخ والعِلم منافعه على النفس والعقل والأخلاق (أسُس تطوّر المجتمعات). فليس كثيراً عليه، لصالحنا جميعاً، أن تبذلوا بعض الجهد لملاقاته، ليس في «البستان» بالضرورة.
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد