ترامب يطالب دول الخليج بتمويلِ سلخ شرقِ الفُرات عَن سورية الأُم
هُناك مَثَلٌ عَرَبِيٌّ دارِجٌ يقول “عِندَما تُفلِس الحُكومة تعود إلى دفاتِرها القَديمة لإنقاذ نفسها”، ويبدو أنّ الرئيس الأمريكيّ دونالد ترامب يُطَبِّق هذا المَثل حَرفيًّا بأن يَلْجَأ إلى الدُّوَل العربيّة النِّفطيّة، والسعوديّة مِنها بالذَّات، كُلَّما احتاج إلى المال، وواجَه أزَماتٍ داخليّةٍ تُهَدِّد وجوده في البيت الأبيض.قراران اتَّخَذهُما الرئيس الأمريكيّ وإدارته في اليَومَين الماضِيين يُؤكِّدان هَذهِ الحَقيقة:
ـ الأوّل: رَبطِه الحِماية العسكريّة والأمنيّة لدُوَل الخليج بتَخفيض أسعار النِّفط لتَعزيزِ انتعاش الاقتصاد الأمريكيّ، فقد قال في تَغريدةٍ لهُ اليوم “نَحمِي دول الشرق الأوسط، ومِن غَيرِنا لن يَكونوا آمنين، ومَع ذَلِك يُواصِلون رَفعَ أسعارِ النِّفط.. على مُنظَّمة أوبِك المُحتَكِرة للسَّوق دفع الأسعار للانخفاض”.
ـ الثَّاني: إعلانه مُؤخَّرًا تَوقُّف بلاده عن مُساعَدة سوريا على إعادَة الإعمار التي تُقَدَّر بحَواليّ 230 مِليون دولار سَنويًّا، لأنّه يَجِب على الدُّوَل الغَنيّة في الشرق الأوسط، مِثل المملكة العربيّة السعوديّة، تَحَمُّل تِلك النَّفَقات بَدلًا من واشنطن، وصَرَّحت المُتحَدِّثة باسمِه أنّ أمريكا تَمكَّنت من جمعِ 300 مِليون دولار تبرعَّت السعوديّة بمِئَة مِليون مِنها، والإمارات بخَمسين مِليونًا، ولكنّها لم تَكْشِف مَن هِي الدُّوَل الأُخرَى التي تَعهَّدت بالباقِي، وهُناك اعتقادٌ سائِدٌ بأنّها قطر والكُويت.
إذا بَدأنا بالنُّقطةِ الأُولى، نقول أنّ هذا الطَّلب الأمريكيّ بتَخفيض أسعار النِّفط جاءَ قبل حدَثين مُهِمَّين، الأوّل اجتماع لجنة المُراقَبة الوِزاريّة لمُنظَّمة “أوبِك” والمُنتِجين خارِجها في الجزائر المُقرَّر يوم الأحد، حَيثُ يَستبعِد مراقبون الاتِّفاق على رَفْعٍ جَديدٍ للإنتاج، لأنّ الأسواق مُستَقِرَّة على سِعرٍ مُتوسِّطٍ في حُدود 75 دُولارًا للبَرميل، ووسط مَخاوِف بارتفاعٍ حادٍّ للأسعار نتيجة العُقوبات على إيران وتَراجُع إنتاج فنزويلا، أمّا الثَّاني، فهو قُرب تَطبيق الحَظر على الصَّادِرات النِّفطيّة الإيرانيّة المُقَرَّر في مَطلَع شَهر تِشرين الثَّاني (نوفمبر) المُقبِل.
السيد عبد الصمد العوضي، الخَبير النِّفطيّ العربيّ المَعروف دوليًّا، والذي مَثَّل بلاده في مُنَظَّمَة “أوبِك” لِما يَقرُب مِن 15 عامًا، أكَّد في اتِّصالٍ هاتفيٍّ معه أنّ ترامب يَقصِد المملكة العربيّة السعوديّة في هَذهِ التَّغريدة “لأنّها الوَحيدة القادِرَة على زِيادَة إنتاجِها (10 مليون برميل حاليًّا)، بمِقدار نِصف مِليون إلى مِليون برميل يَوميًّا، وبِما يُؤدِّي إلى تخفيضِ الأسعار، وأكَّد أنّ جميع الدُّوَل الأُخرَى، وخاصَّةً الإمارات والكُويت تُنتِج حاليًّا الطَّاقةَ القُصوَى، ولذلِك فإنّ الرئيس الأمريكيّ يتوقَّع أن تقوم السعوديّة بمُهِمَّة زِيادَة الإنتاج في اجتماعِ لجنة المُراقبة في اجتماعِها المُقبِل في الجزائر الاحد، ولكنّه، أي السيد العوضي، حذَّر في الوَقتِ نفسه بأنّ هذا المَوقِف السعوديّ في حالِ الإقدامِ عليه، سيُشَكِّل تَحدِّيًا للدُّوَل الأُخرَى، خاصَّةً روسيا التي تُعارِض أيَّ زِيادَةٍ للإنتاج للحِفاظِ على استقرارِ السُّوق.
تأكيدًا على ما تَفضَّل بِه السيد العوضي، يُمكِن التَّذكير بأنّ الرئيس ترامب اتَّصَل هاتِفيًّا بالملك سلمان بن عبد العزيز قَبل شهر، وطَلبَ مِنه العَمل على تَخفيضِ أسعار النِّفط بزِيادَة الإنتاج السعوديّ وحَصَل على تَعَهُّدٍ بِذلِك.
أمّا إذا انتَقلنا إلى النُّقطةِ الثانية التي تتعلَّق بوَقفِ المُساعدة الأمريكيّة الهَزيلة لإعادَةِ إعمار سورية (250 مِليون دولار)، والطَّلب مِن السعوديّة ودُوَلٍ خليجيّةٍ أُخرَى التَّبرُّع بهذا المَبلغ، يُمكِن التَّوضيح بأنّ هذا المَبلَغ يَقتصِر على المناطِق التي تَقَع خارِج سيطرة الدولة السوريّة، وفي مَناطِق تُسيطِر عليها قُوّات سُوريّة الديمقراطيّة ذاتِ الغالبيّة الكُرديّة في الرقّة وشرق الفُرات، وتتواجَد فيها قُوّات أمريكيّة يُقَدَّر تِعدادها بحواليّ 2000 جندي، وستَشمل المُخَصَّصات الماليّة الخليجيّة الجَديدة تسديد رواتِب أكثَر من 40 ألف جُنديٍّ دَرّبتها ومَوّلتها الوِلايات المتحدة في المَناطِق المَذكورة، إلى جانِب تغطية نَفَقات القُوّات الأمريكيّة.
الرئيس ترامب يُمارِس أبشَع أنواع الابتزاز للمملكة العربيّة السعوديّة ودُوَلٍ خليجيّةٍ أُخرَى تحت ذَريعَة توفير الحِماية لها، ومِن المُؤسِف أنّه مارَس هذا الابتزاز الوَقِح طِوال العامَين الماضِيين وبطَريقةٍ مُهينَةٍ طابَعُها العنجهيّة والغَطرَسة ودُون أن يُحاوِل أحد وقفه، حتّى بطُرقٍ ناعِمَةٍ، ويَدفَع هَذهِ الدُّوَل لإنفاقِ عَشَرات المِليارات على التَّسليح والانخراطِ في “ناتو” عربيّ لمُواجَهة إيران في أيِّ حَربٍ قادِمَةٍ.
لا يُمكِن أن ننسى كيف “عايَر” الرئيس ترامب هَذهِ الدُّوَل بقَولِه أنّه لولا أمريكا لَما بقوا في الحُكم أُسبوعًا واحِدًا، ولسافَروا على مَتنِ الطَّيرانِ الاقتصاديّ (درجة سِياحيّة) وليس على مَتنِ طائِراتِهم الخاصَّة الفارِهَة.في ظِل هذا الابتزاز، الذي ما زالَ في بدايته في رأيِنا، ستَحمَد الكَثير مِن الدُّوَل العربيّة الفَقيرة الله أنّها خارِج هَذهِ الدائِرة، ويَقِف بعضها “شامِخًا” في الخَندقِ الآخَر في مُواجَهة المَشروع الأمريكيّ الإسرائيليّ، وليسَ لديها ما تخسره، بَل رُبّما ما تَكسَبه، أي تحقيق الرِّبح الأكبَر وهو هزيمة هذا المَشروع إن آجِلًا أو عاجِلًا بإذْنِ الله.
رأي اليوم - عبد الباري عطوان
إضافة تعليق جديد