وصية سعدون حمادي
«أوصيكم أن يكون مدفني في مدينة كربلاء في المدفن الخاص بنا بجانب المرحومة والدتكم وبحجم ضريحها وأن يرسم على وجه الضريح خارطة الوطن العربي بحدودها الخارجية وأن يكتب على الضريح بالعربية الواضحة: (أيها المواطنون: عليكم بوطنكم العربي وحدوده في دولة قوية تقدمية فليس غير الوحدة العربية ما يحقق لكم الأمن والنهضة والتقدم، وهي لا بد متحققة بإذن الله وجهادكم).
بهذه الكلمات خاطب الدكتور سعدون حمادي أولاده (محمد أسامة، وائل، سهيل، مازن، غسان) في وصيته التي كتبها بخط يده وأودعها صديق العمر د. خير الدين حسيب، وهو يحضّر نفسه للرحيل النهائي بعد أن نهشه المرض العضال ولم تستطع مستشفيات ألمانيا أن تحاصره وتمنع انتشاره، وكأنه بهذه الكلمات يريد أن يبقى ضريحه شاهدا على دعوته المستمرة من أجل الوحدة العربية التي أفنى عمره نضالا وبحثا وفكرا في سبيلها، خصوصا أنه أوصى أيضا بأن يحوّل كل جنى عمره (26 ألف دولار أميركي) ليكون وقفا للوحدة العربية تخصص عائداتها (ألف دولار سنويا) لعمل من أجل الوحدة.. كم كانت ثروته صغيرة، وكم كان الرجل كبيرا.
لقد استقبلت بيروت سعدون حمادي مرات ثلاثا، أولها في أوائل الخمسينيات حين أتاها في بعثة جامعية حكومية من مسقط رأسه في كربلاء ليدرس الاقتصاد في الجامعة الأميركية، ولكي يؤسس مع الطبيب المتخرج حديثا من دمشق الدكتور علي جابر، وأستاذ الأدب العربي في الليسيه الإنجيلية الوطنية إنعام الجندي الخلايا الأولى لحزب البعث الذي تدرج في صفوفه بعض من عرفهم لبنان في ما بعد مناضلين ومفكرين وكتاباً، وزراء ونوابا ومديرين عامين وبشكل خاص عرفهم شهداء أبطالا في ميادين الكفاح الشعبي والمقاومة الوطنية.
المرة الثانية التي استقبلت فيها العاصمة اللبنانية سعدون حمادي كانت في أوائل الستينيات حين أتاها بعد أن سجن في ليبيا السنوسية لعمله على تأسيس تنظيم للبعث هناك، وحين استحالت عليه العودة الى بغداد آنذاك بسبب الملاحقات الدموية القاسية التي كانت تشمل أبناء التيار القومي العربي من بعثيين وقوميين عرب في عهد الزعيم الراحل عبد الكريم قاسم.
ويروي صديقه الصحافي اللبناني الكبير الراحل ميشال أبو جودة في إحدى افتتاحياته التي كان لها صدى في الوطن العربي الكبير من المحيط الى الخليج: أن سعدون حمادي قد غادر بيروت عشية سقوط نظام قاسم وقد جهّز نفسه لدخول السجن، بارتدائه البيجاما تحت ملابسه مدركاً أنه سيساق من المطار الى السجن الذي لم يبق فيه طويلاً بسبب الإطاحة بالنظام كله.
أما المرة الثالثة التي استقبلته فيها بيروت فكان في خريف عام 2004 بعد أن خرج من سجون الاحتلال الأميركي، اثر تدهور صحته وتحرك منظمات عربية ودولية بما فيها الأخضر الإبراهيمي نفسه (ممثل الأمم المتحدة في العراق آنذاك) للإفراج عنه.
في زيارته البيروتية الثالثة، لفتني الى أن طموح هذا الرجل الكبير، الذي كان وزيرا ورئيسا للوزراء ورئيسا للبرلمان وقياديا بارزا، بات يتلخص في سنواته الأخيرة أن يكون باحثا في مركز دراسات الوحدة العربية الذي ساهم مع خير الدين حسيب وجاسم القطامي، وبشير الداعوق، وأديب الجادر، والراحلين د. عبد الله الطريقي ويوسف صايغ، ونخبة من الشخصيات في تأسيسه عام 1976 وتولى رئاسة مجلس أمنائه حتى عام .1991
وفي لقائي الأخير به في بيروت قبل ساعات من المغادرة الى قطر، كان سعدون حمادي مسكونا بفكرة تشكيل خلية عمل من أجل الوحدة العربية، تسعى الى متابعة كل القضايا المتصلة بالوحدة، فلا تنغمس في الشأن الداخلي لأي قطر من الأقطار، ولا تغوص في الخلافات الدائرة بين القيادات والأحزاب والفصائل، بل تركز على مشاريع محددة تؤدي الى تحقيق هدف الوحدة على غرار تلك الخلية التي قامت في أوروبا بعد الحرب العالمية للعمل من أجل الوحدة العربية، وبدأت مع جان مونيه بمشروع اتحاد الصلب والحديد الأوروبي الذي كان اللبنة الأولى في مسار الوحدة الأوروبية.
ومما أذكره دائما قول لبشير الداعوق (الأستاذ اللبناني في علم الاقتصاد في الجامعة الأميركية في بيروت و«صاحب دار الطليعة») حول هذه العلاقة: لي صديقان في العراق هما خير الدين حسيب وسعدون حمادي، ولكنني لا أذكر أنني استطعت أن أجتمع بهما سويا في بغداد، لأن حين يكون أحدهما خارج السجن يكون الآخر داخل السجن، وحين يكون أحدهما داخل العراق يكون الآخر خارجه.
وقد لا تسمح الظروف الأليمة اليوم بأن يدفن ابن كربلاء في مدينته العابقة بالمراقد والمقامات والرموز المقدسة، ولكن حتماً سيأتي يوم يستقبل فيه كل العراقيين رفات سعدون حمادي بما يستحق من حب وتقدير.
معن بشور
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد