03-08-2020
أندري كونت سبونفيل: فـي مفهوم الموت
ترجمة:حسن أوزال
“إذا كان بوسعنا نحن مَعشر البَشر ، أنْ نَنْعَم بالأمان في سياق ارتباطنا بالعديد من الأمور ،فإننا مع الموت،نُقِيم في مدينة بلا أسوار” أبيقور
إن الموت من وجهة نظر فكرية، موضوع هامّ ومُستحيل في نفس الوقت . هامّ مادام أن حياتنا كلّها تَحمِل بَصمته، كما لو كان ظِلا للعدم (فلو لم نَكُن منذورين للموت ،لأضحى بدون شك ،لكل لحظة من لحظات حياتنا ،مذاق مختلف، ولون متميز) أو كما لو كان نقطة هروب بالنسبة لنا من كل شيء.لكنه مستحيل ، مادام أن كل ما في الموت، لا يمكننا أن نُحيط به فكريا. فما يَكونُ الموت ؟ هذا ما نَجهله ولا يُمكننا أنْ نَعرفه. إنّ هذا السِّر العظيم هو ما جعل حياتنا مليئة بالألغاز، وهي بذلك أشبه ما تكون بطريق لا نعرف إلى أين يؤدي، أو بالأحرى أننا لا نعرف إلى أين يؤدي إلا فيما بعد (عند الممات)، لكن دون أن نعرف مع ذلك، ما يَكْمُن وراء ذلك – وراء اللفظة، ووراء هذا الأمر – ولا حتى إِنْ كان ثمة وجودٌ لشيء ما.
إنّ هذا السر الذي منه تبدأ الإنسانية (لا يوجد في الحقيقة حيوان تساءل أبدا عما يكون الموت) سِرٌّ لا يخلو بالتأكيد من إجابات، حيث لم يَكُفّ الفلاسفة قط عن الرد عن سؤال:”ما الموت؟”. والحق أن الميتافيزيقا في جزء كبير منها،لَعبتْ دورا هاهنا؛مما أثر على أجوبة الفلاسفة التي يمكننا تقسيمها باختصار شديد إلى قسمين:إذ منهم من يقول بأن الموت هوّ بمثابة لاشيء (مجرد عدم)؛ بينما الآخرون يؤكدون على أنه بمثابة حياة أخرى، أو أنه استمرارٌ لهذه الحياة نفسها، باعتبارها حياة طاهرة ومُتحرِّرة… إنّ هاتين الإجابتين هما طريقتان لنفي الموت سواء كعدم،مادام أن العدم هو لاشيء، أو كحياة ما دام أن الموت حينئذ يُعتبَر حياة ثانية. من ثمة يبدو أن التفكير في الموت هوّ ما يعني العمل على إنكاره :هكذا يَنفلِتُ مِنّا الموضوع بالضرورة. فالموت هو لاشيء (أبيقور) أو أنه بالأحرى ليس بموت (أفلاطون) بل حياةٌ أخرى.
وعلى ما يبدو فمن المستحيل العثور على حلّ أوسط مُمْكن،مابين الحدَّين الاثنين، عدا ذلك الحل الذي ليس بحلّ في شيء، مادام يقوم على الجهل واللا يقين والشك أو لنقل اللامبالاة… لكن هذا الموقف الثالث ليس إلا الموقف الذي يأخذ بعين الحسبان كل ما ينطوي عليه الموقفان السالفان من هشاشة ولا يقين، مادام أنّ الجهل هوّ قَدَرنا، كلّما تَعلَّق الأمر بالموت . وعلاوة عن ذلك، بوسعنا القول بأنّ هذين الموقفين السالفين، يُعبِّران عن تصورات متناقضة خاضعة من حيث هي كذلك للمبدأ الثالث المرفوع ، أكثر مما يُعبِّران عن مواقف متطرفة . تبعا لذلك ،من اللازم إذن أنْ يكُون الموت شيئا ما،أو أنْ لا يكُون أيّ شيء.لكنه إنْ كان شيئا ما،وهوّ ما به يتميز عن العدم،فلن يكون سوى حياة أخرى،أكثر ظلاما إلى حدّ ما أو نورا، من الحياة الأولى وذلك بحسب الحالات أو الاعتقادات.لنقل باختصار أن سؤال الموت ، إِنْ كان يَختَرِق بقوة تاريخ الفلسفة والإنسانية، فذلك لا لشيء إلا لأنه لا يَقْبَل أبدا إلا نوعين من الأجوبة:هناك أولئك الذين يعتقدون بكل ما أوتوا من حَزْم بأنّ الموت عَدَمٌ مُطْلَق (وفي هذا النطاق بالضبط ينضوي كل الملاحدة والفلاسفة الماديين) وهناك أولئك الذين بخلافهم لا يَرَوْنَ فيه إلا انتقالا وعبورا مابين حياتَيْن،إنْ لم نقل أنه بنظرهم بداية الحياة الحقَّة (كما تُصرِّح بذلك معظم الديانات وبمعيتها كل الفلسفات الروحانية أو المثالية).هكذا يبقى السِّر بالرغم من ذلك قائما ،طالما أن التفكير في الموت كما قُلتُ هو إنكاره.لكن هذا الإنكار، لم يُعْفِ أبدا أيّا كان من الموت مثلما لم يُخْبِرْهُ مُسبَقا بما يكُونه الموت أو بما يَعْنِيه.
هذا ما سيدفعنا إلى طرح سؤال آخر هوّ: ما الجدوى من التفكير في قضية لا حلّ لها؟. والحق أنّ الأمور التي عليها تقُومُ حياتنا كلّها وكذا سائر تمثلاتنا ،إنما هيّ أمورٌ تَعُود بالأساس إلى هذه القضية التي هي قضية الموت،كما لاحظ باسكال:ذلك أنّ أسلوبَ عيشنا وكذا نهج تفكيرنا يتوقفان على اعتقادنا بوجود حياة أخرى بعد الموت أو عدم وجودها .أمّا مَنْ لا يُريد أن ينشغل إلا بقضايا قابلة حقا للحل(و من ثمة لن تعود قضايا)، فهوّ مُجبَر على أنْ يتخلى عن التفلسف بالمرة. لكن كيف يستطيع ذلك، دون تَخلُّصه من ذاته أو تضحيته بجزء من العقل؟ . ولمّا كانت العلوم لا تُجيب على أيّ سؤال من الأسئلة المهمة التي نطرحها على ذواتنا من قبيل: لماذا يوجد هنالك شيء بدلا من لا شيء؟هل تستحق الحياة أن تُعاش؟ما معنى الخير؟و ما معنى الشر؟هل نحن أحرار أم مجبرون؟هل الله موجود؟هل هنالك حياةٌ مابعد الموت؟، فهذه الأسئلة التي قد ننعتها بالميتافيزيقية بشكل عام (إنها تتجاوز حقا كل فيزياء ممكنة) هي ما جَعلنا كائنات تُفكِّر، أو بالأحرى كائنات تَتفلسَف ( إنّ العلوم بدورها تُفكِّر،لكنها لا تَطرَح مِثْل هذه الأسئلة) وتستأهل أنْ نُطلِق عليها بالتالي اسم الإنسانية أو المنذورين للموت على حدّ تعبير الإغريق؛ لكن المنذورين للموت هنا ليس بمعنى أولئك الذين سيمُوتون-فالحيوانات أيضا تَمُوت-بل بمعنى أولئك الذين بالرغم من كَوْنهم يَعرِفون أنّهم سيمُوتُون، فهُم لا يَعرِفون،ما الذي يَعْنِيه فِعْل الموت ولا يستطيعون فضلا عن ذلك،أنْ يكُفُّوا عن التفكير في الموت…إلى هذا الحدّ يتبدى أنّ هذا الموت الذي ظل مُشْكِلا ملازما للإنسان، باعتباره حيوانا ميتافيزيقيا، هوّ ما لا يتطلب حلا أكثر مما يتطلب بالأحرى، المواجهة لا غير.
نُلفي في ذات السياق عند “مونتاني” ،عبارة شهيرة صِيغَت بالفرنسية على النحو التالي:”أنْ نَتفلْسف هوّ ما يعني أنْ نَتعلَّم أن نَمُوت…”وهيّ بالمناسبة عنوان الشذرة العشرين من كتابه الأول.لكن الواقع أنّ “مونتاني” هوّ من اقتبَس هذه الفكرة دونما شك، من “شيشرون” الذي يُقدِّمها بدوره في مؤلفه “توسكولوم” les tusculanes، باعتبارها قولة لأفلاطون…لنقل أنها فكرة تعود في الأصل إلى أفلاطون، وتَمّتْ ترجمتها أوّلا إلى اللاتينية من لدن شيشرون،ومنها إلى الفرنسية من لدن مونتاني…لكن الأهم إنما هو ما تنطوي عليه هذه العبارة من معنى ،يُمْكِننا استيعابه وِفق طريقتين مختلفتين،كما لا حظ مونتاني سلفا؛طريقتين في سياقهما تُحْسَم الحياة على هذا النحو أو ذاك تماما مثلما تُحْسَم أيضا الفلسفة في جزء كبير منها.
لعلّ المعنى الأول هو المعنى الأفلاطوني ،الذي بموجبه يضحى الموت ،باعتباره حالة الفصل مابين الروح والجسد،هو غاية الحياة؛وهي غاية تعمل الفلسفة من جهتها على بلوغها بأقل ما يمكن من جُهد وعبر أقصر الطرق. لكن هل يُفيد ذلك الإقدام على الانتحار؟ لا بالعكس مادام أن الأمر يتعلق بحياة أكثر حيوية، وأكثر صفاء، وأكثر حرية،لأنّ الروح سرعان ما تَكُون قد تَحرَّرَتْ من هذا السجن-لنقل من هذا القبر بتعبير الجورجياس-الذي هو الجسد…ذلك أن ” الفلاسفة الحقيقيين،على حدّ توكيد أفلاطون ،هُم الفلاسفة الذين ماتوا سلفا”ولم يَعُد قط يُزْعِجُهم الموت:إذ ما الذي سيأخُذُه منهم؟
أما المعنى الثاني الذي يُفرِده “مونتاني” لهذه العبارة،فهوّ المعنى الذي بموجبه يضحى الموت “حدّا” للحياة و”نقطة نِهايتِها”أو اكتِمالِها(وليس هدفَها )الحتمي بالأحرى لا “غايتَها”.لذلك ينبغي لنا أنْ نَستَعِدّ للموت،و أن نَقْبَل به مادام أنّه ليس بوسعنا أن نَنْفَلِت منه، لكن دون أن نستسْلِم له على نحو يُخَرِّبُ فيه حياتنا ويُفْسِد علينا سعادتنا.وإذا كان مونتاني في محاولاته الأولى، يُصِرّ على أنْ يُفَكِّر في الموت على نحو مستمِرّ لِكَي يَأْلَفه ويَتَهَيَّأَ له ، ويبقى مُستمِيتا في مُجابَهته (se roidir contre la mort) كما يقول ،فهو مَنْ صار ،في ما تَلا مِن المحاولات،مِن فرط قُبُولِه بالموت والتعاطي معه بِيُسْر ولُطْف على مَرّ الزمان ، يَظْهَر بِزَيّ المُتعوّد على هذا الأمر ،حتى غدا التفكير في الموت بالنسبة إليه أقل ضرورة ودونما حاجة ماسة أو داعٍ كبير. ولئن كانت نجاحات، إنْ لم نقل انجازات مونتاني، تتميز بالتطور لا التناقض ،فالرجل بدل أنْ يَعْتَرِيه القلق أو يَدَّعِي الجرأة التي هي مُجرَّد لحظات عابرة بنظره،يَنْزَعُ مَنْزَع اللامبالاة، باعتبارها ما لا يعني التسليّة أو النسيان بل القبُول الصارم بالموت. وهذا ما عبَّر عنه باقتضاب شديد، في إحدى عباراته الرائعة والنادرة على النحو التالي:”إنني أُرِيد أنْ أبقى فاعلا بشكل أستطيعُ فيه أنْ أُوَسِّع مِن مكاتِب الحياة قَدْر الإمكان،حتى يُفاجِئني الموت وأنا أغْرس الكرنب ،غير مُكترِث به ولا حتى بحديقتي الناقصة”. لعلّ التفلسف، إنْ كان والحالة هاته ،هو ما يعني أنْ نَتعلَّم الموت، فذلك ليس إلا لأنه هو أيضا ما يعني أنْ نَتعلَّم الحياة مادام أنّ الموت- فكرة الموت،و حتمية الموت- جزء لا يتجزأ من هذه الحياة.لكن الحياة هيَّ الأهم لوحدها لا غير .لذلك دَأَب الفلاسفة الحقيقيون على حُبِّها كما هيّ ،دون أن تُزْعِجهم حتى ولئن كانت تنتهي بالموت.
وسواء تعلق الأمر بالعدم أو بانبعاث جديد، وسواء كانت ثمة حياةٌ ثانية أو لَمْ تَكُن حياةٌ بالمرة، فنحن لا نَمْلِك أمام هذين الخيارين إلا أنْ نَنْحاز اتجاه أحدهما أو أنْ نَعْدل نهائيا عن كل اختيار تماما مثلما يفعل أنصار النزعة الإرتيابية أو مونتاني نفسه : فنتْرُك السؤال مفتوحا كما هوّ بالفعل،مُتمسِّكِين فقط بهذا الأفق الذي هو الحياة.لكن تلكم مرة أخرى هي أيضا طريقةٌ للتفكير في الموت،وهو أمر من الضرورة بمكان. إذ كيف بنا أن لا نفكر في هذا الذي يُعتَبَر بالأحرى بمثابة الأفُق بالنسبة لكلّ فِكْر كما بالنسبة لكلّ حياة؟
لكن سبينوزا، بالرغم من ذلك يكتب قائلا:”إنّ الإنسان الحرّ ، هوّ الإنسان الذي لا يشغل بالَه بالموت ؛ ذلك أنّ حِكْمته تأَمُّلٌ في الحياة أكثر مما هي تأَمُّلٌ في الموت”. وإذا كان الجزء الثاني من هذه الجملة يبدو عاديا ، فالجزء الأول ينطوي على ضرب من ضروب التناقض ؛ إذ كيف لنا أن نتأمَّل الحياة – أيْ أنْ نتفلسف- دون أنْ نُفكِّر أيضا في قِصَرها وكَوْنِها عابِرةٌ وآيلةٌ للزوال؟ وحتى ولئن اعتبرنا أنّ الحكيم (وحده هو الكائن الحُرّ بنظر سبينوزا) هوّ مَنْ يُفكِّر في مسائل الوجود والحياة والقوة بدل أن يُفكِّر في مسائل اللاوجود والموت والضعف،فهل يُمْكننا أن نُفكِّر في الحياة حقيقة، دون أن نُفكِّر فيها أيضا – كلُّ تَحديد هوّ نفي- من زاوية أُفُولِها ونِهايتِها؟
لكن سبينوزا مع ذلك،هوّ من يَتدارَك هذا الأمر،في نص آخر من كتابه “علم الأخلاق”،مُتجاوزا هذا النوع من التفكير الأحادي، ومُوَضِّحا على أن ثمة بجانب كل كائن محدود، كائنا آخر أقوى منه، بوسعه أنْ يُجْهِز عليه في أية لحظة.و هذا ما يعني أن الرجل يَعترِف بأنّ كل كائن حيّ منذورٌ للموت بِطبْعه،و بألاّ أحد يستطيع أنْ يعيش أو أن يستمرَّ في العيش دون أن يُقاوِم هذا الموت الذي لا يلبث يُهدِّدُه مِن كلّ حدب وصوب ويُلاحِقه.فنحن كائناتٌ منذورة للموت لا لشيء إلا لأن الكَوْن أقوى مِنّا والطبيعة أَعْتد . وإذا كانت الحياة هي ما يعني الصراع والمقاومة والإستمرار في البقاء، فالحقيقة هيّ أنْ لا أحد يستطيع الإستماثة في ذلك إلى ما لا نهاية. بحيث أنّ كلّ كائن حي، سرعان ما يَجِد نفسه، مُجبرا على الموت في آخر المطاف، طالما أنّ الموت هوّ الغاية الوحيدة المرصودة له من حيث هو كذلك .تبعا لذلك ، يتبدى أنّ التفكير في الموت باستمرار هوّ ما يعني التفكير فيه بشكل مُفرط؛ أمّا عدم التفكير فيه على الإطلاق فهوّ ما يعني أنك تَخلَّيْتَ كُلِّيا عن التفكير.
علاوة على ذلك، نلاحظ ، بأنّ ما مِن أَحَد حُرّ بشكل مُطلَق تماما مثلما أنه ما مِن أَحَد حكيم كُلِّيا. وهذا ما يَمنحُنا أيّاما رائعة أو ليالٍ مريرة كفرصة إضافية يلزمنا القبول بها للتفكير زيادة في الموت.
وإذا كان لنا أنْ نأمل من جهة أخرى، أن تكُون هناك حياة ثانية بعد الموت ،فذلك لا لشيء إلا لأنّ هذا الأمل وحده هو ما سيسمح لنا بالعثور على الجواب الشافي عن السؤال المتعلق بالموت. لكن لعمر الجرأة ولا الأمل كانا برهانين كافيين.
أما إذا كان البعض يرى أنّ الموت خلاصٌ سيلوذ به ربما أو يَجِدُ على حدّ تعبير أفلاطون أنه بالأحرى “مجازفةٌ رائعة تستحق العناء”، فإنّ البعض الآخر الذي لا ينتظر من الموت أيّ شيء يُذكَر،يرى أنه بالرغم من ذلك ،فرصةٌ للراحة ومناسبةٌ للتخلُّص مِن العَياء. هكذا يبقى كِلا التصوُّران ، مُمتِعان أو قاب قوسين من ذلك ،طالما أنّ فكرة الموت قد تفيدُنا كثيرا ،سواء من حيث تعاطينا مع الحياة برضا، جراء الأمل أو من حيث تعامُلنا معها باعتبارها ما لا يقبل التعويض جراء فَرادَتِها. ومن الجدير بالذكر على أنّ الموت هو ما يبدو في كِلتا الحالتين حُجَّة ،تدفعنا إلى الحِرص كُلِّيا على عدم تضييع أية لحظة من لحظات الحياة.
أما فيما يَخُصُّني أنا، فلا أخفيكم سِرّا إنْ قُلتُ لكُم أنني أَعْتبِر نفسي مِن أولئك الذين يُرجِّحون كَفَّة العدم ،سيما وأنّ نسبة احتمال الموت الكبرى تجْعلُني أتعامل معه عمليا كما لو كان يَقينًا مُطْلقا.على هذا الأساس فإني بقدرما أُحاوِل أنْ أتدبَّر أمْري معه قدْر المستطاع،بقدرما أجِدُ أنّ ذلك يُناسبني إلى حدّ ما.و إذا كان مَرَضُ أقربائي يُحزنني أكثر مما يُحزنني موتهم،فإنّ موتهم أشدّ حُزنا عليّ من موتي.ذلك ما اكتسبتُه بفعل التقدُّم في السِّن ربما،أو بفعل الأبُوّة،بحيث أنّ موتي لن يُحرِمني إلا مِن ذاتي؛وهوّ بذلك يكاد يُحرِمني مِن كلِّ شيء في نفس الوقت الذي لا يُحرِمني فيه مِن أيّ شيء: مادام أنه بَعد موتنا يَستَحِيل أنْ نَشْعُر بالحرمان من أيّ شيء كيفما كان.أمّا موت غيرنا، فهوّ بخلاف ذلك ليس واقعيا فحسب، بل هو أيضا جِدّ محسوس وجِدّ مُؤلِم.لكن كل هذا للأسف ، ليس يُعْفِينا مع ذلك من مواجهته أيضا. وهذا ما ندعوه بالحِداد الذي أوضَح “فرويد” أنه قبل كل شيء آخر،اشتغالٌ على الذات،يتطلب وقتا كما هو معلوم وبدونه لن يستطيع أحدٌ، أن يتصالح مع الوجود إطلاقا.”لنتذكر،بالمناسبة هذا المثل القديم الذي أَوْرَده “فرويد” ضمن أبحاثه في التحليل النفسي :Si vis pacem,para bellum. “إذا أردتَ أن تُحافِظ على السِّلم فَعُدّ نفسكَ للحرب”. وقد حان الوقت لتعديله كالتالي :”si vis vitam,para mortem . “إذا كُنتَ ترْغبُ في كسْبِ المَقْدُرَة على تَحمُّل الحياة،فعليك أن تَكُون مُستعدا لقُبُول الموت.” لكن ألمْ نُسيء التعبير عندما تَكلَّمنا عن تَحمَّلِ الحياة؟ أكيد.لذلك كان حَريّا بنا أنْ نقُول :”إذا أرَدتَ أنْ تُحِبّ الحياة،و رَغبتَ في تثمينها بكل جلاء،فلا تنسى بأنَّ الموت جزء لا يتجزأ منها”. ذلك أنّ القُبول بالموت- موتنا الشخصي وكدا موت أقاربنا- هو السبيل الوحيد الكفيل بأنْ يَجعلَنا كائنات أشدّ ما تكون وفاء للحياة.
الحقيقة هي أننا موتى وعاشقون للموتى في الآن ذاته:هذا ما نَكُونُه وهوّ ما يُمَزِّقُنا.لكن هذا التمزق الذي جعل مِنّا رجالا ونساء هوّ أيضا ما يَمنَح الحياة قيمتها العظمى.إذ كيف بوسع الحياة أن تضحى ثمينة ونادرة ومدهشة لو لمْ نَكُن منذورين للموت ولوْ لمْ يكُن وجودنا قابلا للانهيار والتلاشي بين ثنايا الموت الحالكة ؟”إن تمثلنا الخاطئ للموت ،هوّ ما قد يُؤثِّر سَلَبا على أبْسط لحظة من لحظات حياتنا ،فيردُّها بلا قيمة على حدّ تعبير “جِيد””.من اللازم علينا إذن أنْ نُفكِّر في الموت حتى نُحِبّ الحياة بشكل أفضل- لكي نُحِبَّها على أية حال كما هيّ: هشَّة وعابرة- ونُثمِّنها أكثر ونَعيشَها بشكل أحْسن. ولعلَّ ذلك هوّ ما يُبرِّر كفاية كلّ ما بدلْناه مِن جُهد في هذا الفصل.
المرجع :
André Comte-Sponville ،Présentations de la philosophie،éd ،Albin Michel S.A 2000 de la page 51 à 58 .
إضافة تعليق جديد