غاليري ألف نون يحتضن معرض "مأدبة العروس" لطلال معلا
كتب بديع جحجاح:
"إن لحظة من الظلام لا تعني أن الناس قد أصيبوا بالعمى".. ربما حديث ماركيز عن دور النخب في التغيير لا يزال ينطبق تماماً على حال النخب الثقافية اليوم، الذين تصنفهم دراسات حديثة واتهامات بأنهم لم يعودوا يحركون الشارع، أو يغيرون في سلوكياته وثقافته، كما هي الحال في القرنين الـ19 والـ20.
إلا قلة نادرة تحمل هذا الهم وتضعه نصب أعينها فتبني لغات تواصل جديدة معاصرة بسيطة وعميقة أساسها الفكر المنفتح والتمازج الثقافي وإيجاد آليات لتطوير الهوية المحلية والحفاظ عليها وجعلها مواكبة لما يحصل في العالم.. هكذا ترى ألف نُون الفنان الباحث د طلال معلا أنه من النخب القليلة جدا التي تحمل على عاتقها التغيير من خلال ممارسة العمل الذهني وانتاج الآداب والعلوم والفنون.
في سبيل ذلك يتسم دوره بالطابع النقدي التنويري الواعي لما يدور حوله نتيجة ما راكمه من معارف عالية القيمة ومن ثم العمل على الوعي الجمعي في سبيل التغيير والاندماج المجتمعي.
اتفقنا منذ زمن بعيد على أن الثقافة درب تؤنسن كل القبح الذي يحيط بنا .. هناك فرق كبير بين المثقفين وبين البشر وبين كثيرين ممن يدعون الفن .. وحدهم الساعون إلى الحقيقة هم من يستضيئوا نورها المقدس والتي سيجدونها قطعاً في العمل الجاد المسور بالأخلاق والممتلئ بأنواع المعرفة كحقول قمح.
في معرضنا هذا ستجدون جرعات مكثفة من الأسئلة وربما ستسمعون إلى أجوبة صامتة عند عتبات عروس تنتظر ومأدبة نأمل أن يغادرها يهوذا للأبد ووجوه مبعثرة في ضباب الأيام تترقب القادم.
...............................................................................
عمار حسن يحاور طلال معلا حول معرض "مأدبة العروس"
وجوه، أجساد، تشكيلات جديدة يطوفها طلال معلاّ في هذا المعرض، وجوه تفقد ملامحها وتستعيدها على إيقاعات التقنين الحاد، والأمل الصارخ باستعادة ترف العيش.
حتى أنه أقام مأدبة في زمن النزف ويا لها من مفارقة أن تقام مأدبة للعروس، كنعوة وإشهار للغياب، وليس كل حضور حضور! وهكذا ليس كل غياب غياب! ولا كل مأدبة مأدبة! العروس قد تكون وطن، وقد تكون نحن، هي، أو هو، ذات الفنان، أو حلمه المحروق، أو حلمه الذي فاض وأمتلك رؤية الغد، فأكتست اللوحة وعيناه بالأبيض الحريري، لتكون المأدبة والقيامه!
ولكن الأبيض ليس لون، وليس للفرح وحسب وليس للموت وحسب..!
عرض سنرانا فيه.
• وضوح المرسل التعبيري في أعمالك يخفي طبقة أعمق من التعبير ربما تستعصي حتى على المختصين، هذا الوضوح الغامض جداً كيف يُقرأ؟
أشكرك لانك قلت )غامض( وهذا )غير المبهم(، أنت تسأل عن جانب مهم وهو فهم العمل الفني، وليس تلقيه كما هو.
الصورة واحدة عند كل المجتمعات لكن المفردات التي توصل المعنى هي المختلفة، اذاً فالاعتماد هو على مجموع الإشارة المسبقة التي تنظم عملية الفهم، وترسم خطوات المتلقي إلى العمل الفني، وهنا نسأل ما هي احتياجات المتلقي؟، هل هي روحية أم عقلية وكيف يمكن أن تفلح أفكار الفنان لتحقيق الهدف، وبهذا المعنى نحن نتكلم عن فنان مكتمل التجربة، أي فنان يمتلك لغة التواصل بينه وبين متلقي قواه الحيوية الجاهزه للتلقي.
ليس غامضاً، لكن هناك حجاب بين المتلقي والعمل وهي بحاجة لضبط معرفي بين الطرفين.
لغة العمل الفني هنا هي لغة مستقبلية، فيما النقاد والمهتمين بلغة الحاضر. إن لم يكن بلغة التاريخ، المشكلة تكمن بهذا الفارق الذي يتراكم بزيادة تجاهل المستقبل.
• وهل يحدد المتلقي شكل رؤية العمل الفني برأيك؟
هذا طبيعي من وجهة نظر المتلقي، فثمة من يذهب إلى الفني روحياً، وهذا يشعل ملكة التلقي عنده ويوقظ إمكانية التصور، فثمة من يرى العمل الفني كمفردات عقلية عندما يصور العمل التراجيديات الإنسانية، ولا يمكن الحكم على التراجيديات والدراما التعبيرية من منطلق جمالي وروحاني، فالألم له منطقه الخاص، وتقاطعه مع المتلقي محكوم بخبرات ذاتية، وقد تختلف هذه الخبرات بين المتلقي والفنان، ولرؤية العمل الفني تأثير بهذا الجانب.
قد تكمن المشكلة بهذا الخلط ما بين تصورات المتلقي الجاهزة للحكم والرؤية وبين عمل مفتوح على الكثير من الاتجاهات.
• الكثيرون لا يعرفون مدى اتساع تجربتك الفنية، لكنهم يعرفون بدرجة أكبر أيقونات الوجوه، التي مرت بالكثيرات من التكرارات والصيرورات المختلفة، فهل لا تزال هذه الوجوه تكتنز المزيد من الخصوبة الفنية والسرديات الحياتية؟
العمل الفني شيىء ورؤى الفنان شيىء آخر، العمل الفني هو جزء صغير من كينوينة الفنان، يعتمد العمل على التوليدات الشعرية لأجزاء من سرد ما يشعره الفنان تجاه الحقيقة، والمعلوم أن الحقيقية هي حالة متبدلة، ومن هذه الأجزاء الصغيرة يتشكل العمل الفني الذي ينطوي على سرد حقائق مختلفة لا يمكن أن تشكل مرجعيات بالنسبة للفنان، فكل عمل فني يبدأ من الصفر وينتهي بالمطلق، ليعيد مرة أخرى تشكيل الأفكار، في هذه الحالة فإنه يطور العلاقة من ذاته من جهة، ومما تقتضيه الصورة لتصل إلى الآخرين من جهة أخرى.
عادة يراقب الفنان تجربته ليصل إلى حقيقة الموقف، والمواقف على صلة بالأحداث والمستقبل والأساطير الصغيرة التي يحدثها الفنان.
هناك جدلية دائمة بين الفنان وموضوعه كجدلية الإنسان مع الموت، لذلك تتوالد الصور وتتحقق في الوجود من بعضها البعض، ومن الموضوعات بشكل عام (بالنسبة للفنان) كالوجوه مثلاً.
دائما هناك شهوة جارفة للتعرف على ما تختزنه هذه الوجوه، وهي متغيرة وفق إيقاعات بصرية ومعرفية، أنا أرسم المواضيع عبر الوجوه، والوجه هنا هو وسيط رغم أنه يمتلك سلطة الحكاية. لذلك لا يمكن اعتبار التكرار هو تكرار بالمعني الحرفي ما دامت المواضيع التي يحملها متغيرة كل مرة، وهو ما يجعل العمل أكثر حيوية ودوراناً كونه يلامس الفعل الإنساني الخلاق، وتوضعه ضمن اللوحة يجعله خارج القوانين، أنا أصور وأرسم وأعبر بهذه الطريقه التي أفكر بها.
ما يبقى هو اللوحة أو الفن، فالفنان زائل، أما جوهر العمل فيقوم على عدم اكتمال الصورة كي تبقى مختبراً مفتوحاً على توالد الرؤية والسؤال، والغموض هنا هو نتيجة لعدم اكتمال الصورة الدائم.
• حتى اليوم، هل يعتقد طلال معلا أنه كرس حالة فنية قادرة بالمعنى الفني والرؤيوي على البقاء في المستقبل؟
ما زلت أقدم تجربة غير مكتملة حتى الآن، وتجربتي تائهة بين تجارب الآخرين تتوق إلى لحظة اكتمالها، وأن تفصح عن أسرار تحققها، وأن يتمكن الآخر من رؤيتها رؤية بصرية وبصيرية، هذه التجربة هي نوع من الممارسة الإنسانية الواعية لحقيقة الفن، والكشف عن ظواهر موجودة ولكنها غير مرئية.
• بعد هذه السنوات الطويلة من الخبرة الفنية، يمكن الحديث عن نضج فني، هل وصل طلال معلا إلى هذا النضج، وهل هو أمر جيد أن يصل الفنان إلى النضج الفني؟
النضج باللوحة مرتبط بطريقة عرضها وطريقة إيصال حقائق التصور والتنبوء عن الموهبة، حتى أنا لا أعرف ما هي المرجعيات الضاغطة في تجربتي كي أقدم نموذجاً ناضجاً.
• اتصالك مع ما نعيشه وأنت ترسم يومياً أليس هذا مرجعاً ضاغطاً ونموذجاً آنياً لفن الآن؟
أنا لا أعتقد أن الاتصال الآني مع الحدث هو اتصال مع النموذج الذي أتكلم عنه؛ أرى إن القضية مع الحدث الآني والاستلاب الذي تولده هذه القطيعة قد يعود الى تصور الأحداث بشكل مختلف للوصول إلى دلالات عبر هذه القطيعة، دائماً تكون الأحداث فرصة تصويرية تعبيرية، أي وسيطاً للوصول إلى الحقائق، لكن القطيعة تفتح الجمال لرؤية الوجه الآخر لهذا الواقع أو لهذا العالم.
• هذه القطيعة: أليست نوعاً من الانفصال عن الواقع بينما أنت تعيشه وتكرسه للتغيير من أجل المستقبل على أكثر من صعيد؟!
في الفن لا يوجد ما اسمه الواقع الملموس أو الحدث الذي يعامل معاملة المطلقات، لأنه يبرز الصراع في هذا المجال، فالواقع والأحداث الصغيرة المتغيرة هي سجن كبير للتصورات، حين يكون الفن يكون التعامل من خارج أسوار هذا السجن للوصول الى المستقبل.
• لكنك مع ذلك ترسم الواقع، الخراب، الألم، الموت، ورموز الحرب؟
لا أنكر علاقة الصورة بالغاية التي تبرر تحققها، وما الإشارات التي تشير إليها لربط الصورة بحيز زماني أو مكاني إلا جوهر المعنى المعرفي، الذي هو جزء من فراغ أو وهم يحيل إلى الكثير من المواضيع أو الأماكن أو الحركة في الزمن للأمام أو للخلف. عدم الارتباط بجزئية معينة هو جزء من التوجه الإنساني الشامل في البحث عن الحقائق، أنت تقول هذا لأنك ترى العمل من زاوية المكانية، لكنك لو كنت في مكان آخر من العالم فأنت لن تعرف حدود هذه المكانية.
الحدث الذي أتصل به وأرسمه هو الشرارة فقط، لكن انفجار اللوحة التعبيري والفني هو أشمل بمعنى آخر، حين أرسم عن تأثيرات الحرب معنى هذا أني أرفضها في كل مكان وخصوصاً في بلدي، لأنها طالتني مكانياً وزمانياً وحضارياً، لكن اللوحة أكثر من المكان والزمان والحدوثات.
• يمكن النظر إلى لوحتك من خارج التصنيف المدرسي، وإن كانت تنتمي إليه، وهذا يشكل تحدياً عند قراءتها، حتى بالنسبة للمختص، فمن جهة أنت تتجاوز مفهوم الحداثة ومن جهة أخرى تنتمي لهذا المفهوم، كيف نفض هذه الإشكالية؟
يرتبط الطرح في لوحتي بما بعد الحداثة، لكن الأدوات ما زالت تقليدية، مع تشتت المفاهيم حول الحداثة ومع مابعد الحداثة أو مابعد بعد الحداثة، نعود لنطرح على أنفسنا السؤال: ما هو الفن؟!
الفن في النهاية هو ذات الإنسان التي كلما ضاقت الأمور حاول الفلاسفة تهديدها بالموت، لكن لا يمكن نهائياً التنبوء بموت الأشياء مادام هناك إنسان على وجه الأرض، الفن حالة تجريبية مستمرة سواء أطلقنا عليها المصطلحات الافتراضية التغيرية أو لم نطلق.
نحن نتعامل مع كائن متحول ومتغيير على صلة بثقافات الإنسان، إذا أراد النقاد أن يقولوا هذا الفنان ما بعد حداثوي كونه خارجاً عن الأعراف لتاريخ الفن فهذا شأنهم، وسيأتي من يقرأ بلغة مختلفة مع اختلاف المفاهيم وتطور الثقافة البشرية، اليوم قد أكون في طرحي ما بعد حداثوي، لكن هذا يبقى في السياق الزمني لتجربتي الفنية، وقد لا ينطبق على قرارات أخرى في زمن آخر.
• ماذا تقصد بالطرح المابعد حداثوي؟
هو اصطلاح على صلة بالزمن، وعلى صلة بطريقة قراءة الإبداع الإنساني، وحرية الفنان في مواجهة تجارب من سبقوه، ليتميز هذا العصر عن غيره، قد تكون ما بعد الحداثة هوية لفنان، لكنها هوية مجازيه تمتلك لغة تحاكي وعياً مجتمعياً مختلفاً، المقصود بالطرح هو اللوحة المحمولة وأدوات تنفيذها، لكن الشكل هو المختلف هنا، وعدم تقيدي بالأسلوب هو مفهوم يتماشى مع ما بعد الحداثة.
• بورتريه الخراب الذي يتحدث عن بغداد هو وجه لامرأة، بماذا يختلف عن وجه دمشق بعد هذا الخراب، ولكي يستطيع المتلقي التواصل الأعمق مع لوحتك ألا تعتقد أنه بحاجة لهذه (العنونة) أقصد تسمية اللوحات؟
وضع العنوان هو قضية إجرائية، قد يلجأ اليها بعض الفنانين لتحديد الحالة التي كان يرسم بها.
أرى إن اللوحة هي ميزان قد يقيس الخوف أو قضايا أخرى على صلة بقيم الإنسان، لكنها في نفس الوقت هي مركب يتحول لدى المشاهد إلى معانٍ وقيم قد تخيفه وقد تحرقه أو تدمره، وقد تمنحه الطمأنينة. اللوحة مساحة عرض؛ منبر مفتوح سواء امتلك عنواناً أو لم يمتلك.
من لم يخف أو لم يحترق من اتصاله باللوحة فلن يتصل مع وجود العنوان، خاصة أني أطرح جوانب مأساوية في أغلب أعمالي، لكني لا أستطيع أن أشير إلى المقبرة التي تظهر في المعاني أو الملامح أو في دراما اللون وغير ذلك.
المتلقي لدينا يعتمد على بنية شعرية في التلقي، وهذا على صلة باللغة كوسيط، فيما اللوحة تمضي مباشرة إلى الشكل الذي يولد لمعنى، أي هي الحالة ما قبل اللغوية، قبل أن تكون الكلمة كان المعنى أو الشكل، وهو ما نفترض أنه صور سابحة يمكن التقاطها بإتقان لغة الشكل.
• وهل يأتي عنونة المعرض بالعموم كجزء من هذا الفهم؟
لهذا العنوان أبعاد تتعلق بالمعنى وأنا أحاول استخلاص رؤى من خلال البحث التشكيلي - النفسي للتأثير على مشكلة الشكل وصلته بالمعنى ولعل هذا التجريب يعيد صياغة المعاني الغامضة في ما وراء المعنى الدقيق عبر البذرة الإنسانية التي أسعى لإبرازها في تساؤلات هذا المعرض، العنوان يستدعي التعرف البصري على مجموعة من الأعمال ودلالاتها في سياق مشترك يجمعها من خلال حدوثها ومن خلال القيم التي تدافع عن إلغاء الإنسان، عروس ومأدبة خطاب بصري للتخاطب خارج القواعد التقليدية لبلاغة الشكل وصياغاته للرد على التساؤل كيف يعمل المعنى في الشكل، أنا أتفحص تفاعل العلامات وعلاقاتها مع بعضها البعض ومع سياقاتها من أجل التوليف المستمر للمعنى وفي هذا المعرض كثير من الاستعارات التي تساعد في مناقشة المعاني خاصة إذا تفهمنا طريقة تغيير المعنى بين مجموعة أعمال وأخرى، هذا العنوان يقلل الكثير من سوء الفهم التشكيلي.
• كثيراً ما نتحدث ونلح على هوية اللوحة وانتمائها، فيما لو امتلكت اللوحة هويتها فهل هذا يكفي؟
سؤال غامض غموض الفن، الهوية هي لغة تجاوزية وإبداعية بكثير من الشعرية والعاطفية التي يحددها الفنان من خلال تجربته المعاشه بكليتها، وهذه التجربة هي التي تستنطق الهوية من خلال العمل الفني، ولكي يحدث هذا لا بد وأن يتشرب الفنان قضايا عصره أولاً، والأدوات المناسبة لإنجاز الحالة، وأن يهضم المناهج والأفكار المحيطة به بما فيها بيئته البصرية.
الهوية قضية مركبة تحتاج لكثير من المقارنات والتطبيقات البصرية المحلية، إضافة لمرجعيات الناس من حوله، فعندما يكون للناس مرجعية إيديولوجية معينة فهذه هوية. والمهم أن يجيب عن أسئلة الإبداع في المنطقة التي ينتمي إليها.
• هذا يعني أن هناك هوية جغرافية، هل هي هوية كافية لتمنح الجذر المرجعي للفنان؟
بالتأكيد ليست كافية لتجيب عن أسئلة الإبداع الإنساني التي تتجدد بتجدد الصراعات المحلية عبر العالم. فمنها الفكري، العلمي، الديني، والسياسي..الخ. والفنان مكون مما ينتمي إليه ويحوله إلى صور، ويسرد من خلاله سبل تواصله مع الآخرين، مثلاً صرخة (مونش) الشهيرة، هل هي هوية نمساوية؟! هي عالمية بالتأكيد، وهكذا نرى العديد من اللوحات العالمية التي تتجاوز جغرافيتها.
• الزمن لا شك يترك أثره على الجسد المادي والتصويري، بالمقابل كيف يترك الجسد التشكيلي أثره على الزمن في لوحة طلال معلا؟
هذا رهن بالزمن فلكل زمن مواصفاته، وقد يسقط الزمن من خلال قطيعة معينة لكل ما أنتجته البشرية، هذا رهن بشيء غامض يطال الفن والزمن بنفس الوقت، هناك حوار لا نهائي بين الإنسان والزمن، وهو مفتوح على التجربة البشرية وموروثها الإبداعي.
الزمن حتى الستينيات من القرن الماضي كرس مفاهيم الجمال والتوازن، فيما بعد الستينيات ومع تغير المفاهيم اتجه نحو القباحة، كما اتجه نحو الصدمة بطروحاته، لذا لا أعرف إن كان الزمن سيحتفظ بهذا التاريخ (المنجز الذي أرسمه) فلكل عصر لغته ولكل عصر مشاريعه التخيلية عبر الفن، وقد يأتي يوم يقطع الإنسان فيه علاقته مع الفن السابق بلحظة ويبدأ من جديد، وأنا جزء من هذه التحولات ولست مركزاً وأتفهم هذا بكل بساطة.
• اللوحة ابنة بيئتها، لكن هذه البيئة تتعرض للكثير من الهدم، بعد كل هذا أي بيئية تنتمي إليها هذه اللوحة؟
أنت تحاول أن تغلق الأبواب أمام فهمنا للفن، وكأنك تبني قفصاً ليعيش الفن به، الفن مفتوح على فضاءات كثيرة ولامتناهية.
• لكنك قلت قبل قليل إنه يمكن أن يحدث هذا القطع مع الفن في لحظة..؟!
هناك فرق بين أن تضغط التاريخ في لحظة أو أن تخلق القطيعة أو أن تتبنى التطبيق، مسار الفن هو مسار مرتبك ومعقد، لكنه في كل لحظة متفجر بالإبداع. الفنانون معنيون بجمع هذه الشظايا وتحويلها الى صور إبداعية.
• أسألك بشكل محدد وخاص ثم تأتي الإجابة عامة، أتحدث عن مجتمع يتهدم في جوانبه الفكرية والأخلاقية فهل لوحتك لا تزال ابنة بيئتها؟
هناك فرق بين أن تنفي الماضي وأن تتكلم عن روح التغيير، والتغيير يقتضي ترتيباً مغايراً لتركيبة المجتمع المفاهيمية، وهذا رهن بالمجتمع الذي يرفض التغيير كونه يعيش في غير زمنه، هناك فرق بين زمنين: الزمني المادي والزمن الفني، فثمة من يعيش خارج الزمن، وهذا لا يهمني ولا أنتمي إليه، فلوحتي تعبير عن المجتمع حسب رؤيتي وفهمي له وليس انتكاسا له، لذا فإن لوحتي هي ابنة الزمن الفني.
• تتصف لوحتك بأسلوبيتها الخاصة رغم أنك ضد الأسلبة، كيف نفهمك؟!
لا أرى ما تقوله، وأنا ضد الأسلوبية.
• لكنك ترسم بطريقة متشابهه؟
إذا كان بين لوحاتي نوع من التأكيدات البصرية فهذا لا يعني أن هناك أسلوباً محدداً، فكل عمل فني هو كينونة بصرية متجددة، في الوجه أنا أنكر الجسد وفي الجسد أنكر الأعضاء، هناك توافقات بصريه لكن ليست هي الأسلوب، كل لوحة من لوحاتي مشبعه بتصورات صريحة عن الإنسان.
الأسلوب هو قالب محدد لا يمكن الحياد عنه وأنا لست كذلك، فلي كامل الحرية بتنفيذ مجرى مفردات لوحاتي أو حتى طريقتي الفنية، قد أستيقظ في الغد وأرسم شيئاً مختلفاً كلياً.
• بين التقشف اللوني الذي عرفت به في سلسلة عروضك (صمت) والتدفق اللوني بعروضك ما بعد الصمت إلامَ نعزو السبب؟
هذا يفسر أنه ليس لدي أسلوب لا في الشبكة ولا في مقاييسها ولا في ألوانها، فالمساحة التي أرسم عليها هي مساحة تشكل اكتشافاً لتحولاتي الذاتية في فهم العالم.
• أخيراً هلا تحدثنا عن الإضافة الفنية أو الخبراتية التي راكمتها تجربتك في معرضك الأخير هذا ؟
لا يمكن أن أعتبر أن هناك جديداً على مستوى الشكل فالجديد هو في تعميق التجربة الذاتية وتفكيك الموضوعات التي أطرحها ولهذا أعتبر هذا التفكيك تجديداً فغالباً تحمل الهوامش البصرية ما يفيد الدهشة ويؤكد بعض الحقائق الأبدية، يوفر هذا المعرض لي، أي الالتقاء بمحبي هذا النوع الإبداعي، أنا أيضاً أتعرف من خلالهم على نبرتي البصرية وأعيد قراءة مواضيعي ومدى الاستجابة للمعاني.
إنها فرصة لاستعراض مهاراتي في التعرف على معنى اللوحة ومرجعياتها، لابد أن هذا المعرض يعني أمراً أكثر مما يبدو أنه يعنيه، إنه جزء بسيط مما أفكر فيه وأحلمه.
إضافة تعليق جديد