الزلزال مرّ من هنا
عماد عبيد:
كلما طفطفت في القلب جرار الحزن، وانهدمت في الروح أسوار الأمان، تقرحت الجراح وباتت مدمنة على النكأ والنزيز، أصبحنا فئران تجارب للمتسلطين والآلهة والطبيعة، جربوا فينا كل مواهبهم السادية، آزرهم الملوثون بالمال والمعفرون بالدين والملطخون بوباء الاستعلاء.
ربخت على صدورنا المحن، واستخف بنا الدهر، سطا علينا الهلع حتى ألفناه، وعاقرنا الضنك فأضحى خليلا شره الغرام.
لم يكن الزلزال أول الفواجع، (وسوى الموت خلف ظهورنا موت)، تصادقنا مع الموت وصرنا سمّاره المؤنسين، لن نخيّب ظنه، يمر علينا حافي العينين، نفرش له بساط الشرف، ونطلق احتفاء به إحدى وعشرين ركعة سمعا وطاعة، بات الموت وطنا بديلا لوطن يتماوت.
وفوق كل حسرة ملامة، لم يكفنا اضطرام النوائب وجلجلة الخطوب، بل تجرأ علينا كل ذي قريحة تمسّح بلاهوت الغيب أو تعطّر بهفيف الشعور ليأمرنا بالتقوى والاتعاظ، ويطلب منا التجهم، والتطهر بجلد الذات، بصفته الولي المفوض للقادر المحتكم أو الوكيل الحصري لمناسك الحزن.
فهذا المصاب برأيهم حكمة باريّة لغاية في نفس يعقوبها، صيغت بدراية اللاهوت لتعيدنا إلى صوابنا بعد أن افرطنا في ابتذال الإيمان ولهونا في مباهج الدنيا، جاء ليخلخل ميوعة قناعاتنا ويعيدنا إلى الرشد والثواب.
بل هو درس لنحترم شهامة الحزن، ونقدّس هيبة الغاشية، لنغتسل بالذنوب، ونتشبع بالألم، فلا وقت إلا للعويل وإلا انوصمنا بالتوحش والقسوة.
هل علينا أن نفصد قلوبنا لنريهم كم احترقنا حتى أشرفنا على الترمّد؟
غدت الكارثة فرصة للتباهي لمن يملكون السبائك الرهاجة، يمسرحون ترف عطاءاتهم ويبثون صورهم وهم يمارسون نجومية الإحسان.
زلزال الطبيعة مقدور على رأب صدعه وشفاء جراحه، أما زلزال النفوس وما اعتراها من خراب وحقد وضغائن فهو العصي على المداواة، فكلنا في العراء وإن توسدنا طنافس الحرير أو التحفنا دواثر الديباج، نحن عشيرة المعطوبين، فلا ظهير يحمي قاماتنا المحدودبة ولا سند تتكأ عليه ذواتنا الهشة، ضعضعتنا المحن فأمسينا أيتاما مذ شيعنا الوطن وتركناه يحتضر على مذبح الخذلان.
مازلنا نتكاثر رغما عن الكوارث والحروب وجمعيات تحديد النسل، نحاول أن نسدّ فجوة الفراغ الزاخر بالعبث، نقض هجعة الكلل لننفث الزفير حتى آخر الرمق. نرفض الانصياع لمحدلة اليأس، (نسطع ولو زارنا الليل)، نكتب الشعر للفاتنات الهيف، للغيد الرشاق، نرفع الرايات فوق نواصي المهار الشقر، نغني للقمح والأشجار، ونرندح المواويل مع البلابل والشحارير.
اليأس مقتل، والتباكي عجز، (على هذه الأرض ما يستحق الحياة)، إنه الإنسان الخلاق، صاحب الأبجدية، وطارح الأسئلة، فاللطم والعويل لن يعيد الراحلين إلى معارج الأبد، ولن يشفي المكلومين بمياسم الفقد، فالحياة أم رؤوم لن يجف ضرعها حتى ولو نفخ صاحب الصور، أو تجلى خاطف الأرواح، والروح المتمردة لا يلويها القدر لأنها تصنعه، هكذا أخبرنا صديقنا الشاعر الراحل حماد الشعراني قبل أربعين عاما حين قال:
هيا انهضي طال السبات بمرقدي /// ولتنزعي ثوب الحداد الأنكد
ما عدت عبدا للنخاسة أقتنى /// إني كفرت بواقعي وبسيدي
إن الصراع بشرع غابك يقتضي /// أن تحصدي الأوغاد أو أن تُحصدي
فاستأسدي بين الذئاب يروعهم /// فيك الزئير، فهددي وتوعدي
آمنت بالإنسان أكبر ثروة /// فوق البسيطة إن يكافح تزدد
آمنت بالإنسان نبع فضائل //// وشرارة يكوي لظاها المعتدي*
......
• - حمّاد فواز الشعراني شاعر سوري كفيف توفي عن عمر 22 عاما سنة 1985– الأبيات من قصيدته تمرد روح من ديوانه (تمرد في مدائن الليل والموت)
إضافة تعليق جديد