المصالحة السعوديّة – السوريّة: قفزة نحو حلّ نهائي
على رغم معاندة الغرب في التسليم بهزيمته في سوريا، وتمسّكه بالاستمرار في استثمار الأزمة بكلّ جوانبها، إلّا أن المصالحة السعودية – السورية الجارية تُعدّ خطوة متقدّمة على طريق نهاية تلك الأزمة، ولا سيما إذا ما اقترنت بتطبيع سوري – تركي صار يبدو حتمياً، سواء ظلّ الرئيس رجب طيب إردوغان في السلطة، أو ربحت المعارضة التي تفوقه حماسة بكثير لإعادة العلاقات مع دمشق
في 28 تشرين الأول 2012، فرّقت السلطات السعودية بسرعة كبيرة تظاهرة مناهضة للنظام السوري في مكة، واعتقلت عدداً من المشاركين فيها. لم يكن سبب ذلك أن المملكة لا تحبّ ولا تسمح بأيّ نوع من التظاهرات، وإنّما أيضاً أنها ترفض أيّ تحرّك غير موجَّه يتعلّق بسوريا التي تظلّ في النهاية دولة عربية ذات وزن، تؤثّر الأحداث الجارية فيها على غيرها من الدول العربية. هكذا، اتّسمت المقاربة السعودية للأزمة السورية، منذ بدايتها عام 2011، بالحذر الشديد، حيث أحجمت المملكة عن التدخّل ابتداءً، لكنها شرعت، عام 2013، في دعْم فصائل مسلّحة أبرزها «جيش الإسلام» الذي كان يقوده زهران علوش. بدا، آنذاك، أن مشروع التدخّل الذي تولّى تنفيذه بندر بن سلطان أراد تحقيق هدفَين: الأوّل هو الانخراط ضمن أهداف الحملة الغربية لإسقاط النظام، والثاني، عدم ترْك الساحة لقطر.
لم يَدُم الأمر طويلاً بعد التدخّل الروسي، حتى اتّضح أن تلك الحملة آيلة إلى السقوط، فتراجعت المملكة عملياً عن هذه السياسة وسحبت دعمها للمعارضة السورية.
على أيّ حال، ظَهر أن السعودية كانت تعتقد في سريرتها – ولو تصرّفت خلاف اعتقادها -، من البداية إلى النهاية، أن مصلحتها الحقيقية تكمن في بقاء النظام السوري. والسبب أن الرياض كانت ضدّ كلّ التغييرات التي جاء بها ما سُمّي «الربيع العربي»، الذي اختلفت بشأنه بعمق مع الأميركيين، وكانت علاقتها مع موسكو في أعقابه، والتي تحسّنت بشكل لافت في عزّ التدخل الروسي في سوريا، أحد المؤشّرات الكبرى إلى ذلك. ومع هذا، ظلّت المعارضة السورية حتى الأمس القريب تتمسّك بالمقاطعة السعودية للنظام باعتبارها اصطفافاً إلى جانبها، نظراً إلى وزن المملكة في العالم الإسلامي الذي مثّل الخزّان المفترض لدعم المعارِضين. وبالمعنى المتقدّم، تُمثّل المصالحة الجارية بين الرياض ودمشق، ضربة قوية لهؤلاء، الذين لم يُخفِ إعلامهم الامتعاض ممّا يحدث، مطلِقاً حملة تحريض ترتكز على استعادة فيديوهات للانتقادات التي أطلقها مسؤولون سوريون ضدّ السعودية آنذاك، ردّاً على دعْمها المسلّحين.
الخلل الرئيس، إذاً، كان وما زال في سلوك المعارضة نفسها التي كانت قد رفعت سقوف آمالها إلى مستويات غير واقعية، ثمّ أخذت هذه الآمال بالتساقط واحداً تلو آخر، أمام مصالح الدول المتدخّلة في الأزمة. ولعلّ أحد الأخطاء القاتلة لتلك المعارضة هو اعتبارها أن الدول الغربية والعربية المتحالفة معها، تعمل لديها، وتقاتل بالنيابة عنها، بينما في الواقع تبحث الدول المذكورة عن مصالحها، ولطالما استخدمت الفصائل المسلّحة، وأخذت معها الشعب السوري كدروع بشرية لتحقيق هذه المصالح. أمّا الأشدّ وقعاً على المعارضة السورية، فهو أن المصالحة تَجري بترتيب من عدوّها الأوّل، روسيا، التي تسعى إلى استثمار انتصارها العسكري الذي تَحقّق في سوريا، سياسياً، من خلال العملية السياسية التي تقوم برعايتها مع أطراف أخرى. وتُمثّل استعادة العلاقات المتوقّعة مع دمشق، والتي تأتي ضمن استدارة سعودية كاملة كانت قد بدأت بتطبيع سعودي – إيراني برعاية صينية، خطوة كبيرة نحو تحقيق هذا الهدف.
يقدّم ما سلف، في الوقت نفسه، دليلاً إضافياً على الوهن الكبير الذي أصاب تلك المعارضة، بحيث يَصعب تصوُّر أن يكون لها أيّ دور في رسْم مستقبل سوريا. فالدعم الغربي الذي لا تزال تحظى به هو دعم سياسي ضعيف لن يستمرّ طويلاً بدوره، لعدم جدواه. ذلك أن الغرب نفسه، وتحديداً الولايات المتحدة، التي جاءت بقوّاتها إلى سوريا من البوّابة العراقية، تحت ذريعة محاربة «داعش»، صارت تقيس الجدوى إلى الكلفة في هذا التدخّل، وفق ما أظهرت المواجهة العسكرية الأخيرة مع الإيرانيين في دير الزور، والتي انطلقت بعدها دعوات في الكونغرس إلى سحْب ما تبقّى من الجنود الأميركيين في سوريا، بينما أظهرت الإدارة الأميركية نفسها عدم رغبة في أيّ تصعيد. أمّا المحادثات التي بدأت قبل سنوات على مستوى قادة أجهزة المخابرات بين السعودية وسوريا، والتي كانت جزءاً من التمهيد للعودة، فتذهب في مؤشّراتها إلى أبعد من مجرّد أن الرياض لم تكن مقتنعة من الأساس بجدوى دعم المعارضين السوريين، ولا تَعتبر النظام السوري عدواً، وإنّما إلى أن المملكة تَنظر إلى الأخير كحليف محتمَل ضدّ المعارضة التي تتشكّل أساساً من خليط من «الإخوان المسلمين» والسلفيين الجهاديين الذين تحاربهم المملكة في الداخل، وكانوا في وقت من الأوقات ظهيراً لقطر وتركيا حين كانت علاقاتها متأزّمة معهما. ولذا، من المرجّح أن لا تتوقّف السعودية عند استعادة العلاقات مع سوريا، وإنّما ستكمل نحو الدفع باتّجاه عودة دمشق إلى الجامعة العربية، وهو ما قد يحصل بحلول انعقاد القمّة العربية المقرَّرة في الرياض في 19 أيار المقبل، فيما سيصبح موقف قطر عندها معزولاً خليجياً وعربياً، الأمر الذي ربّما يدفعها في النتيجة إلى إعادة النظر فيه، وخاصة إذا تَغيّر موقف تركيا سواء بتطبيع إردوغان مع سوريا، أو بخروجه من السلطة.
كذلك، تمثّل المصالحة السعودية – السورية خطوة كبيرة على طريق حلّ الأزمة السورية، كونها تُضعف قدرة الغرب على الاستمرار في استغلالها، وخاصة أن تطبيع العلاقات مع دمشق صار حاجة لكلّ العواصم العربية وغير العربية المجاورة التي تتأثّر مباشرة بتلك الأزمة. ومن هنا، ثمّة فرصة كبيرة لأن يحصل هذا التحوّل بالتمرّد على الإرادة الغربية، كما حدث في قضايا أخرى، وهو ما سيسهم بدوره في رسم صورة جديدة للشرق الأوسط تعيده إلى حدّ كبير إلى طبيعته كما كان قبل ما سُمّي «الربيع العربي»، الذي سيصبح عندها بحكم الساقط نهائياً. وتتعزّز تلك التقديرات مع ظهور توقّعات في الصحافة الغربية في الأيام الماضية، بأن تُطرح مسألة إعادة إعمار سوريا وعودة النازحين بمعزل عن الإرادة الأميركية والغربية، وهو ما كان يُعتبر مستحيلاً قبل سنوات قليلة.
حسين الابراهيم- الأخبار
إضافة تعليق جديد