سقراط ومقولة الماهيَّة
ناهض سقراط نسبية المعرفة والمفاهيم عند السفسطائيين، وفي حين كان السفسطائيون يستفيدون من إشتراك الألفاظ وإبهام المعاني، ويتهربون من الحد الذي يكشف المغالطة، كان سقراط يجهد في طلب الحد، وفي تصنيف الأشياء في أجناس وأنواع، ليمتنع الخلط بينهما، لأن المعرفة الحقة عنده هي معرفة الماهيّات الثابتة للأشياء، والتي يكشفها العقل وراء العوارض المحسوسة.
-وأثبت سقراط - خلافاً للسفسطائيين - أن معرفة الماهيّات فطرية لا نكتسبها بالتعلم، وإنما نستخرجها من أنفسنا عن طريق منهج الجدل الذي كان يسميه سقراط "الفن التوليدي" لأنه كان ينسب إلى نفسه دور المولِّدة التي تساعد المشتركين في المناقشة على إنجاب تصورات صحيحة تتعلق بالمشكلات المطروحة للمناقشة.
- والحقيقة عند سقراط هي قبل كل شيء فكرة (مفهوم)، والفكرة لا يمكن أن تتضح إلا بالجدل، أي بالتحليل النقدي لكل جوانبها، فالجدل في الفلسفة السقراطية لا يتناول الأشياء أو الوقائع فقط، بل يتناول التفسيرات المختلفة لها، أو العبارات التي تقال عنها، ومواجهة هذه التفسيرات أو الأقوال ببعضها يؤدي إلى إكتشاف التناقضات التي يمكن أن تنطوي عليها الفكرة.
- ويمكن أن نميز في المنهج السقراطي ثلاث خطوات رئيسية:
الخطوة الأولى وهي "معرفة الإنسان لنفسه": أي أن الإنسان يجب أن يبحث في داخل نفسه عن غاية للعالم، وأنه لابد له من أن يصل إلى الحقيقة من خلال ذاته.
الخطوة التالية وهي "التهكم": في هذه المرحلة يبدأ سقراط بإلقاء الأسئلة، فكان يسأل ما الخير وما الشر؟ ما العدالة و ما الظلم؟ والنتيجة التي يصل إليها دائماً هي إثبات جهل الناس بما يظنونه حقائق واضحة.
الخطوة الثالثة "التوليد": وهي تقوم على أساس أن لدى الإنسان حقائق كامنة، لا يدري بها، ولكن يستطيع أن يستخلصها من داخل نفسه ومن نفوس الآخرين، وهذا ما يسمى بالتوليد، ففي محاورة "مينون" نجد سقراط يلقي مجموعة من الأسئلة على عبد من عبيد مينون لم يتعلم، ويسير معه خطوة بخطوة، حتى يجعله يبرهن على إحدى نظريات الهندسة لفيثاغورس رغم أنه لم يتعلمها قط. وهكذا إستطاع سقراط بسلسلة من الأسئلة أن يحمل مينون على الإعتراف بأن المعرفة ما هي إلا تذكُّر، فأصبحت المعرفة الحقة هي معرفة الماهيات الكلية الثابتة التي لا تتغير مهما تغيرت أمثلتها، وأن المعرفة فطرية ونحن نتذكرها تذكراً ولا نتعلمها تعلّماً.
-إن العقل عند سقراط هو ملكة المفاهيم الكلية والتصورات العامة، وعندما يضع المعرفة كلها في المفاهيم، إنما يجعل العقل أداة المعرفة، ويعارض السفسطائية التي جعلت المعرفة كلها في الإدراك الحسي، فالمعرفة والمفهوم عند سقراط يهدفان إلى البحث عن الماهيات أو فلسفة التصورات الكلية، فنجد عنده أن التعريف يتكون بالطريقة نفسها التي يتكون بها المفهوم بإدراج الصفات العامة لفئة الأشياء وإستبعاد الصفات التي يختلف فيها أعضاء الفئة، و التعريف في الحقيقة هو مجرد التعبير عن المفهوم بالكلمات، حتى نصل إلى معايير موضوعية للحقيقة.
- لقد عمل سقراط من خلال نظريته في التعريف، ولأول مرة في تاريخ الفلسفة اليونانية على تأسيس مقولة الماهية أو فلسفة التصورات الكلية، فكان لهذا التأسيس أثر كبير في الفلسفة من بعده، وخاصة على عملاقي الفلسفة اليونانية "أفلاطون" و "أرسطو".
____________________
المصدر:
▪️كتاب المقولات بين أرسطو وكانط، الهيئة العامة السورية للكتاب. أحلام عبد الله،
إضافة تعليق جديد