عذرًا قبيلة ميلان كونديرا!

16-07-2023

عذرًا قبيلة ميلان كونديرا!

Image

خليل صويلح:


لم أكن يومًا من مهووسي ميلان كونديرا (1929- 2023)، بالدرجة نفسها التي أصابت فيالق المعزين برحيله. أحسستُ بالارتباك أمام حجم خِيم العزاء التي نصبها الندّابون في أزقة السوشال ميديا وشوارعها وساحاتها.

اكتفى بعضهم بذكر أحد عناوين رواياته كنوع من الاشتباك مع منجز هذا الروائي (الفذّ)، من دون دفع فاتورة حقيقية في رصد أدبه. يكفي أن تهتف بأسى "خفة الكائن التي لا تحتمل"، أو "الحياة هي في مكان آخر"، ثم تقرّع لجنة نوبل للأدب، وترفع ساطورك محتجًا بسبب تجاهل منجزه في قوائم الخالدين، حتى تحصل افتراضيًا على حصتك من الوليمة الباذخة!

كل ذلك بتأثير الدعاية المضادة التي رافقت أعمال كونديرا بتبجيل. ولكن ماذا لو لم تحتضنه لغة موليير وبقي روائيًا تشيكيًا فقط؟

لن يكون بمقام مواطنه كافكا بالتأكيد، وتاليًا ينبغي تلميعه على نحوٍ آخر، خصوصًا أنه يمتلك مواصفات استثنائية صالحة للتصدير خارج الحدود. فهذا شيوعي منشق، وأحد أبرز ضحايا ربيع براغ 68، و"جندي فوق دبابة"، أتى بلدَ الأنوار هاربًا من عسف الديكتاتورية تحت شعار "إعادة كرامة الأدب وجودته". ومن ثمّ، فهو سلعة نوعية ستغزو تدريجًا نحو50 لغة عالمية. فالغرب يحتاج  بين حقبة وأخرى إلى منفي جديد يحرّك المياه الراكدة.

لا ننكر بالطبع فرادة بعض أعمال كونديرا أسلوبيًا، هو الذي يؤكد على أن "نصف موهبة الكاتب هي استراتيجيته وتقنياته". وهذا ما نجده حقًا هنا وهناك في متونه السردية، عن طريق جذب عناصر متنافرة وصهرها في سبيكة واحدة. لكننا، في المقابل، لن نستسلم بسهولة أمام بعض أعماله الأخرى التي تبدو مثل بحوث فلسفية يصعب هضمها، أكثر منها سرديات تخييلية خالصة.

شخصيًا، سألجأ إلى نوفيلا "البطء" دون سواها كنصّ نوعي. وستجذبني أكثر بترجمة أخرى تحت عنوان "الهوينى"، وكيف اشتغل ببراعة على تشبيك ثلاثة أزمنة بتوقيتٍ واحد، وفوق قماشة مشدودة جيدًا، ما يعلّمنا درسًا منهجيًا في كتابة الرواية، الرواية التي خصّصها للذّة التأمل أو متعة البطء.

يتساءل: "لمَ اختفت متعة البطء؟ آه أين هم متسكعو الزمن الغابر؟ أين أبطال الأغاني الشعبية الكسالى؟ هل اختفوا باختفاء الدروب الريفية والحقول والغابات والطبيعة؟".

وبقدر ما يبدو هذا السؤال حاضرًا في دهاليز الذهن، وسط حمّى العجلة والركض والسعي، إلا أن كونديرا يمنحه ألقًا فلسفيًا وجماليًا، ليس كسؤال روائي، بل كحصيلة معرفية، ولطمة في وجه العصر الذاهب إلى حتفه، مدمرًا في طريقه لذة التأمل خلال علاقات روائية متينة ومبتكرة، فيها ولعٌ واضحٌ باللعب والتهكم، في سرد متوازٍ لكشف الهّوة بين نمط اللذة في القرن الثامن عشر واللذة المعاصرة التي تفتقد إلى التمهّل.

فالنشوة الآن هي نشوة اللحظة العجلى.‏ هكذا دمّرت الثورة الصناعية الحياة الروحية للبشر: السرعة هي حالة انجذاب قدمتها الثورة التقنية كهدية للكائن البشري. و"خلافًا لراكب الدراجة النارية، نجد ممارس رياضة الجري حاضرًا دائمًا في جسده، ومُجبرًا على التفكير باستمرار في مشكلاته الجسدية والتنفسية. وعندما يجري، يشعر بثقل جسده وعمره، ويكون متيقظًا لذاته ولزمن حياته".‏

ثم يعود أخيرًا إلى النقطة التي انطلق منها، وهي "فضيلة البطء"، مُقحمًا احتمالات هذه المفردة الغائبة كلها. لذا، تتداخل الاستعارات اللغوية والفلسفية والسيرة الذاتية إلى ولع بالنشوة الحياتية والروائية، معتبرًا أن ما يكتبه مجرد "دعابة حمقاء". لكن هذه الدعابة تكشف عن رصانة تحت السطح، حين يطيح بالزمن المتسارع، واللذة العابرة وأقنعة المشاهير، والأيديولوجيا الخاوية.

فهو خلال ليلة واحدة يتجول بين قرنين من الزمن، حين يقارب زمنين أو لحظتين في مشهد واحد، قبل أن يُجهز على هذين الزمنين بضربة شاقولية تنطوي على زمنٍ ثالث، وذلك بالانتقال من زمن الهوينى، العربة التي يقودها حصان، بالتناوب مع زمن السيارة، وزمن الموتوسيكل، هو نهاية الرواية ذاتها: "أريد الاستمتاع بتناغم خطواته: كلما أوغل في سيره تباطأت خطواته أكثر، وأعتقدُ أنني ألمح في ذلك البطء علائم السعادة".‏

والحال لكل قارئ حصته من ميراث كونديرا: المزحة، الخلود، الجهل؟ اختر ما تشاء، ولكن بتروٍ ومعاينة وانتباه. أما أن تفقد صوابك دفعةً واحدة أمام كل عناوين رواياته، وتندب محزونًا فقدان زعيم القبيلة الروائية في العالم، فمسألة تحتاج إلى فحص للعجلات قبل بدء الرحلة، ذلك أن ثقافة الدوكما تعمل على السطح لا أكثر، ولن تعيد دلوك مليئًا من ماء البئر، كما تظن وسط هذه "الهوشة" الافتراضية!

ثم، هل قرأت آخر رواية كتبها، أقصد "حفلة التفاهة"؟

شخصيًا أيضًا، بعد قراءة 60 صفحة من هذه الرواية، استوقفتني هذه العبارة فقط "الكائن الإنساني وحيد يحيط به وحيدون". ذلك أن خاصية منسوب الفكاهة والهجاء تراجعت كثيرًا في متن نصوصه، وهي ما طبع رواياته قبلًا، التي تنتمي إلى "سرد مونتاجي مقتضب، ومثير للتأمل"، الأمر الذي دفع بعض النقاد إلى هجاء رواياته بوصفها "أسلوبًا جافًا مثل أحجية الكلمات المتقاطعة". وإذا بالبهجة الباريسية تتلاشى تدريجًا، وستوصم بعض أعمال كونديرا بالفشل، فكان عليه إطلاق رواياته بلغات أخرى قبل صدور طبعاتها الفرنسية، بقصد تسويقها على نحوٍ أفضل. هكذا، أدار ظهره للغة التي فتحت له "الطريق الملكي للعولمة الأدبية".

في روايته الأخيرة "حفلة التفاهة" (2014)، أقام كونديرا جردة حساب مع ماضيه بهجاء الحقبة الستالينية. لكن الروائي التسعيني بدا متعثّرًا وفاقدًا للبريق مقارنة بمجده السابق، وربما لهذا قرّر العودة إلى بلاده، بعدما أعادت إليه جنسيته، في نوع من الحنين إلى المكان الأول.

هذه الانتكاسة السردية تذكّرنا بما انتهى إليه غابرييل غارسيا ماركيز في روايته الاخيرة "ذكريات غانياتي الحزينات". وكأن ألزهايمر الذي أصاب الاثنين في أواخر حياتهما ترك أثرًا واضحًا على مستوى أداءهما السردي.

على الأرجح، فإن حمّى كونديرا أتت في التوقيت المناسب. ففيما كان القرّاء يغادرون جنة الواقعية السحرية بعد أن تلذذوا بثمارها طويلًا، جاء من يمنحهم مذاقًا مختلفًا بحقنة إيروتيكية صادمة، وبتمجيد ليبرالية مفتوحة على جهات الكوكب.

على الأرجح، فإن فضيلة كونديرا تتمثّل بأطروحاته النقدية في المقام الأول، إذ أنجز ثلاثة كتب نقدية أضاءت دروب الرواية على نحو لافت، نقصد "فن الرواية"، و"الوصايا المغدورة"، و"الستارة"، متأملًا تاريخ الرواية العالمية بوصفها إقليمًا مستقلًا عن الحقول الإبداعية الأخرى.

فالرواية، وفقًا لمراياه، تقوم على استراتيجية الحفر في الطبائع الإنسانية، وتشكيل مسارها الخاص؛ "الحياة هزيمة محتومة، وعلينا محاولة فهمها. وهنا يكمن سبب وجود فن الرواية". ويؤكد كونديرا أن الروائيين العباقرة هم أفراد عائلة واحدة، منذ أن أطلق سرفانتس رائعته "دون كيخوته" لتكون فتحًا جديدًا في الرواية، بابتكار سرد مشحون بالسخرية والفكاهة.

ويدعو صاحب "خفة الكائن التي لا تحتمل" إلى ضرورة تمزيق الستارة واكتشاف النصوص الاستثنائية التي شكّلت ذائقة القارئ والروائي معًا. تلك النصوص التي حرثت في حقولٍ بكر، لتكون علامات في تاريخ الإنسانية. 

وفي هذا السياق، يقول إنّ تاريخ الفن لا يحتمل التكرار؛ "الفن موجود ليخلق تاريخه الخاص". هكذا أطاح فلوبير ببلزاك عبر إزالة الطابع المسرحي عن الرواية، و"إذابتها في ماء اليومي بامتحان السخافة اليومية"، واكتشاف سلطة العادي التي لن تفلح سوى الرواية باكتشافها.


من هنا يكتب كونديرا "اجتاز كافكا حدود عدم مشابهة الواقع، وبقي بلا شرطة، وبلا جمرك مفتوحًا إلى الأبد". ويضيف أن الروائي الحقيقي هو الذي يخترق حدود الرواية التي سبقته، مثلما فعل غابرييل غارسيا ماركيز في "مئة عام من العزلة"، إذ إنها "مذابة تمامًا في أمواج السرد السكّري".

الرواية، بتعريف آخر، هي "المرصد الأخير لاحتضان الحياة الإنسانية باعتبارهًا كلًا"، وكونديرا ينبّه إلى أن تأصيل فن الرواية حدث عندما استقال الروائي من عمله كمؤرخ، وتوغّل في مجاهل النفس البشرية، ليكتب تاريخًا مضادًا. 

في رثاء كونديرا، سنردّد عبارته ذاتها؛ "تريد أن تعرفني، اقرأني".

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...