علاء الدين عبد المولى يحاور المفكر السوري برهان غليون (2-3)
المحور الثاني: حول كتاب " الإسلام والسياسة الحداثة المغدورة " :
س1- ألا ترى أن الفجوة هائلة وتتسع باطراد في " إرادة الحوار الديمقراطي بين مثقف أصولي مغلق البنية على مفاهيم نهائية مطلقة ، وبين مثقف حديث علماني ؟ وواقع الحال يثبت أن المثقف الأصولي هو الذي يقطع الحوار في البداية ويطلق فتاوي التفكير على المثقف الحديث بشكل يبدو معه للجميع أنه مثقف لا يتقن غير لغة الإلغاء ، والتصفية ، والأمثلة كثيرة " نجيب محفوظ ومحاولة اغتياله " – تكفير نصر حامد أبي زيد – مصادرة كتب ومجلات – الحالة الجزائرية المخيفة " لا نعتقد أن العلماني الحقيقي هو الذي يدعوه للتصفية وإلغاء الآخر ، كما قد يستشف من كلامك في حوار " الكفاح العربي " المشار إليه ...
د. برهان :
كرست القسم الأساسي من كتاب " الإسلام والسياسة : الحداثة المغدورة " لنقد الأصولية الإسلامية الراهنة وإظهار محدودية تفكيرها ، وكذلك لنقد العلمانية السائدة ، التنويرية إذا شئت ، وإظهار حدود تفكيرها . وليست المشكلة في هاتين الأيديولوجيتين انغلاق أحدهما على الآخر فحسب ، بل تتجاوز ذلك إلى قصور عميق في فهم آليات وديناميات المجتمعات ومماهاة هذه الآليات مع الأيديولوجية . وبالتأكيد ليس الإسلام كدين هو الذي يدفع إلى الانغلاق ورفض الحوار الديمقراطي ، تماماً كما أن العلمانية كنظرية سياسية في ضرورة الفعل بين السلطة السياسية والسلطة الدينية الروحية ، ليست هي سبب الانغلاق لدى من نسميهم اليوم بالعلمانيين ، فلم يكن نقدي نقداً للإسلام أو للنظرية العلمانية التي أصبحت جزءاً من النظرية السياسية الحديثة ، وإنما هو نقد للترجمة العملية والمحلية العربية القائمة اليوم ، والتي حولت الإسلام إلى أصولية إسلامية ، والعلمانية إلى دين بديل . فهناك مسلمون ، وهم الأغلبية ، لا يعتقدون أن من أسس الإسلام فرض تأويلهم الخاص على الآخرين ، بل إن الإسلام التاريخي قد تميز ، بعكس الكثير من الأديان الأخرى بقبول صريح للتعددية الكلامية كما هو واضح في وجود الطرق الصوفية المتعددة والمذاهب الشرعية والفقهية المتعددة أيضاً ، والطوائف كذلك . وبالمثل كان الهدف الرئيسي من النظرية العلمانية هو إلغاء احتكار الدولة للمسألة الدينية بل رفع وصاية الدولة عن العقيدة حتى تتحقق الحرية الفكرية والعقائدية لجميع أفراد المجتمع . لقد كان جوهر العلمانية عندما نشأـ هو خلق التسامح وإباحة التعددية الفكرية والمذهبية ، وليس كما هو حاصل اليوم لدى قسم كبير من علمانيينا جعل الإيمان بالعلمانية دينا معاديا لأديان الآخرين ، ومصدرا لتبرير إلغاء الحريات الفكرية والسياسية . إن ما انتقدته هو هذا . ولا أعتقد أن هذا ينطبق على العلماني الحقيقي كما ذكرت ، أو المسلم العادي أيضاً . إن النقد موجه إلى الانغلاق وروح احتكار الحقيقة من أي طرف جاء . وليس في هذا النقد أي ميزة لطرف على طرف آخر في نظري .
س2- في اعتقادك إذا كانت " الدولة " بشكلها القطري هي العقبة في وجه تحديث المجتمع وهي التي تمثل نموذج الحداثة المفلس ، وإذا كانت هذه الدولة بوصفها علمانية قد أعلنت إفلاسها أيضاً، فماذا تقول في الملاحظات التي صاغها " جورج طرابيشي " – الحياة بتاريخ 22 / 7 / 1997 / - على كتابك الصادر بالفرنسية " الإسلام والسياسة – الحداثة المغدورة " والتي تدور باختصار حول : " ليست الأصولية المعاصرة إفرازاً داخليا لإفلاس نموذج الحداثة فقط إنما هناك العامل الخارجي تمويلا واحتضانا – ثم إن الدولة العلمانية لم تعلن إفلاسها تماماً في رأي طرابيشي – وشرور هذه الدولة لا تعود إلى كونها دولة علمانية بل لأنها دولة ليست معلمنة ولا مدقرطة ولا معقلنة بما فيه الكفاية ... " .
د. برهان :
آسف أن أقول أن " جورج طرابيشي " لم يقرأ أو لم يفهم تماماً مضمون كتاب " الإسلام والسياسة ... " فليس في الكتاب نقد للدولة القطرية ولا للدولة الحديثة عربية كانت أم غير عربية. إن النقد موجه إلى فساد الدولة سواء أكانت قطرية أو قومية ، وليس النقد موجها للحداثة وإنما إلى الإفساد الذي طرأ على الحداثة . وبالتالي ليست الدولة القطرية هي العقبة ، ولا الدولة الحديثة. هذا كلام لا يمكن أن يصدر عمن يقرأ الكتاب قراءة جدية . وجوهر أطروحة الكتاب هو أن ظهور الحركات الإسلامية في عالمنا العربي الراهن ليس نتيجة لماهية إسلامية لاهوتية معادية للعلمانية في الإسلام ( أي ماهية الأزمة ليس إيديولوجياً ، وإنما يتعلق بالمشروع التاريخي للعالم العربي منذ انفتاحه على العالم الحديث ، أعني مشروع الحداثة . والمقصود بالحداثة ليس تبنّي أفكار حديثة ، وإنما إدراج المجتمع العربي عملياً – أعني اقتصاديا وسياسياً وفكريا – في العالم الحديث . وقد أدى فشل هذا المشروع إلى سد الآفاق جميعاً أمام جمهور واسع من المجتمع ، وقضى على مصداقية التوجهات والإيديولوجية والقيم التي ارتبطت بهذا التحديث ، أي بالانفتاح نحو فراغ فكري وروحي وتاريخي لم يجد له أي تعويض إلا في العودة إلى الماضي وتقاليده المؤمثلة .
وهكذا تحولت الحداثة فجأة من مشروع راهن وواقعي إلى وهم أو مجموعة من الأوهام ، وتحول الماضي الذي كان يبدو بعيدا وهامشيا ومثاليا إلى حلم ممكن التحقيق ، أو قابل في نظر قسم كبير من الرأي العام للتحقيق . ليس هناك إذا نقد لا للدولة القطرية ولا القومية .
وإنما هناك نقد لاستراتيجيات العمل التحديثي العربي ، أي لطبيعة الممارسة التاريخية وفي هذه الممارسة أعتقد بالفعل أن إخفاق الدولة العربية الحديثة في تجاوز التقسيمات التي ورثتها عن الحقبة الاستعمارية ، سواء أكانت معبرة عن وقائع وطنية عميقة أم لا ، إن هذا الإخفاق قد حرمها من وسائل وطاقات كان يمكن أن تساعدها لمواجهة مشاكل الحداثة وحلها بصورة أفضل . وقد بينت في كتابي السابق " المحنة العربية : الدولة ضد الأمة " إلى أي حد أصبح الحوار الممجوج حول القطرية والقومية خارج الموضوع ، ولا قيمة له في أفق العولمة الراهنة .
إذاً ، ليست الدولة أعلنت إفلاسها ، هذا كلام لا معنى له . وإن الموضوع يتعلق بإخفاق الدولة العربية في أن تكون دولة حديثة بالمعنى الحقيقي للكلمة . وإخفاق الحداثة أعني به تحويل الحداثة إلى أداة لتضييق الخناق على الإنسان ولتقييده بشكل أكبر ، بدل أن تكون كما كانت بالفعل وسيلة لتحرير الإنسان وتعميق استقلاله الذاتي واحترامه الفردي وتوسيع دائرة حرياته ومبادرته . ليس الموضوع هو أن الدولة هي أفضل من الأمة أو أسوأ منها . إن الدولة إذا فسدت تفسد الأمة أيضاً. ونقد الدولة هو الوجه الآخر لنقد الأمة ، وجوهر نقد الدولة العربية التحديثية – ولا أقول الحديثة – هو أنها لم تنجح في أن تتحول إلى دولة أمة ، وأصبحت – بالعكس – مركزاً لسلطة تعكس أضيق المصالح الاجتماعية ، أي : دولة عصبة .
س3- في كتابك " الإسلام والسياسة ... " تعتبر أن حظ الفرد العربي من " الكرامة في ظل الإمبراطوريات القديمة أكبر مما هو في ظل الجمهوريات الجديدة " – الترجمة لـ " جورج طرابيشي " – الحياة – بتاريخ 25 / 7 1997 / - كما تعتبر أن " الدولة العربية الحديثة مستوردة طفيلية " ، " ولا وظيفة لها اليوم ولا رسالة سوى أن تفكك وتدمر الحريات " ....
ما الأفق الذي يمكن استشرافه حول مستقبل الحداثة ، منظوراً إليها من باب كونها ضحية دائمة لدولة لا يبدو على المدى القريب ولا البعيد أنها ستعيد – أو يعاد – تكوينها لإحداث تغيير جذري في بناها واستراتيجياتها المبرمجة ضد الحداثة ؟
د. برهان :
في سياق نقد ما وصلت إليه الدولة في عالمنا العربي أعتقد بالفعل أن كرامة الإنسان مصونة أكثر في الدولة القديمة لأن هذه لم تكن تملك ما تملكه اليوم الدولة الحديثة من وسائل جبارة لإخضاع الفرد ومراقبته وتكبيله ومحوه من الوجود . ونقدي للحداثة الرثَّة يشير بشكل رئيسي إلى أن السبب الرئيسي في إفساد الحداثة العربية هو أنها وظفت التقدم التكنولوجي لقهر الإنسان بدل أن تضعه في خدمة توسيع دائرة تحكم الإنسان بمصيره ونفسه .
وفيما يتعلق بأفق الحداثة لا ينبغي أن ننظر للدولة كما لو كانت ماهية ثابتة مستقلة عن القوى الاجتماعية تبنيها وتحركها ، أي في النهاية عن المجتمع ، وليس إفساد الدولة إلا وجها من إفساد النظم الاجتماعية بأكملها وإفساد السياسة نفسها . إن تغيير السياسة وتغيير استراتيجياتنا التحديثية وإعادة النظر في القيم الرئيسية التي قادت إليها عملية التحديث اللاإنسانى ، كفيلة بأن تغير من طبيعة ممارستنا الاجتماعية العامة ، وأن تخلق قوى جديدة وطرائق جديدة في التنظيم ، وبالتالي أن تعيد الدولة إلى وضع أفضل في علاقتها مع المجتمع .
ليس هناك ما يمنع مجتمعاتنا من أن تتقدم في بناء دولة القانون والدولة الديقراطية ولكن الوصول إلى هذا الهدف يحتاج إلى عمل اجتماعي طويل ومستمر ، وبناء مثل هذا العمل يحتاج إلى تطوير الفكر والوعي النقدي ، أو ما سميته في كتاب " الإسلام والسياسة ... " النقد الاجتماعي .
علاء الدين عبد المولى
الجمل
علاء الدين عبد المولى يحاور المفكر السوري برهان غليون (1- 3)
إضافة تعليق جديد