أدونيس في قداس جنائزي للكون: السماء الآن هي نفسها الموت
رشيد المومني:
ثمة مقامات استثنائية، يتعذر فيها الفصل بين مسار شاعر يحمل اسم أدونيس، ويتميز بحضوره الرمزي الكبير في المشهد الشعري، وما تبثه نصوصه من إشارات. باعتبار أن هذا المسار الشخصي، وبقوة ما تطرحه منعطفاته من إشكاليات فكرية وجمالية، تحول هو أيضا إلى جماع نصوص، لا تكف عن جذبها للمزيد من القراءات والتآويل، أسوة بالجاذبية الجمالية التي تحظى بها أعماله الشعرية. فمن هذا المنطلق تتداخل النصوص التي تدونها مساراته الذاتية، مع نصوص سيرته الشعرية، مفضية بذلك إلى استحداث حالة قصوى من الارتباك القرائي، التي تحول دون تحقيق إمكانية الفصل بين الشاعر ومنجزه.
ذاك على الأقل بعض ما تميل صورة الشاعر للبوح به، وهي تتأمل ملامحها في قلب ما يكتنف متاهاتها من خلوات. صورة شاعر، نذر وجوده لحافات القلق، حيث تتبرأ الأسئلة من كل الأجوبة التي تقترحها عليها فراديس اليقين. صورة طيف محروس بشموس أزمنته وأقمارها، أيضا بنداءات أراضيه الخاصة، وبما لم تفصح بعد عنه غربة السماوات، تلك المرتعشة هناك، في سجف الأعالي.
ثم إنها فضلا عن ذلك، صورة كائن محفوف بجسده وروحه التي تتوزعها أزمنة لم تهتد بعد إلى أسمائها. تلك هي إذن بعض من تجليات صورة الشاعر المحاط أينما حل وارتحل بفضول إنصات، حريص على التقاط ما هو مقبل، ربما على البوح به أو تهجيه. شاعر تضيق بكلامه اللغات، ولا تتسع لوجوهه المرايا، كما توحي به الصورة المعممة.
ربما بسبب ذلك، لن يكون ممكنا احتواء دلالات قصيدته الأخيرة «السماء الآن هي نفسها الموت» إلا في سياق تلك التعاويذ التي تخطها أمكنته وأزمنته المتتالية والمتحولة، حيث تلح ريح الكتابة على بعثرة منطوقها، خشية أن تهتدي العين الرائية إلى مكمن الشيفرة. أيضا لا يتيسر ذلك، إلا بعد استكمال القراءة لشروط حضورها، بما هي نتاج حالة ارتباك يطالها خلال تعقبها لأثر المعنى. والحضور هنا، لا يخضع بالضرورة لثوابت معلومة، بقدر ما يعود لحالة استثنائية، قوامها ذلك التواطؤ اللامنتظر المطلوب انبجاسه بين قطبي القراءة والكتابة، على تخوم «حد» ما. ونعني به في السياق الذي نحن بصدده، «الحد» الأدونيسي المنزه عن أي توصيف جاهز سلفا، انسجاما مع خصوصية ديناميته المتسائلة عن أفقها الممعن في احتجابه، إذ ضمن هذه الدينامية المتعددة الأبعاد، التي لا يقر لحركيتها قرار، تتحقق جمالية القول الشعري، كما تتحقق به إمكانية تحفيز حالة الإنصات، عله يجود بما أمكن من هباته التأويلية.
نظريا، يمتلك مفهوم «الحد» هنا أكثر من هيئة، فقد يكون فسحة فردوسية، كما قد يكون قرارا حاسما لتوطينك في غياهب الجحيم. وبالنظر لهوية الزمن العربي المتميز بقدرته العالية على الإيغال بنا في عمق ظلاميته القدرية، فإن المفهوم الجحيمي لـ»الحد» يظل وحده المهيمن على القول، ووحده الأكثر تسلطا على مسارات الكتابة والقراءة. علما بأن الأمر لا يتعلق هنا برؤية تشاؤمية مجردة من إواليات الفرح، بقدر ما يتعلق بواقع تاريخي، يحكم قبضته المقدسة على الأنفاس.
والملاحظ أن هذه القصيدة تضعنا في أتون الاختلالات الكبرى التي تضرب جسد الأرض، حيث يمسك القتل بزمام الظاهر والباطن. اختلالات ضيعت معها العناصر دلالاتها، ولم يبق ثمة سوى ذلك السؤال المسكون بحرقته ويتمه، وهو يجوب فضاء القصيدة، دون أن يتطلع إلى الفوز بمحتمل جواب، ما دامت السماء تحمل اسم الموت، وما دام القتل هو الشريعة السائدة في «أرض» جردها الصمت من اسمها، ومن جغرافيتها، مكتفيا خلال ذلك باعتبارها مجرد أرض، ليس للقراءة أن تغامر بتسييجها دلاليا خارج مجهولها.
قد ترى القراءة في صمت القصيدة عن تسمية أرضها، وفي تفاديها الإشارة إلى هويتها المكانية، تعميما ضمنيا لحالة عظمى من الاختلال التي تسود واقع الجغرافية الكونية، حيث لم يعد هناك ما يدعو لتخصيص أرض معينة بالقول أو الإيماء حتى، غير أن نار جهنم المستعرة ليل نهار في جسد ذلك – المكان بالذات- الذي لن يكف الآن ولا غدا، عن مطاردة وعيك، وذاكرتك، ومخيالك، لا تلبث/ النار أن تتساءل هي أيضا عن جدوى هذا التكتم، وعن دلالاته وأبعاده.
تكتمٌ، وحدها القصيدة تلم بخباياه وأسراره، وهي تحرص بطريقتها الخاصة على مواراته تحت رماد الصمت، حرصها على تغريبه في هوامش المجهول. كأنها تروم بذلك وقاية الاسم من عنف مرجعية المعيش، التي قد تؤدي إلى تعطيل جماليته، والزج به في مزالق الابتذال.
وكما هو معلوم، فإن شعرية التكتم عن الاسم، هي الأصل في جماليته، التي لا تحتمل الإمعان في إخضاعه لآليات التفكيك والتأويل، خاصة حينما تكون هذه الآليات دخيلة على منهجية بنائه، وعاملا أساسيا من عوامل إكراهه على التنكر لهويته، والتحدث بلغة لا صلة لها به من قريب أو بعيد. بمعنى، إكراه النص على التماهي مع مواصفات معطى واقعي وتاريخي، مهما كان هذا المعطى حارقا وخانقا. علما بأن خصوصية النص الشعري عموما، تتجسد أساسا في قدرته على الاستجابة إلى نداءات الأزمنة والأمكنة، بصرف النظر عن تاريخها وجغرافيتها.
لذلك، سيكون من الطبيعي أن تجد القراءة نفسها بصدد مراوحة صعبة وصامتة، بين تضاريس تلك البقعة الحارقة من الوجود، التي تحمل مع ذلك اسم «الأرض». هذا الاسم القادر للزج بنا في بقعتين/أرضين متقاربتين، ومتماهيتين من حيث الجوهر، أي بوصفهما فضاءين مفتوحين على القتل، بقدر ما هو قابل أيضا لوضعنا في مكانين/ متباعدين زمانيا وجغرافيا ودلاليا، باعتبار أن أحدهما قابل للإحالة على مكان محدد ومعلوم، ومستوف لشروط البدد، التي ترشح بها أجواء القصيدة، فيما يحيلنا الثاني على المكان/ الأصل، غير المحدد بزمن تاريخي أو مكان جغرافي قار ومعلوم. وفي هذا السياق تحديدا، يمكن استحضار سيرة الشاعر المطارد بتصدعاته، التي هي في الوقت نفسه تصدعات راهن مشوب بلازمنيته. استحضار، يجنح بك للمراوحة بين ما أنت فيه الآن، حيث الخراب يستغيث بذويه، وما هو موشوم فيك من أصداء الأزمنة الغابرة، التي ضيعت معانيها ودلالاتها، خلال ترحالها القسري بين منعطفات القتل والإبادة.
هكذا، سوف تنتبه القراءة – وهي تتفقد فضاء القصيدة عبر مداخلها الستة، ذات الترقيم الروماني- إلى أنها مدعوة للإقامة في ما يمكن توصيفه بـ»طقس موت» ذي ملامح غريبة عن الموت ذاته. موت أشد رعبا من الموت، مقبل من مختبرات «قادة الإبادات وسلاطين العبوديات» الذي أفضى بتجاوزه لحدوده القصوى، إلى إفراز واقع أشد رعبا ومأساوية، تتمثل أقسى مؤشراته في انفصال الطبيعة مجازيا عن الكائن، كشكل ضمني من أشكال احتجاجها الرمزي على همجيته الدموية. انفصال، هو بمثابة قطيعة جذرية عصفت خلسة بتواصل ذاتين، كانتا قد خلقتا أصلا، من أجل أن تتعايشا معا وتتآلفا، باعتبار أن وجود الأولى، رهين أساسا بوجود الثانية، والعكس بالعكس. وأيضا، بالنظر لكون مفهوم الوجود ككل، لا يستوفي دلالاته إلا انطلاقا من إشكالية هذا التفاعل الحتمي، الذي يختبر فيه الكائن، حدود قابليته للبرهنة على صدقية إنسانيته، خلال مختلف سياقات تواصله مع الطبيعة، بشقيها الإيجابي أو السلبي.
والملاحظ أن بنية النص تستمد شعريتها أساسا، من صلب هذا الإشكال المعبر عنه بتنكر الكائن للحد الأدنى من إنسانيته، والذي حذا بطبيعة أصابها رهاب القتل، أن تتنكر له بدورها. وخلال ذلك، عبثا تحاول القراءة أن تتفقد ذاتها، في قلب كون «يهزأُ» به «معجونٌ طينيٌّ اسمُه آدم» وحيث الهواء «يضعُ يدَهُ على رأسِ الشمس:
متى يبدأ الغد الذي يُسمّى الإنسان؟»
وحيث «نحنُ الأشباحَ الآدمية التي تدبُّ على هذه الأرض بقدمين اثنتَيْن،
لم نعُدْ نعرفُ من أين نأتي أو من أين أتَينا وإلى أين نمضي».
شاعر و كاتب من المغرب
القدس العربي
إضافة تعليق جديد