عادل خضور، الناجي الأخير من ''حفلة التفاهة''
رهام عيسى : أردت الكتابة عن عادل خضور، ولكن بدلاً من وضع اسمه في محرك البحث غوغل، وجدت نفسي أبحث عن طريقة صناعة العرق البلدي، بدءاً من اختيار عناقيد العنب، حتى وضعها في الخوابي لتتخمر وتصبح جاهزة للتقطير، لتصل أخيراً إلى كأسه، وكأن هذا الوصول هو الطقس الأخير والأهم. فلطالما ارتبط هذا المشروب بالنسبة لي بعادل خضور وجلساته الغنائية، حيث تدار الكؤوس، وفي صحّة العمر الذي يمضي "عالصافي"، يخرج بيت العتابا من حنجرته عرقاً بلدياً خالصاً، ليطلق سيل الآهات المكتومة في قلوب من حوله. شعرٌ عذب ومعنى أصيل ولفظ رشيق، يجعلك رغماً عنك منتشياً، تتمايل طرباً وشجناً وسكراً.
هذا المزيج الساحر من اكتمال النغم، مع الكلمة والصوت الشجي الفريد بمساحاته الهائلة، وحنجرته التي تشبه خوابي العنب، هو الذي يصنع حالة غنائية مميزة ومختلفة، حالة لم تفتح لها أبواب المسارح والمهرجانات والفضائيات، بل شقت طريقها في دروب القمع والإنكار والتهميش، جاعلة من قساوة العيش، مادة خاماً للإبداع.
الأغنيات نهر يصب في الذاكرة
كلما أردت استحضار عادل خضور في ذاكرتي، عدت إلى طفولتي، إلى العالم الذي التقطت منه تصوّري الأول والأكثر صدقاً عن كلّ شيء، عن الحب، عن الحزن والألم والفراق، وعن الشعر والغناء أيضاً. بالمشهد ذاته ودائماً كان محتضناً عوده يغني في أحد السهرات الشعبية البسيطة، أو أحد الأعراس، محاطاً بالعشرات ممن حفظوا قصائده، ومواويله، وضربات وتره، ونغمات صوته الصافي.
كنت أستغرب تلك الحالة الغريبة من الانسجام والتماهي بينه وبين الحاضرين، وكأنهم جميعاً مربوطون إلى وتر واحد، ومع كل ضربة عود وهزة رأس وأوووف، يتطايرون كالنغم بعيداً على أكف الريح، فكان هذا تصوري الأول عن التحليق أيضاً، التحليق في مكان أول ما تفعله لتثبت انتماءك إليه هو أن تقص لسانك وأجنحتك.
هو الغناء إذن، المواسي الأول، والطريقة الأقل خطراً للتعبير عن الآلام والمشاعر المكبوتة والرغبات الدفينة على شكل نغمات، تتلاشى دون أن تترك أثراً.
فنحن ننتمي لمنطقة يقول معظم سكانها الشعر، ولكن القليل منهم من يكتبه، وعادة ترويض الحزن بالغناء والعتابا تكاد تكون جزءاً من تراث وعادات منطقتنا التي كانت حصتها من الألم واللوعة والحنين والفقد أكبر من أن يفي البكاء بالمطلوب.
فعلى قبر طري قد ترثي أمّ ابنها الشاب ببيت عتابا يفطر القلوب ويسكب الألم بارداً فوق رؤوس من جاؤوا للمواساة، فتخرج الحسرات والآهات حرّة وقوية من الصدور وكأنها آه واحدة. وفي ظل شجرة بلوط عتيقة قد يصدح صوت رجل ستيني مبحوح بكلام قد يعجز أكبر من يقال عنهم اليوم شعراء أن يأتوا بمثله، فيمتد صوته عبر الحقول ويطرق شبابيك البيوت الريفية البسيطة لتفتح على مصراعيها لاستراق السمع.
لا تكاد تفارق ذاكرتي هذه المشاهد، ولا أكاد أنسى صوت أبي الشجي، وأبيات العتابا التي كانت تخرج من فمه بتلقائية ودون أي عناء، عند أي حدث يعبث بمشاعره فرحاً أو حزناً. أبي الذي بقي وصوته وأبيات العتابا التي كان يقولها ولم يكتبها يوماً جزءاً وردياً من طفولتي. لم يسعفني الحظ لأكبر في ظلّه، فقد سرقه الموت مبكراً، تاركاً لي ولأخي طعماً آخر للحزن، نحس به لاذعاً كلما سمعنا بيت عتابا.
هذه الذكريات على خصوصيتها، لا أبالغ إن قلت إنّ الكثيرين هنا من سكان هذه الجبال يمتلكون ما يشبهها أو يقاربها، وهذا بالضبط ما مهّد الطريق أمام عادل خضور ليحتل قلوبنا، ويبني لنفسه داخلها مكاناً لن يدخله أحد مهما أخذتنا الحياة وأسمعتنا من موسيقاها العظيمة.
ادل خضور ليس مطرباً بالنسبة لنا فحسب، بل هو جزء لا يتجزأ منّا أنفسنا، من سهرات الحنين والحزن والحب والغربة والفراق والندم، جزء من ذاكرة نقيّة ونظيفة وغير مشوّهة.
بين الحقيقي والمزيف
عادل خضور، ليس إلا أحد الناجين القلائل من الصيت السيئ والرديء والمبتذل للغناء الشعبي، فغناؤه لا علاقة له بالغناء الشعبي الدارج اليوم والخالي من كلّ معنى، والبعيد كل البعد عن الحالة الغنائية والشعرية الحقيقية لهذه المنطقة، أي منطقة جبال الساحل السورية وما حولها. فيظهر معه الفرق واضحاً وجلياً بين البساطة والسذاجة بين العمق والقاع بين الحقيقي والمزيف. فمن غنى: "يا سفر الغربة/ يا أحلى سفر/ ع جوانح شي كذبة/ ما الها خبر/ شيل التعب عن قلبي/ وحطوا ع حجر"، ومن تربى على التقاط المعنى من بين الحقول، ومن تحت المناجل، ومن حفيف الأشجار وصمت الحجارة والأبواب المغلقة والسطوح المائلة، لن يرتكب جريمة (نجم ما) بحق كل معنى، حين صدح بصوته من على مسرح قلعة دمشق وسط تصفيق الجمهور "لو البحر يبعدك عني لسوّي سوريا عبّارة". عبّارة نعم عبّارة، حين عدل كلمات موال حاتم العراقي، ولمن لا يعرف فإن كلمة "عبّارة" بلهجة أهل العراق ولهجة المنطقة الشرقية في سوريا أقرب ما تكون لمصطلح مداس.
"عبلاد بعيدة سافر هالمحبوب
شو طالع بإيدي هي قدري المكتوب
كيف فيك يا قاسي تتركنا وتروح
قلبي لي عم بيقاسي من كتر الجروح
عفراقك صبر أكتر من أيوب"
ذا الكلمات مقطع من الأغنية التي بدأ معها مشوار عادل خضور كمطرب شعبي سوري، صار له فيما بعد إرث فني بديع، ففي حصيلة الفنان السوري ما يزيد على المئة أغنية. ولكنه وللأسف هو غير معروف حتى في سوريا نفسها، إلا في مناطق الساحل السوري وحماه، حيث مسقط رأسه قرية أم الطيور، وبعض مناطق حمص.
الغناء الشعبي العالي
عادل خضور كان دائماً صاحب النصيب الأكبر في مكتبتنا الموسيقية داخل هواتفنا المحمولة، نحمل صوته كسيف نشهره في وجه كل من يجرب الانتقاص من تراثنا الغنائي الشعبي. أتذكر مرة في جلسة جمعتني مع عدد من الأصدقاء من جنسيات عربية مختلفة، أخذ جزءاً كبيراً منها الحديث عن الطرب والغناء والابتذال الذي صار موضةً رائجة اليوم، في عصر أصبحت كل الأبواب مشرعة لعرض التفاهة ولركوب موجة الدارج، حيث يميل الجميع لاستسهال كل شيء حتى السمع.
طلب مني أحد الأصدقاء من المغرب وطبعاً بعد دفاعي المستميت عن جمال الأغنية الشعبية السورية الساحلية، لتضحك صديقتي الحلبية وكأنها تشهد وقوفي في "خانة اليك"، خاسرة وخائبة. لكنّ الخيبة الوحيدة التي شعرت بها وقتها هو عدم قدرتي على المفاضلة بعدل بين أغاني عادل خضور، فهل أختار "أسمر وعيونو يا يما كروم الدوالي"، أم أختار أحد أناشيده الدينية الصوفية الساحرة، أم "صباح الخير يا ضيعة محبوبي"، لأسمعهم جميعاً في النهاية، والفخر يزين وجهي، كمن يدرك أنه سيعرف الجميع على جوهرة اكتشفها قبلهم:
"لو تعرفي يم القلب القاسي
دار الدهر غطى التلج راسي
صفيت امشي عالعصا تعبان
بتال الشتي والناس مو ناسي
لو تعرفي صار القلب ختيار
بعدك يا حسرة دبلت الأزهار
يوم الحزن عنا ماعدلو نهار
والمركب بمينا الأسى راسي"
إلى دار الأوبرا
بربطة عنق وبدلة رسمية أطل هذه المرة عادل خضور على غير عادته، لكن من على مسرح دار الأوبر السورية ليكون سفيراً للأغنية الشعبية الساحلية، وليكون من المطربين الشعبيين القلائل الذين غنوا وصدحوا بأصواتهم على مسرح عريق كمسرح دار الأوبرا السورية، وهذا ما كان بالنسبة لي أنا شخصياً انتصاراً لنوع غنائي لا ينقصه شيء عن أي نوع غنائي آخر، بل ربما يزيد على غيره في كثير من الأماكن. وخاصة بعد أن انتشرت موجة الغناء البديل وإعادة (إحياء) التراث، هذا الإحياء الذي أراه شخصياً اعتداء على الحقيقي وانتصاراً للزيف، مع كامل استغرابي لحالة الإقبال الجماهيري الكبير عليه، وكأننا جميعاً ضحايا لاحتيال مجهول المصدر يطال كل شيء وحتى الغناء، وينتج عن تمييع الأصل وجذب الناس لجمال المزيف السطحي.
أحب عادل خضور، وأحب أن يعرفه الجميع، لكن أن يعرفوه كما هو، ناجحاً رغم عدم امتلاكه من أدوات النجاح إلا نفسه وقدرته على خلق مساحة خاصة لكثيرين ممن رغبوا بالتعبير عن أنفسهم ومشاعرهم، بلغتهم وكلماتهم ومصطلحاتهم دون أي استعارات، فكان مسرحه كل البيوت التي أحبته، وجمهوره، رفاق الكأس والسهر والعود والنغم الأصيل.
رصيف22
إضافة تعليق جديد