التحفة الفنيَّة التي ألهمت ماركيز ليكتب روايته
فاليريا لويسيلي ـ ترجمة: حسين جروس
ربما سمع قراء الأدب في أمريكا اللاتينية إحدى الصياغات العديدة للقصة التالية:
عام 1961، حين وصل غابرييل غارسيا ماركيز إلى مكسيكو سيتي، مفلسًا ولكن مليئًا بالطموح الأدبي، محاولًا بيأس العمل على رواية جديدة. وفي أحد الأيام، كان يجلس في مقهى لا هابانا الأسطوري، حيث قيل إن فيدل كاسترو وتشي غيفارا خطَّطا للثورة الكوبية. يدخل خوليو كورتاثار حاملًا نسخة من رواية خوان رولفو «بيدرو بارامو». بحركة سريعة، كما لو أنه يوزِّع أوراقًا، ألقى كورتاثار الكتاب على طاولة غارسيا ماركيز، قائلًا: «اقرأ هذا وتعلم».
في تلك الليلة، قرأ غارسيا ماركيز الرواية في جلسة واحدة محمومة دون نوم. كان مسكونًا بشدة بهذا الكتاب الصغير، الذي تدور أحداثه في قرية ريفية مليئة بأشباح الماضي وأصدائه، لدرجة أنه قرأه مرة أخرى في الليلة نفسها، وبدأ بحفظه. وفي اليوم التالي، أصبح قادرًا أخيرًا على البدء بكتابة «مئة عام من العزلة».
هذه النسخة التي سمعتها عندما كنت طالبة صغيرة، وهي نسخة -كما تبيَّن- تحتوي على بعض الأخطاء. لم يكن المكان مقهى لا هابانا، بل شقة غارسيا ماركيز المتواضعة، ولم يكن كورتاثار من أعطاه الكتاب، بل ألفارو موتيس. لكن جوهر هذه الأسطورة الأدبية (الإبهار، والقراءة الجشعة، وتصاعد الإلهام) يظل صحيحًا.
ما يعجبني في القصة، التي يرويها غارسيا ماركيز في مقدمة عام 1980، وتظهر في ترجمة جديدة لـ «بيدرو بارامو»، ليس ما تقوله عن غارسيا ماركيز الكاتب: ذاكرته الفوتوغرافية والصوتية، وحماسته الأدبية الباروكية، واعترافه المتواضع بأن هذه الرواية المصغَّرة هي التي أظهرت له طريق العودة إلى الكتابة وجعلت تحفته الفنية في نهاية المطاف ممكنة. ما يعجبني فيه هو ما يقوله عن غارسيا ماركيز القارئ، وعلى نطاق أوسع، ما يقوله عن السحر الذي يلقيه كتاب رولفو على الكثير من المعجبين به.
غالبًا ما تؤدي رواية «بيدرو بارامو»، التي نُشرت أول مرة في المكسيك عام 1955، إلى ردود فعل محمومة. قال خورخي لويس بورخيس إنها إحدى أعظم الأعمال الأدبية المكتوبة على الإطلاق، ووصفتها سوزان سونتاغ بأنها إحدى روائع القرن العشرين، وقال إنريكي فيلا ماتاس إنها «الرواية المثالية». ربما لم توجد رواية «2666» لروبرتو بولانيو لولاها. يوضِّح الكتاب لقرائه كيفية القراءة من جديد، بالطريقة نفسها التي تفعل بها «الأرض اليباب» أو «يوليسيس»، من طريق ثني قواعد الأدب بمهارة شديدة، وبكل حرية، بحيث إن القواعد يجب أن تتغيَّر بعد ذلك.
قرأت الرواية أول مرة في المدرسة الثانوية، في المكسيك، في فصل يُسمى القراءة والتنقيح ومقدمة في التحقيق الوثائقي. كان عمري 14 أو 15 عامًا، ولم يكن الأمر حبًا من النظرة الأولى. كان الفصل قديمًا مثل اسمه (ومن المثير للدهشة كيف يخرج التعليم الأدبي غالبًا عن طريقه ليبعد القراء عن متعة الكتب)، ولم أفهم شيئًا.
كانت هذه المرة الثانية أو الثالثة التي أقرأ فيها الكتاب، حين كنت في مدرسة داخلية دولية في الهند، حيث بدأت أفهم ما فعله رولفو وأقدِّره. لقد قرأته مع مجموعة من الطلاب من أمريكا اللاتينية، كنا جميعًا في سن 16 أو 17 عامًا. قرأناه بالطريقة التي ينبغي أن تقرأ بها الأشياء الصعبة: ببطء، وبنحو جماعي، وبصوت عالٍ، مع قلم رصاص في اليد. كانت لدينا لهجات مختلفة (الأرجنتينية، والدومينيكية، والكوستاريكية، والإسبانية، والبوليفية)، مع ذلك، يبدو أن استخدام رولفو الفريد للغة العامية من منطقة ألتوس دي خاليسكو يتردد صداه تمامًا مع العديد من اللهجات في مجموعتنا.
لم نستطع التعبير عن ذلك تمامًا حينها، ولكني متأكدة أننا جميعًا شعرنا به، يوجد شيء خالد وغير محدود في هذه القصة شديدة المحلية للفلاحين والأباطرة خلال الثورة المكسيكية. إنها قصة كل الثورات: الذين لا أرض لهم ضد الملاكين، والمحرومين ضد الأقوياء. إنها قصة الاغتصاب والانتزاع والعنف الجنسي. بسرقة الأرض واستيطانها واستغلالها مع أهلها. وبعبارة أخرى، إنها قصة بناء الأمة في الأمريكيتين.
لكن «بيدرو بارامو» في جوهرها قصة رحلتين، أو ربما رحلة واحدة تتكشف إلى اثنتين. الأولى هي مسار خطي مدفوع بمسعى تليماخيان: رجل يبحث عن والده المفقود. يذهب الراوي، خوان بريسيادو، إلى مسقط رأس والديه بعد وفاة والدته، بحثًا عن والده المنفصل عنها منذ فترة طويلة، بيدرو بارامو. ويخطط للمطالبة بتعويضات. لكن ما وجده هو مدينة أشباح. ثم يموت. (هذا ليس حرقًا، فالقصة تستمر بعد وفاته وكأن شيئًا لم يحدث بالفعل). الرحلة الثانية هي رحلة دانتيسكي: هبوط متصاعد إلى نوع من العالم السفلي. ولكن على النقيض من جحيم دانتي المرسوم رياضيًا، بدوائره المتحدة المركز وجغرافيته الصالحة للملاحة إلى حد ما، فإن جحيم رولفو حساس إلى حد كبير، ومليء بالأصوات وأصداءها التي لا نهاية لها.
يحفظ العديد من قراء أمريكا اللاتينية الجملة الافتتاحية للرواية عن ظهر قلب: "Vine a Comala porque me dijeron que acá vivía mi padre, un tal Pedro Páramo". منذ البداية، نجد أنفسنا في زمكان غير مستقر سنتساءل عنه ونعيد تعريفه في أثناء تقدمنا في الرواية. بالنسبة إلى قراء اللغة الإنجليزية، فإن الاختلافات الرئيسية في ترجمتين للسطر الافتتاحي ستساعد على تسليط الضوء على هذا الغموض. تقول ترجمة مارغريت سايرز بيدن لعام 1994: «لقد جئت إلى كومالا لأنه قد قيل لي إن والدي، وهو رجل يدعى بيدرو بارامو، يعيش هناك». أحدث ترجمة كتبها دوغلاس جيه ويذرفورد هي: «لقد جئت إلى كومالا لأنه قيل لي إن والدي يعيش هنا، وهو رجل يدعى بيدرو بارامو». وكما أن استعمال «هنا» بدلًا من «هناك» يغير جذريًا مكانية القصة (حيث يتحدث الراوي)، فإن استخدام «قيل» -وهو أقل بعدًا من «قد قيل»- يغير زمانيتها (عندما يحدث السرد).
لا شيء يمكن أن يقع في مكانه في الرواية إذا لم يكن لدى المؤلف سيطرة على إحساسها بالزمن، سواء كان خطيًا أو متقطعًا. في روايات الزمن الممزَّق، يجب أن يكون تسلسل الأحداث محكومًا بمنطق خاص، منطق تبرره الأسئلة المركزية للكتاب. في جميع أنحاء «بيدرو بارامو» -حيث يكون الاهتمام الرئيسي هو كيف يطارد عالم الأحياء عالم الموتى، وليس العكس، كما هو الحال مع معظم قصص الأشباح- ينحسر الوقت ويتدفَّق في نوع من نمط المد والجزر. إنها ليست دائرية تمامًا، لأن الدوائر تكون مغلقة، ولكن الإيقاع يشبه شيئًا دوريًا، مثل الاندفاع والغسل العكسي للمياه المتكسِّرة فوق الرمال، مرارًا وتكرارًا. الموتى، الذين تعذِّبهم الحياة التي لم يعد بإمكانهم المشاركة فيها، ولكن ذكرياتهم تتكرَّر، مرارًا وتكرارًا، تنتج تيارًا خفيًا ثابتًا من الهمهمات، والرثاء، والغمغمات، والثرثرة، والهمسات، والاعترافات الهادئة.
إذا كانت أين ومتى تتغيران باستمرار في «بيدرو بارامو»، فإن الصوت هو السيارة السريعة والمتعرجة التي تحملنا عبرها. في فصل دراسي درَّستُه هذا الخريف، طلبت من طلابي العثور على العلامات الصوتية العديدة في الرواية. (لقد كانت تجربة ممتعة، وشاركنا النتائج مع مصممي الصوت لفيلم « بيدرو بارامو» المرتقب. وقد ردوا علينا قائلين إنهم استلهموا من قوائم الأصوات خاصتنا وأرادوا أن ينسبوا الفضل إلى الطلاب).
لقد اندهشت عندما رأيت أن جزءًا كبيرًا من الرواية يتكون من تفاصيل سمعية. ما يزال الهواء يتحطّم بسبب رفرفة أجنحة الحمام. طائر الطنّان يطّن بين شجيرات الياسمين. ضحك. نقرة مفاصل على نافذة الاعتراف. ساعة الكنيسة تدقّ الساعات «واحدة تلو الأخرى، واحدة تلو الأخرى، وكأن الزمن قد انكمش». وأصوات أيضًا لا نستطيع سماعها، بل نكاد نتخيلها: «الأرض تدور على مفاصل صدئة، ارتعاشة عالم قديم يسكب ظلامه». وطبعًا أصوات المطر التي لا تعد ولا تحصى.
تهطل الأمطار بغزارة في «بيدرو بارامو». وعادة ما يكون الماء هو الذي يحدد التحولات الزمانية والمكانية في الكتاب. يصبح الموتى مضطربين عندما يهطل المطر. تقول إحدى الشخصيات عن امرأة مدفونة في قبر: «لا بد أن الرطوبة وصلت إليها لذا فهي تتقلَّب في نومها». يبدأ الموتى بالاستماع، ومثل البذور الموجودة تحت الأرض، يبدؤون بالتحرك في حالة من القلق، حتى ينخرطوا في المحادثة. أحد طلابي أطلق على ذلك اسم «التسرب»: عندما يليِّن المطر التربة، فإن الأصوات في «بيدرو بارامو» قادرة على التسرب عبرها وتصبح مسموعة. توجد مراوغة حتمية للرواية ذات البنية السردية المجمَّعة من أصوات مكتومة في المياه الموحلة، ولكن هذا النوع من المراوغة هو الذي يجعلنا نميل إليها، حتى نستمع بنحو أفضل.
كان خوان رولفو (1917-1986) خجولًا إلى درجة المراوغة، وكان صامتًا تقريبًا في المقابلات والمحادثات، وغير معقد في أساليبه وعاداته. «اسمي خوان نيبوموسينو كارلوس بيريز رولفو فيزكينو»، كتب في مخطوطة غير مكتملة. «لقد تراكمت عليَّ أسماء أسلافي، من أبي وأمي، وكأنني الساق المتجمعة في حفنة موز... كنت أتمنى اسمًا أكثر بساطة». والبساطة التي اشتاق إليها في اسمه هي توقيع كتاباته. ونثره مقتصد، ويكاد يكون شحيحًا؛ جمله مليئة بالانقطاعات، وحواراته مليئة بالوقفات. قال في مقابلة: "Yo creo en el silencio"، أي: «أنا أؤمن بالصمت».
كان رولفو وكيل هجرة، وكان وكيلًا فظيعًا، بحسب قوله، ولم يُرحِّل أي شخص أبدًا. وفي وقت لاحق، كان بائع إطارات متنقِّل. أصبح مصورًا فوتوغرافيًا متحمسًا في تلك الفترة، وأنتج عددًا كبيرًا من الصور التي توثِّق المناطق الريفية في المكسيك. بعد نشر «بيدرو بارامو»، أصبح محررًا في الوكالة الوطنية لمجتمعات السكان الأصليين، حيث عمل لأكثر من 20 عامًا. بكل فخر، لقد كان غزير الإنتاج في هذا العمل، إذ حرَّر العديد من الكتب حول أكثر من 50 مجموعة من السكان الأصليين في المكسيك. لكن بوصفه كاتبًا، كان على النقيض من ذلك تمامًا: لم ينشر سوى رواية واحدة ومجموعة قصصية واحدة في حياته، ولم ينه كتابًا آخر بعد «بيدرو بارامو».
غالبًا ما يجري تضمينه -خطأً، على ما أعتقد- في مذهب الواقعية السحرية. من المنطقي أكثر أن نرسم خريطة رولفو ضمن كوكبة من الكُتّاب مثل ت. س. إليوت، وصمويل بيكيت، وفرانز كافكا، الكُتّاب الذين أخذوا الأدب إلى حدود لغاتهم، وكتبوا بنوع من اللغة «الأجنبية»، إذ سمحوا للغرابة بالتسرُّب إلى المألوف وتحويل الحياة اليومية إلى غريبة.
رغم أنه من المقبول على نطاق واسع أن غارسيا ماركيز استعار بكثافة من رولفو، فإن المرء يستشعر دينًا أعظم بكثير في أعمال كورماك مكارثي. إلى جانب ضربات رولفو وزخارفه الأكثر وضوحًا في ثلاثية مكارثي الحدودية، توجد أيضًا بصمات «بيدرو بارامو» في «الطريق»، بنثره المتفرِّق وإيقاعه المؤلم، وعالمه الكئيب، وشخصياته التي لا تطاق، ورحلاته الحزينة بنحو مثير. يغمز مكارثي أيضًا لرولفو في فيلم The Crossing، الذي تظهر فيه شخصية السيد بارامو.
لست متأكدًا مما يسمح لبعض الأعمال الأدبية المترجمة بالتدفُّق بسهولة إلى عقول القراء الأجانب، لتصبح جزءًا من الخيال الجمعي. انتقلت رواية «مئة عام من العزلة» بسرعة إلى العالم الناطق باللغة الإنجليزية، تمامًا كما فعلت «التحول» و«الغريب». لكن رواية «بيدرو بارامو»، التي تُرجمت إلى أكثر من 30 لغة وحظيت باحترام كبير على مدى عقود من قبل الكتاب والقراء والنقاد، كان لها مصير مختلف. لقد قرأتُ الكتاب 15 مرة على الأقل؛ في فترة ما، قرأتها مرة واحدة سنويًا. ولا أتردد في القول إنه لا توجد رواية أكثر سحرًا وتغييرًا في الأنساق. لكنها لم تصل إلى آذان العديد من قراء اللغة الإنجليزية؛ وفي الولايات المتحدة، يظل هذا الكتاب بمثابة سر مكتوم، وهو كتاب يعتز به الناس أو لم يسمعوا عنه من قبل.
أحد التفسيرات المباشرة هو عدم كفاية الترجمات السابقة. لقد شعرت دائمًا بالإحباط عندما حاولت قراءة أو تدريس «بيدرو بارامو» باللغة الإنجليزية. نُشرت الترجمة الأولى، التي قام بها ليساندر كيمب، عام 1959 من قبل جروف، واستبعد جملًا كاملة كانت تبدو غامضة بالنسبة له. والثانية، بقلم مارغريت سايرز بيدن، ربما عوضت بنحو مبالغ فيه الإغفالات المحيرة بإضافة العديد من الكلمات إلى نثر رولفو الصارخ. ربما تكون قد تجاوزتْ رولفو استنادًا إلى المرشِّح المزخرف للعديد من روايات الواقعية السحرية في أمريكا اللاتينية التي ترجمتْها (متضمنةً 11 رواية لإيزابيل الليندي على الأقل). بدأت قراءة هذه الطبعة الثالثة، الصادرة عن ويذرفورد، بشيء من الشك. لكنني أصبحت أكثر وأكثر حماسًا مع تقدُّمي. ترجمته هي إلى حد بعيد هي أفضل ترجمة لرولفو باللغة الإنجليزية.
في مقابلة مع التلفزيون الإسباني عام 1977، اقترح رولفو أن «بيدرو بارامو» من المفترض أن تُقرأ ثلاث مرات قبل أن تُفهم. وأوضح أن القراء ربما يواجهون العديد من التحديات في قراءتها كما واجه هو في كتابتها. هذا عادل بما فيه الكفاية. ربما كان من المفترض أيضًا أن تُترجم الرواية ثلاث مرات قبل أن تتسرب على نطاق أوسع وبشكل لا يمحى إلى الوعي الناطق باللغة الإنجليزية. ربما وقته قد حان أخيرًا.
إضافة تعليق جديد