مدخل إلى قراءة كتاب «الوجود والزمان» لمارتن هايدجر
شايع الوقيان:
يعد هذا الكتاب واحداً من أعظم الكتب الفلسفية في القرن العشرين، ويكفي أنه سببٌ في ظهور تيارات فلسفية وفكرية عديدة؛ كالوجودية والتفكيكية والهرمنيوطيقية، وما بعد الحداثة عموماً.
والكتاب يمتاز بصعوبة بالغة ناجمة عن استعمال هايدجر منطقاً مغايراً للمنطق المألوف، ومصطلحات جديدة قام بنحتها بنفسه؛ ولكننا سنقدم تحليلاً وشرحاً مُبَسَّطَين بعيداً عن التعقيدات التقنية للكتاب، أو سنقدم “صورة كارتونية” كما يقول مايكل موريس؛ أي صورة تتوخى البساطة، وتتحرر من المفاهيم الفنية قدر الإمكان.
في هذا الكتاب يقوم هايدجر بتطبيق المنهج الفينومينولوجي (الظاهراتي) الذي ابتكره أستاذه هوسرل على ظاهرة “الوجود”. هذا المنهج يركز ليس على الأشياء ذاتها؛ بل على ما يظهر لنا منها، أي على “معانيها” بالنسبة إلينا ككائنات عاقلة ذات وعي قصدي. من هنا فسوف يدرس هايدجر ليس الوجود ذاته، بل “معنى” الوجود لنا نحن ككائنات عاقلة أو بالأحرى ككائنات فاعلة ومريدة. فهايدجر يهتم ليس بالإنسان ككائن يريد “معرفة” العالَم؛ بل ككائن “يعيش” في هذا العالم، ويحاول أن يحقق ذاته فيه.
أ) الوجود- في- العالم:
يرى هايدجر أن الإنسان ملقى به في هذا العالم، ولا يعرف إلا أنه يوجد هناك (أي في العالم). وهذه أول خاصية تميز الإنسان؛ فهو وجودٌ- في- العالم. قد يظن البعض أنها فكرة بديهية وربما سخيفة؛ لكن الحقيقة أن هايدجر استطاع بهذه الفكرة أن يتجاوز مشكلات فلسفية شتى، وأبرزها مشكلة الذات/ والموضوع. وهذه المشكلة التي بدأت مع ديكارت تنص على أن الذات (الإنسان ككائن مفكر) يعي ذاته بشكل يقيني، وأنه روح أو عقل، ويقف إزاءه عالمٌ مادي خارجي ليس متيقناً من وجوده أو من معرفته في ذاته. وهذا العالم قد يكون وهماً كما في حالة الأحلام؛ فلربما أننا الآن نحلم. وهكذا انشغل الفلاسفة بمحاولة سد الفجوة القائمة بين الذات والموضوع؛ أي بين الإنسان كمفكر وبين العالم الخارجي. وهل المعرفة تبدأ من العقل أم من العالم التجريبي؟ وهكذا. أما هايدجر فقد حل المشكلة بضربة واحدة: ليس هناك ثنائية؛ بل هناك فقط إنسان يوجد منذ البداية في عالم، وهذا ما يجب أن ننطلق منه في تفلسفنا.
إذن، الإنسان بوصفه موجوداً هناك (ويطلق عليه اللفظة الألمانية “دا- زاين”) هو الأصل الأنطولوجي لكل اشتغال لاحقٍ.
الإنسان يولد ولم تتحدد ملامحه بعد أو “ماهيته”؛ فهو يوجد أولاً ثم يقوم بتحقيق ذاته (تحديد ماهيته) لاحقاً. فالإنسان يوجد، وتتحقق ماهيته في إطار هذا الوجود. وقد التقط سارتر هذه الفكرة (الوجود يسبق الماهية)، وبنى عليها مذهبه الوجودي.
هكذا فالإنسان ينخرط في علاقة مباشرة مع العالم المحيط به؛ ولكن علاقته ليست علاقة نظرية أو “معرفية” كما يظن الفلاسفة، بل علاقة “عملية”، ولذا فكل أشياء العالم تظهر للإنسان بوصفها “أدوات” يستعملها لتحقيق أهدافه؛ فالنجار يستعمل المطرقة كأداة لتحقيق غاية (طرق المسمار)، وهذه أيضاً تصبح أداة أو وسيلة لغاية أخرى وهي صناعة باب أو نافذة.. وهكذا فكل شيء يظهر كسلسلة من الأدوات والوسائل. من هنا يظهر العالم لنا بوصفه أدوات “تحيل” على بعض.
النجار لا يتعامل مع المطرقة على أنها موضوع للتفكر بل أداة للعمل؛ صحيح أن النجار يحتاج إلى “معرفة” سابقة من أجل استعمال المطرقة وإنجاز أعماله، لكنها ليست معرفة نظرية كما يحدث في العلم والفلسفة؛ بل معرفة عملية، ويسميها هايدجر بـ(الفهم- المسبق)، وهو فهم ضمني؛ لكن متى تتخلص المطرقة من كونها أداة وتتحول إلى شيء مستقل؟ يقول هايدجر إن ذلك يحدث عندما تكف المطرقة عن أداء وظيفتها، كأن تنكسر مثلاً. فالنجار يومياً يمسك بالمطرقة ويطرق بها المسامير، ونظره موجه ليس إلى المطرقة بل إلى الغاية منها؛ لكن عندما يرفعها ويتفاجأ بأنها مكسورة فإن المطرقة “تظهر” الآن بوصفها شيئاً يوجد في ذاته، وليس أداة لنا. ههنا يحتاج النجار إلى “معرفة نظرية”؛ لكي يصلح المطرقة. ويتضح هذا أكثر إذا أخذنا مثال “السيارة”؛ كلنا “نعرف” كيف نقودها، أي كيف نستعملها، لكن عندما تتعطل السيارة فإننا نحتاج إلى خبير، إلى معرفة نظرية لا عملية. الفكرة هنا أن المعرفة النظرية تأتي لاحقاً. أما الحالة الأصلية للتعامل مع العالم وأشيائه فهي المعرفة العملية، وهذا ما يقرب بين هايدجر وفلاسفة المذهب البراجماتي؛ مثل وليم جيمس وجون ديوي.
المعرفة العملية تكشف لنا عن حالة شعورية للإنسان وهي “الاهتمام”. هذه الحالة ترافق خاصية الوجود- في- العالم. فكل شيء بوصفه أداة يجذب اهتمامي إليه؛ وذلك لأنه وسيلة لكي أحقق أهدافي، وبالتالي أحقق ذاتي. هذا الاهتمام سيكون مصدراً لـ(القلق)، الإنسان يتصف بأنه متناهٍ، أي يعرف جيداً أنه سيموت، وأن وجوده متناه ومحصور بين الولادة والموت. من هنا سيضطر الإنسان إلى التخلي عن أغلبية طموحاته، فالزمان قصير. من هنا سيختار الإنسان جزءاً بسيطاً من تلك الطموحات، والاختيار ينطوي على “نفي” واستبعاد لبقية الطموحات (الإمكانات). وهكذا يطل العدمُ علينا برأسه؛ فالعدم يتجلى في النفي والإزالة، وفي التناهي والوعي بالموت، وهو مصدر القلق، وهو قلق وجودي لا نفسي.
الاختيار يدل على أن الإنسان كائن حر، وحريته مزعجة كما لاحظنا لأنها تنطوي على “نفي”.
ب) الوجود- مع- الآخرين:
هناك خاصية وجودية ثانية، إضافة إلى خاصية الوجود- في- العالم؛ وهي الوجود- مع- الآخرين، فالإنسان كائن اجتماعي بالضرورة، وبعض الناس يضطر إلى تقليد الآخرين في اختياراتهم، خوفاً من مسؤولية القرار الحر. فكما قُلنا، فالحرية تنطوي على قلق؛ وبالتالي يقوم البعض بالانخراط في “الهُم”، أي في الجماعة الاجتماعية وتقليدهم في كل شيء، أو كما تقول الأمثال الشعبية “مع الخيل يا شقرا” و”حشر مع الناس عيد”. فيلقي بعبء الحرية والمسؤولية على (الهُم)؛ وهذا ما يدعوه هايدجر بالوجود المزيف، يقابله الوجود الأصيل؛ حيث يختار المرء لنفسه بنفسه، ويتحمل مسؤولية حريته وقراراته.
في الحالة الاجتماعية، يتعامل المرء أحياناً مع الناس كأدوات؛ أي وسائل لتحقيق غاياته؛ وهذا التعامل السلبي سيكون مدخلاً لنقد هايدجر الذي تجاهل مفهوم “الآخر”، وسيقوم ليفيناس، تلميذه، بتجاوز هذه المشكلة والانطلاق في تفلسفه من “آخرية الآخر”، وهكذا سينتقل البحث الفلسفي من الأنطولوجيا إلى الإيتيقا (فلسفة الأخلاق).
ج) وجود- نحو- الموت:
يرى هايدجر أن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يعرف أنه “سوف يموت”؛ وهكذا فالزمان يصبح عاملاً مهماً في وجوده، أو لنقل: إن الإنسان يشعر أنه في سباق مرير مع الزمان. فالغاية النهائية هي الموت و”انتفاء” كل الطموحات والإمكانات، والحقيقة أن هايدجر يصر على أننا نحمل الموت معنا باستمرار كإمكانية قصوى.
دعونا نتصور أننا خالدون لا نموت؛ هذه الحقيقة سوف تجعلنا لا نشعر بقلق ولا بإلحاح الزمان علينا، وربما نتحول إلى كائنات خاملة صماء كالحجارة. ماذا أريد أن أكون؟ مهندساً؟ طبيباً؟ مدرساً؟ أستطيع فعل ذلك بعد مليون سنة أو مليار سنة، فلماذا العجلة؟ لذا فمعرفتي بأنني كائن مائت تجعلني أتحفز باستمرار لاستثمار كل شيء من أجل تحقيق ذاتي.
الإنسان مخلوق من الزمان أو “معجون به”، كما يعبر عبدالرحمن بدوي، أبرز الوجوديين العرب؛ فنحن كائنات متزمّنة ومتناهية، وسائرة نحو الموت والفناء.
تعد آراء هايدجر في كتاب (الوجود والزمان) منجماً من التبصرات لكثير من الفلاسفة الذين أتوا بعده؛ مثل سارتر وميرلوبونتي وليفيناس وبول ريكور ودريدا ورتشارد رورتي، كما أنه لعب دوراً حاسماً في تأسيس الهرمنيوطيقا المعاصرة (فلسفة التأويل) التي دشنها جورج هانز غادامير. فقد أخذ هذا الأخير من هايدجر فكرة الفهم- المسبق، أو الفهم القبل- نظري، وكذلك اعتبار فهم الإنسان للعالم نوعاً من التأويل. وهكذا لم يعد التأويل مرتبطاً بفهم النصوص؛ بل بفهم العالم ككل.
لم يترجم الكتاب إلى العربية إلا مؤخراً على يد فتحي المسكيني تحت عنوان (الكينونة والزمان)، وقد حاز على جائزة الشيخ زايد للكتاب عام 2013؛ لكن الكتاب كان مألوفاً للقارئ العربي عبر كتابات عبدالرحمن بدوي، وزكريا إبراهيم، وسعيد توفيق، وعلي حرب.. وغيرهم من الفلاسفة العرب المعاصرين.
إضافة تعليق جديد