تجنيد العملاء الإسرائيليين في لبنان وفوضى الاستخبارات
حكاية محاولات إسرائيل اختراق حزب الله وصراعها التجسسي معه (1982- 2000) بداية محاولات الاستخبارات الإسرائيلية في لبنان كانت مع العملاء، أو ما كان يسمّى «جيش لبنان الجنوبي»، الذي بنت الدولة العبرية وحدة استخبارات من أفراده. لكن بدلاً من أن تخترق الوحدة الجديدة حزب الله، استطاع هذا الحزب اختراقها وتجنيد أفرادٍ منها.
ويشير الباحث الإسرائيلي في شؤون الاستخبارات رونين برغمان، في كتابه «نقطة اللاعودة ـــــ الاستخبارات الإسرائيلية في مقابل حزب الله وإيران»، إلى صعوبة اختراق إسرائيل لحزب الله وضعف استخباراتها في لبنان، مشدّداً على أنَّها «جندّت الكثير من أجهزة الاستخبارات وأنجزت قليلاً من المعلومات». وكشف عن أنَّ الرقابة العسكرية الإسرائيلية كانت «تخفي أخباراً ميدانية يظهر من خلالها حزب الله تنظيماً مقاتلاً ومدرباً ومخضرماً».
ويقول برغمان، في مستهل فصل يفنّد فيه إخفاق الاستخبارات الإسرائيلية في مواجهة حزب الله، «ذات يوم، بعد 50 عاماً، عندما تفتح كل الملفات السرية لجهاز الاستخبارات الإسرائيلية، سيفاجأ المؤرخون المستقبليون بمدى بؤس اختراق الاستخبارات الإسرائيلية لحزب الله. سيتبين أنَّ جيمس بوند الإسرائيلي ليس إلا المراقب كلوزو».
منذ عام 1982، حتى عام 2000، كان هناك أكثر من ألفي صدام بين حزب الله والجيش الإسرائيلي في لبنان. ويشير الكتاب إلى أنّ 1920 صداماً، أي ما يعادل 96 في المئة، كانت بمبادرة من حزب الله، والباقي من مبادرات الجيش الاسرائيلي. واستمرت هذه الوضعية إلى ما بعد الانسحاب عندما «دفع الجنود الإسرائيليون ثمن المعلومات الاستخبارية القريبة من الصفر التي يعرفها الجيش الإسرائيلي».
ويقول الكتاب «إنَّ حزب الله تنظيم صارم وقوي ومخضرم ومتدرب»، مضيفًا إنَّ الناس يتعاملون معه على أنه «تنظيم يقود المقاومة لا تنظيم إرهابي». وكان هذا سبباً إضافياً منع إسرائيل من اختراقه بالعملاء. وهو ما يدعمه أيضاً عقيد الاحتياط في الجيش الإسرائيلي يتسحاك تدهار، الذي كان جندياً في وحدات النخبة العسكرية، وعمل على مدى 30 عاماً في سلك الاستخبارات الإسرائيلية في محاولة لتجنيد عملاء في «الشمال الإسرائيلي» (حسب التعريف الاستخباري للبنان).
ويقر تدهار، الذي يعدّ واحداً من خبراء الصراع بين إسرائيل وحزب الله، بأنه «من المؤسف القول، لكن الاستخبارات الاسرائيلية تكبدت خسارة ساحقة أمام حزب الله».
بعد استقالة وزير الدفاع الاسرائيلي أرييل شارون عام 1982 في أعقاب توصيات لجنة كاهان التي تشكلت بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان، تولّى موشيه أرينز مهمات وزير الدفاع. في ذلك الحين، كانت هناك ثلاثة أجسام اسرائيلية استخبارية تعمل في لبنان: «الموساد» و«وحدة 504» المسؤولة عن تجنيد العملاء، وجهاز «الشاباك».
كان دخول «الشاباك» إلى المعترك اللبناني أمراً غير مألوف، وخصوصاً أنَّ عمله ونشاطه يتمحوران عادة في الأطر الداخلية الإسرائيلية وفي المناطق الفلسطينية المحتلة. وقد عارض رئيس «الشاباك» في حينه، أبراهام شالوم، إدخال الجهاز إلى لبنان، متحفظّاً بقوله: «هذه هي المرة الأولى التي يجبر فيها الشاباك على العمل في دولة أجنبية».
في المقابل، رأت «الوحدة 504» أنّ «الشاباك» وصل إلى «منطقة ليست له، ولا يمكنه في لبنان أن يطبق ما يمارسه في المناطق الفلسطينية».
في زيارته الأولى إلى لبنان بعد تعيينه مباشرة وزيراً للدفاع، التقى أرينز رؤساء أجهزة الاستخبارات الثلاثة في هذا البلد. وعندما عاد، قال لمساعديه إن «ما يجري في لبنان هو فوضى استخبارية».
أقرَّ أرينز بأن لا تنسيق بين الأجهزة الثلاثة، مشيراً إلى ضرورة إيجاد جهاز واحد للتنسيق في ما بينها للحؤول دون هذه الفوضى. شكّل الجسم وعيَّن على رأسه المنسق الإسرائيلي في لبنان، أوري لوبراني، لكنّه لم ينجح في الحد من هذه الفوضى.
في عام 1986، عقد رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية الجنرال أمنون ليفكين شاحاك اجتماعاً للضباط الإسرائيليين المسؤولين عن تجنيد العملاء في لبنان. قال لهم إنَّ الجيش الإسرائيلي يعاني جرّاء عمليات حزب الله و«نحن لا نعرف شيئاً عن هذا التنظيم، لا نملك أي عميل داخله».
وأشار شاحاك إلى وسائل الحيطة والحذر والسرية التامة التي يتّبعها حزب الله في عملياته ونشاطاته. وفي النهاية، أمر الضباط بأن يجعلوا «تجنيد العملاء داخل حزب الله في أولى سلم أولوياتكم».
لكنَّ الأوامر هذه لم تنفّذ. كانت هناك أيضاً مشكلة كبرى في التنسيق بين الأجهزة، في وقت سعى فيه حزب الله الى تقوية نفسه أكثر في مقابل ضعف الاستخبارات الإسرائيلية.
في عام 1988، عيّن يعكوف برومر قائداً لـ«الوحدة 504»، وهو ما لقي معارضة شديدة داخل الوحدة وخارجها، على قاعدة أنَّ برومر ليس مهنياً ويعاني مشاكل جدية في علاقاته مع الناس. إلا أنَّ هذا لم يقنع رئيس شعبة الاستخبارات ليفكين شاحاك.
سجّل برومر فشلاً كبيراً، بعدما عيّن اثنين من أصدقائه السابقين في الوحدة للعمل على تجنيد العملاء للحصول على معلومات عن الطيّار الاسرائيلي رون أراد.
ويشير برغمان، في كتابه، إلى أنَّ الإسرائيليين جنّدوا عميلاً لهم داخل لبنان بعد عامين على فقدان أراد. ويضيف إن «الوحدة 504» خطّطت في ذلك الوقت لعملية «معقّدة ومركبة» من أجل الحصول على معلومات عن أراد. استغرق التخطيط للعملية شهوراً، ومرَّ العميل في تدريبات كثيرة في شروط تشبه شروط المنطقة التي ستتم فيها العملية.
وفي مرحلة ما، توجّه صديقا برومر إلى العميل نفسه واقترحا عليه أن يعمل إلى جانبهما في «الوحدة 504» وأن يكون عميلاً، من دون أن يعرفا أنه يعمل مع الوحدة قبل تعيينهما. اتصل العميل بمشغليه في «الوحدة» وأخبرهما بما حصل. وأشار الكتاب إلى أن السكان المحليين شكّوا في صديقي برومر، ما أدى إلى فضح العميل وعدم تنفيذ العملية.
بدت الاستخبارات الاسرائيلية ضعيفة في لبنان أيضاً عندما نوت اغتيال الأمين العام للجبهة الشعبية ـــــ القيادة العامة أحمد جبريل في كانون الأول عام 1988. كان جبريل، حسب الكتاب، يتعاون مع حزب الله، ووصلت معلومات تقول إنه موجود في إحدى المغاور في منطقة الناعمة. لكن حملة الاستخبارات انتهت بفشل ذريع. وواجه الجنود الاسرائيليون من وحدة «غولاني» وضعيات غير متوقعة هناك، ما أدَّى الى تعقد المهمة. قتل جندي اسرائيلي وضاع اربعة تم إخلاؤهم في ما بعد. هدمت المغاور، وتبين أن أحمد جبريل لم يكن هناك. ووصف الجنرال الإسرائيلي المتقاعد، يوسي بيلد، في كتابه، العملية بأنها «مخجلة».
عملية أخرى، تدلّ على عدم التنسيق بين جيش الاحتلال وأجهزة استخباراته وقعت في 13 من كانون الثاني عام 1987. يروي الكتاب أن عميلاً وصل إلى النقاط العسكرية عند الحدود اللبنانية ـــــ الإسرائيلية، كان اسمه السري «مسوربال». اقترب من الحدود من أجل أن ينقل للإسرائيليين معلومات عن عملية ستتم في الليلة نفسها. لم يتم اعلام الجنود الموجودين عند الحدود عن امكان وصول عملاء الى الحدود. اعتقد الجنود أنَّ العميل «مخرب»، فأطلقو عليه النار وأردوه قتيلاً.
تفاقمت الأزمة بين الإسرائيليين أنفسهم. بدا الانقسام واضحاً بين «وحدة 504» وبين «الشاباك»، وبلغ حد الغش وكشف العملاء والاكاذيب. في المقابل، كان الطرفان متحدين ضد «الموساد»، ويتّهمونه بالأنانية، في وقت كان فيه حزب الله يكبر أكثر وأكثر.
ويشير الكتاب إلى أنه عام 1989، في أعقاب الوضعية الصعبة التي وصلت اليها «وحدة 504»، عمل «الشاباك» على تقوية عمله في الجانب اللبناني. واقام وحدة «مباط»، التي يعمل فيها أفراد تابعون لجيش لبنان الجنوبي على جمع المعلومات الاستخبارية لإحباط العمليات الفدائية. كما أقام وحدة من أجل تعليم افراد «جيش لبناني الجنوبي» «الحرب النفسية». لكن هذا المخطط لم ينجح ايضاً. وقال رجل استخبارات اسرائيلي إن الاسرائيليين لم يعرفوا في حينه «هل يصدقون رجال جيش لبنان الجنوبي أم لا».
ويشير الكتاب الى أنَّ الفشل ازداد الى حد أصبح فيه أفراد «مباط» هدفًا للتجنيد من جانب حزب الله، الذي تمكّن من تجنيد عدد منهم.
وأمام الفشل المتزايد، بعث ضباط اسرائيليون عام 1991 رسالة إلى رئيس شعبة الاستخبارات الحديث، اوري اغي، طالبوه فيها باقالة برومر من منصبه. وكتبوا «حزب الله يقوى، ونحن نضعف». إلا أن الطلب جاء متأخراً، فبرومر كان في طريقه الى خارج الوحدة.
ويشير الكتاب الى ان العمليات التي قام بها حزب الله في الجنوب اللبناني كانت دقيقة جداً واقرب الى تلك التي تدرّس في «كتب الاستراتيجيات»، كاشفًا عن أن الرقابة العسكرية الإسرائيلية أخفت بشكل متعمد أخباراً تظهر التنظيم على أنه «جسم مقاتل مدرب ومخضرم».
وفي مقابلة مع عدد من القادة العسكريين في الاستخبارات العسكرية الاسرائيلية، يقول مسؤول رفيع المستوى، عن صعوبة تجنيد العملاء واختراق حزب الله، إن «عامل الخيانة لا يعمل لدى حزب الله»، مشيراً الى أنه «من الصعب اقناعهم بخيانة المبادئ الدينية المتطرفة التي تربوا عليها». وأضاف إنهم «يشككون بطريقة ليست طبيعية».
ويروي رجل آخر في الاستخبارات العسكرية التحقيق مع مقاوم من حزب الله، ويصفه بأنه كان «ذكياً ومحنكاً بشكل غير عادي». وأضاف «على الرغم من أننا كنا نرتدي ملابس مدنية، إلا انه (مقاتل حزب الله)، فهِم من خلال الاسئلة كل شيءٍ عنا. وقال لنا: أنت من الاستخبارات العسكرية، وانت من الموساد، وانتما تحاولان تجنيدي».
يروي الكتاب أنَّه في 26 نيسان 1988، دخلت إلى إسرائيل مجموعة من المقاومين لتنفيذ عملية «بالتعاون بين حزب الله والجبهة الشعبية». وقتلت جنديين إسرائيليين.
في اليوم التالي، اخترق مسلحان الحدود الاسرائيلية. تمّت ملاحقة المسلحين. ووصلت، حسب الكتاب، معلومات الى واحدة من وحدات الاستخبارات انَّ تمَّ التعرف إلى «المخربين واسميهما».
ويروي أحد المشاركين في ملاحقة المسلحين، ويدعى دافيد بركاي، أن «المروحيات أشارت الى أنَّها وجدت المخربين في الوادي قبلنا. ركضنا مثل المجانين وقلنا للمخربين إنَّ عليهما الاستسلام. بدأنا الانحدار الى داخل الوادي ورأيناهما في الأعلى. كان شعورنا ممتازاً. زادت قدرتنا على منادتهما باسميهما من احتمالات استسلامهما. اعتقدت باننا نستطيع ان نحقق معهما والحصول على معلومات قيمة نستغلها بشكل فوري».
ويضيف «صرخنا من خلال مكبرات الصوت أنه في حال استسلما، نعادهما بألا نلحق الضرر بهما. قام الاثنان ببطء الواحد تلو الآخر، وألقيا سلاحهما. ورفعا أيديهما. وقفت القوة قبالهما بخط مستقيم على بعد 10- 20 متراً».
ويسترسل «سرنا بحسب التعليمات، قلنا لهم، أنا وجندي آخر، أن يخلعا سترتيهما، وأن يناما على الأرض بحيث يكون عنقهما ملاصقاً للأرضية. وقد قاما بتنفيذ الأوامر. حتى صرخ واحد اقتولوهما. فتح جندي من وحدة جفعاتي النار ومن بعدها انضم اليه الجميع واطلقوا النار عليهما. اخترقت عشرات العيارات النارية أجسادهما».
فراس الخطيب
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد