نصر شمالي : الوطنية الروسية تغيظ الليبراليين!
الجمل ـ نصر شمالي : تجاوزت روسيا الاتحادية اليوم تلك الأخطار الضخمة التي أحاقت بها بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، والتي هدّدت لحمتها الوطنية وقاعدتها المادية وكادت تعصف بوجودها وبمستقبلها، وهاهي اليوم تقف نداً للعواصم الغربية، وتسترد شيئاً فشيئاً مكانتها الدولية الضرورية لها وللأمم الأخرى، غير أن الليبراليين الروس لم يرق لهم ذلك، ولم يتردّدوا وياللعجب في توجيه النقد لإدارة الرئيس فلاديمير بوتين التي يأخذون عليها إيقاظها للنزعة الوطنية الروسية، وعنايتها بتجميع وتطوير قطاعات الدولية، وانتقاداتها لسياسات الحكومات الغربية وفي مقدمتها حكومة الولايات المتحدة، بل أنهم يوجهون اللوم للشعب الروسي لأنه يتجاوب مع حكومته في مواقفها الوطنية الداخلية والخارجية!
استبداد البيروقراطية وتبلدها وفسادها!
لقد عانى الشعب الروسي، مثل بقية الشعوب السوفييتية، من سياسة العزل الاستعمارية الخبيثة ضدّ الاتحاد السوفييتي على مدى أربعين عاماً تلت الحرب العالمية الثانية، وهي السياسة التي نجحت في حرمان السوفييت من الوصول بصورة كافية إلى السوق الدولية، وجعلتهم يقتصرون إلى حد كبير جداً على أسواقهم الداخلية، وليس خافياً ما ترتب على ذلك من أضرار فادحة لحقت بالإنتاج والمنتجين، حيث التطور الكبير والمتقدم في الإنتاج جعل الحاجة إلى السوق الدولية ملحة أشدّ الإلحاح، وحيث الاقتصار على السوق المحلية الداخلية يعني بداهة الاختناق والانكفاء، هذا من جهة، ومن الجهة الأخرى عانت شعوب الاتحاد السوفييتي من استبداد تلك القيادات البيروقراطية، البليدة والفاسدة، التي اكتفت بامتيازاتها المريبة، ولم تعد تأبه للهموم الداخلية وللأخطار الخارجية كما ينبغي أن تأبه! لقد بدا واضحاً أن تلك البيروقراطية صارت أسيرة بلادتها وفسادها، وهكذا في ذلك المناخ الخانق، المغلق الأفق، أصبحت مسألة انهيار الاتحاد العظيم بإنجازاته التاريخية العظيمة مسألة لحظة مواتية متوقعة، وقد جاءت تلك اللحظة بالفعل وحدث الانهيار، وبدت الشعوب السوفييتية كأنما هي فقدت حذرها تجاه الأعداء التاريخيين بسبب معاناتها الطويلة تحت وطأة البيروقراطية المستبدّة البليدة، فهل كان ذلك يعني استعداد تلك الشعوب، وفي مقدمتها الشعب الروسي، للتخلي عن إنجازاتها التاريخية ووحدتها الوطنية، مثل تخليها عن البيروقراطية؟
المارد خرج من القمقم!
لقد انحصرت مشاعر الأكثرية الساحقة من المجتمعات السوفييتية في مسألة الخلاص من استبداد البيروقراطية المتحجرة التي كادت تفتك بروحها، ولعلها لم تفكر أثناء لحظة الانهيار بأية مسائل أخرى وقد بلغت أوضاعها حداً لا يطاق، ولعلها لو كانت تعيش حياة طبيعية لأولت إنجازاتها واستقلالها والأخطار الخارجية المحدقة ما تستحقه من اهتمام، وهذا ما عادت اليوم وأظهرته بقوة، وإن بعد سنوات طويلة وخسائر فادحة، لكن ليليا شيفتزوفا، على سبيل المثال، لا تعجبها هذه العودة، ففي مقالة لها نشرت مؤخراً تقول أن الروس لا يفهمون كيف يمكنهم أن يكونوا شركاء بالتساوي مع الغرب عندما تبني روسيا مجتمعها على أساس مبادئ معادية للغرب! ثم تضيف أن النخبة الروسية الحاكمة أخرجت المارد من القمقم، وصار من الصعب إرجاعه إليه، خصوصاً وأنه ليست هناك مقاومة لحالة معاداة الغرب حتى في الدوائر الفكرية!
لقد جرى التعريف بليليا شيفتزوفا على أنها (الزميلة الكبيرة في كارنيجي موسكو سنتر) وأنا لا أعرف ماذا تعني هذه الصفة، ولكن الملفت على أية حال هو عقدها مقارنة بين العلاقات الروسية/ الغربية والعلاقات الصينية/ الغربية، حيث رأت أن الصين الشيوعية التي لا تجمعها مع الغرب القيم والمبادئ المشتركة (تقصد بعكس روسيا!) تقيم مع هذا الغرب علاقات ودودة تماماً، وأنها في الميدان الاقتصادي تمثل شريكاً مفيداً وقوياً، فحكومة الصين تسعى وراء الازدهار، وهي اختارت مواصلة سياسة التقارب مع الغرب ونجحت في استثمارها لتحديث بلادها، أما النخبة الحاكمة في روسيا فقد سلكت طريقاً مختلفة، محاولة تأسيس دور عالمي لها عن طريق إبعاد نفسها عن الغرب!
الفرق بين الصين وروسيا
من دون التوسع في استعراض تفاصيل هذه القضية العظمى، واقتصاراً على المقارنة التي عقدتها شيفتزوفا، نقول أن هذه المقارنة غير واردة أصلاً لأسباب كثيرة، منها أن النظام الصيني لم يسقط كما حدث للسوفييتي، ومنها أن الموقع الجغرافي للصين يجعل وضعها مختلف تماماً عن وضع روسيا إزاء الغرب، فالصين عالم يكاد يكون قائماً بذاته عبر جميع العصور البشرية، أما روسيا فهي امتداد طبيعي لأوروبا حتى الأورال، وهي بلد متقدم تقانياً واجتماعياً بطرائق الأوروبيين وبسويتهم، أي أنها تشكل منافساً مباشراً للأوروبيين والأميركيين، في أوروبا وفي العالم عموماً، وتشكل مشروعاً لإحداث تغيير في مراكز القوى الدولية وفي العلاقات الدولية، وهذا كله لا تشكله الصين بالمقدار نفسه وبالمباشرة نفسها، فهي خطر بعيد المدى أما روسيا فخطر مباشر أياً كانت سياساتها ونواياها!
ولكن، لماذا لا نعود إلى عهد الرئيس غورباتشيف في تعليقنا على مواقف الليبراليين الروس؟ ألم يقّر غورباتشيف للولايات المتحدة وحلفائها بحقهم في مناطق نفوذهم الدولية وبحقهم في قيادة العالم؟ ألم يعرض عليهم دور الحليف والشريك الروسي؟ وبعد ذلك، ألم يذهب الرئيس يلتسين في مجاراتهم إلى أبعد الحدود؟ فماذا كانت النتيجة غير الاندفاع المسعور على طريق تقويض روسيا من جذورها؟
الجمل
إضافة تعليق جديد