ياسين رفاعية: يوم خانني الحظ فلم أقابل الرئيس
بعد غياب عشرين سنة عن دمشق, عدت بلفتة مباركة من الرئيس الراحل حافظ الأسد. فقد ذكرت ذلك في أول حفل تكريم أقيم لي عام 1992 في مقر اتحاد الكتاب العرب, حيث تحدث عني زملاء غمروني بحبهم, فخجلت من نفسي في كل هذا المديح الذي أحاطوني به, ولم يكن هذا التكريم مرة واحدة, فقد كرمني اتحاد الكتاب العرب فرع اللاذقية, في العام المنصرم, وأعطيت درع الاتحاد, وكان الكاتب الرائع زهير جبور رئيس فرع الاتحاد قد أحاطني باهتمام جعلني أيضاً أخجل منه, وجميل أن يكرم الوطن كاتبه المغترب فيشعر أن الروح قد ردّت إليه, وعندما ترك لي الكلام في ختام الحفل, فتكلمت مرتجلاً عن إحساس الكاتب بالغربة في المهاجر, إذ عشت في لندن نحو ستة عشر عاماً, لم أحظ فيها بصديق, وكنت استيقظ على قلق وأنام على قلق, وفي السنوات الأخيرة من إقامتي في لندن اشتغلت لمدة خمس سنوات أوست - على ما أذكر في جريدة ( الشرق الأوسط ) وأتيحت لي الكتابة عن بلدي في فترة المبايعة الرابعة للمغفور له الرئيس الراحل حافظ الأسد, فكتبت عن موقفه القومي, ورفضه الاعتراف باسرائيل مالم تعد لسورية كل الأراضي التي احتلتها بعد العام .1967ومن حسن الحظ أن صديقي جبران كورية وضع هذا المقال على طاولة السيد الرئيس. وأذاعته الإذاعة, وظهر المقال على شاشة التلفزيون السوري مرات عديدة, ونشرته هذه الجريدة التي كنت محرراً فيها بين عامي 1966 و 1969 من القرن المنصرم, فإذا بالسيد الرئيس يسأل عني, ثم انتبه جبران أن هناك بلاغاً بالقبض عليّ - حتى الآن لاأعرف السبب - إذا عدت إلى الوطن, فأمر الرئيس بإتلاف إضبارتي بالكامل .. وعرفت أن كل كتبة التقارير ضدي كانوا من أصدقائي, وبعضهم كان صديقاً مقرباً جداً مني المهم أزيلت كل هذه الأمور وعدت إلى الوطن واستقبلت رسمياً في المطار كما أن السيد الرئيس أعطاني موعداً للقاء به, وعندما اتصل الصديق جبران ببيت أهلي فلم يجدني, إذ كنت أتناول الغداء مع أصدقاء لي في الربوة.وكان عليّ أن أحضر القصر في الروضة الساعة الواحدة. اتصلت بأهلي الساعة الثانية وسألت إن كان قد اتصل بي أحد. فقالت والدتي: يامجنون.. اتصلوا بك من القصر لمقابلة السيد الرئيس في الواحدة تماماً,فانزعجت حتى كادت الدموع تطفر من عيني. وقلت في نفسي لأذهب إلى القصر لعلني أحظى باللقاء وصلت هناك الساعة الثانية والنصف, ووجدت اسمي على باب الاستعلامات فدخلت وصعدت إلى مكتب جبران وكان عنده مستشار الرئيس أيضاً أسعد كامل إلياس فقال لي دخلت وصعدت إلى مكتب جبران متأسفاً: كان موعدك الواحدة. والآن لن تستطيع رؤية الرئيس, لأن عنده وزير خارجية ألمانيا منذ الثانية ولانعرف متى سينتهي الاجتماع. انتظر لعلنا نجد لك بعض الوقت للسلام على القائد الكبير .. فجلست في مكتب جبران وأنا مضطرب وقلق, لأن حلمي كان أن ألتقي بسيادته. وخدعني الزمن.. الذي غالباً لايأتي كما نريده.
مر الوقت ثقيلاً حتى الخامسة, عندما حصلت حركة في مكاتب القصر, إذ انتهى الاجتماع, فأسرع أبو جابر ( الله يذكره بالخير ) لإعلام الرئيس. ولكن كان السيد الرئيس قد خرج من مكتبه متعباً, فلم أحظ باللقاء. على أن الموعد ظل قائماً وبقي أن يحدد لي من جديد. لكن الظروف منعتني من تحقيق هذه الفرصة الغالية على قلبي. إذ انتهت إجازتي في (الشرق الأوسط ) وعلي أن أعود إلى عملي متألماً لأن فرصة اللقاء الحلم لم تتم. وظللت نادماً عليه حتى الساعة, ولكن قبل ذلك جمعني بالسيد الرئيس الراحل لقاء قصير أثناء انعقاد مؤتمر اتحاد الكتاب العرب عام 1978 في ميريديان دمشق, حيث أقام الرئيس الراحل مأدبة عشاء على شرف الكتاب العرب في شيراتون دمشق. فوقف يستقبل ضيوفه وإلى جانبه السيد عبد الله الأحمر الأمين العام المساعد لحزب البعث فأطلت الوقوف أمامه مصافحاً, وكان يبتسم إلى أن التقط لي مصور الثورة صورة معه احتفظ بها إلى الآن .. وكانت تتقدمني زوجتي الراحلة أمل جراح وخلفي الشاعر الفلسطيني يوسف الخطيب .. وفي تكريمي في اللاذقية عام ,2006 قمت مع أختي وابنها بزيارة ضريحه في القرداحة وقرأت الفاتحة له وللباسل وسجلت اسمي في سجل أعدّ خصيصاً لزوار الضريح. رجل لم يأت في سورية مثله. وكتبت في السجل على ماأذكر أن الراحل الكبير هو مؤسس سورية الحديثة وباني مجدها, رحمه الله وأسكنه فسيح جنانه.
رويت هذه الحادثة في أكثر من مناسبة, في حفلات التكريم أو في مهرجان القصة في الاتحاد.
على أن مارويته كذلك في أول تكريم قصة حبي, أو أول حب عشته وكنت طالباً في الصف السادس في الكلية العلمية الوطنية, التي كان يديرها المرحوم الدكتور عدنان العائدي شقيق رجل الأعمال الكبير عثمان العائدي. كانت الكلية قريبة من منزلنا, وكانت تستقبل طلابها فتية وفتيات نلتقي في الفرصة معاً, عندما تعرفت على مها, كنت في الرابعة عشرة وكانت في الثالثة عشرة فإذا بنا من أول لقاء كأننا ولدنا من بطن واحد, أحببتها حباً عذرياً مقدساً, وربما أحبتني بنفس الطريقة, واكتشفت أن منزلها قريب من منزلنا فصرنا نترافق معاً كل صباح إلى الكلية و بعد الظهر بالعودة إلى منزلينا, كانت مها جميلة جداً, وكانت نحيلة, و كانت تضفي هذه النحالة مسحة من الجمال الحزين على وجهها, فتأسرني إلى حد عجيب, وعندما أخبرت الوالدة ضحكت قائلة لي: أنت ولد شيطان.. وعندما أبديت رغبتي بالزواج من مها, فإذا بها تضحك بصوت عال ثم تقول: باابني مافقست البيضة عنك بعد وتريد من الآن أن تفكر بالزواج. ثم ألا تعرف أن هذه البنت مسلولة حتى المرحلة الأخيرة, وإذا لم تمت اليوم ستموت غداً, لم يكن يخطر ببالي الموت . فقلت للوالدة إذا ماتت سأموت معها. وهنا ندهت أمي على أبي: تعال أبو ياسين..اسمع ابنك شو عم يحكي. كان أبي رحيماً بي أكثر من أمي, فأنا بكره, وينادونه باسمي: أبو ياسين. فخفف عني الوطأة, وقال لي إن علي أن أصبر عشرين سنة أخرى قبل أن أفكر بالزواج فأنت ومها طفلان و( بكير هالحكي ) لكن سأتحدث مع أبيها ونخطبها لك منذ اليوم. فرحت فرحاً كبيراً ورويت في اليوم التالي لمها ما حصل, ففرحت هي أيضاً, وصرنا نذهب إلى المدرسة متشابكي الأيدي, واعتبرت نفسي منذ ذلك الحين حارسها الشخصي, ومنعت رفاقي الصبية من النظر إليها, وكانت المفاجأة المؤلمة أن نزفاً حاداً تعرضت له ولم يحتمل قلبها, فأغمضت عينيها إلى الأبد, بكيت, ضربت رأسي بالجدار حتى نفر الدم منه, وقررت أنا الآخر أن أموت, وقلت لأمي أريد أن أموت, فصفعتني على وجهي صفعة خفيفة وقالت لي: لن تموت إلا عندما يخلص عمرك. قلت لها: أريد أن أموت مثل مها. وهنا تدخل والدي قائلاً: مها لاتريدك أن تموت, وغمز أمي وظن أنني لم أره. هي قالت لي : إن مت لاأريد ياسين أن يموت حتى يظل على ذكراي. صدقت, وفي إحدى زياراتي لقبرها, الذي كان بمحاذاة الشارع, قصفت غصناً من شجرة صفصاف بعيدة, ثم جئت به إلى جوار القبر, وحفرت حفرة عميقة, وغرزت ذلك الغصن فيها, عندما لمحني أبو حاتم,حفار القبور ودافن موتاها. سخر مني وقال هذه عصا ستيبس وتموت, لن تنمو وتصبح شجرة ولو بمعجزة. فرجوته ألا يخلعها من مكانها, وتمنيت عليه أن يسقيها ماء كلما اقترب من القبر.
الغريب أن المعجزة حصلت, فنما الغصن وأصبح شجرة صفصاف وارفة تخيّم على القبر على مدار السنة.
كبرت, ولم أنس مها.. ولاذلك الوجه الحزين الشفاف حتى كنت أظنها من جنس الملائكة.
بعد خمسين سنة من رحيل مها, تعرفت على نساء كثيرات, وأحببت العشرات, ولكن كان حب مها مختلفاً جداً. وعندما عدت وأنا في الستين بعد غربة أربعين سنة, أول شيء فعلته, أني ذهبت إلى مقبرة الدحداح أتفقد قبر مها وقد اصطحبت معي باقة من الورد الأبيض .. وفوجئت باختفاء القبر.. إذ جرف بمن فيه لتعريض الشارع الملاصق لجدار المقبرة, لكن العجيب أن شجرة الصفصاف التي أصبحت شجرة كبيرة, لم تزل من مكانها إذ كانت بعيدة عن قبر مها متراً أو مترين, وكأن هذه الشجرة قد امتصت مابقي من جسد مها, لتترعرع على هذه الصورة المعجزة, وانتبهت كأن الشجرة بتراخي أغصانها الخضراء حتى تلامس الأرض, كأنها تعلن عن حزنها وأسفها على تلك الفتاة الجميلة التي جرفوا قبرها بكل صلف وقسوة.. وانتبهت أكثر أن شجر الصفصاف هو من النوع الحزين لأنه لايثمر ثمراً ولايعطي زهراً وأصبح الحزن سمة من سماته وتذكرت قصيدة نزار قباني ( قارئة الفنجان ) التي غناها الراحل عبد الحليم حافظ, وكانت آخر أغنياته عندما توفي عام 1978 من القرن المنصرم ومنها البيت الذي يقول:
وتظل وحيداً كالأصداف
وتظل حزيناً كالصفصاف
ومنذ عودتي إلى الشام متنقلاً بينها وبين بيروت, ماإن تحط قدمي في حي العقيبة مسقط رأسي, حتى أتجه نحو المقبرة متلمساً شجرة الصفصاف, مقبلاً أوراقها وماسحاً وجهي بها, كأنها شعر مها الفاتح والأغصان يداها والجذع النحيل جسدها الرقيق.
لم تنمسح صورة المها من ذاكرتي أبداً على ماعرفت من النساء وأنا الآن في السبعين.. وكنت أقول لنفسي الآن, بعد أن قرأت كتب التراث وقصص الحب العذري, لماذا لم أتجرأ وأمت معها وأدفن في قبر بجوار قبرها? أم أنني جبنت وخفت على أمي التي قالت لي وقتذاك: لو فعلت ماتفكر فيه لمت قبلك. ولمات والدك أيضاً.. وكل أخواتك, فأنت الصبي الوحيد بيننا وتريد أن تفجعنا بك. حرام عليك.. وفيما كنت أقرأ من كتب التراث عثرت على قصة عروة بن حزام وصاحبته عفراء. فخيل إلي أنني تقمصت شخصية عروة.. وأنني عروة القرن الواحد والعشرين, ولكن لم أفعل مافعله, وهي قصة مذهلة في العشق والعشق العذري وقال فيه جرير:
هل أنت شافية قلباً يهيم بكم
لم يلق عروة من عفراء ماوجدا
مافي فؤادي من داء يخامره
إلا التي لو رآها راهب سجدا
إن الشفاه وإن ضنت بنائله
قرع البشام الذي نجلو به البردا
وأما عروة نفسه فقد أنشد حبيبته:
وإني لتعروني لذكراك رعدة
لها بين جلدي والعظام دبيب
فما هو إلا أن رآها فجاءة
فأبهت حتى ماكاد يجيب
فقلت لعراف اليمامة داوني
فإنك إن ابرأتني لطبيب
فما بي من حمى ولامس جنة
ولكن عمي الحميري كذوب
عشية لاعفراء منك بعيدة
فتسلو ولاعفراء منك قريب
بنا من جوى الأحزان والبعد
لوعة تكاد لها نفس الشقيق تذوب
وماعجبي موت المحبين في الهوى
ولكن بقاء العاشقين عجيب
وللحب, كما قلت دائماً, بقية.
ياسين رفاعية
المصدر: الثورة
إضافة تعليق جديد