صورة الحق في القرآن
لا يجد المرء الراغب في التدبر والتأمل، في كتاب الله الحكيم، التي ضمّنت آياته مطويات من الاسرار، ومخبيات من المعارف والعلوم، الا العجز والحرمان عن ادراك ما يسعى اليه الطالب المؤمل ان يحيط بجوامع الكلم، وان يستجلي بنفسه دقائق اسماء الذات الاحدية وما احتوته حروف الحق من رشحات جوده وكواتم اسراره.
فما لم يطو الانسان طريق الفؤاد لن تظهر حقيقة الوحي في باطن قلبه، ولن يتفجر العلم الالهي من اوكار عقله. ولطالما تطاولت اعناق اكابر في الهمم، وحسرت عن سواعدها اساطين في العلم. ولكنها تقاصرت وتضاءلت عن فهم ما اودع من اسرار وحكم ومعاني من بديع نظامه، وجميل انواره، لأن اوطان قلوبهم لم تتسع لممالك الحق، ولا حصلت من معينه ما يكفي بعد السفر وطول الطريق.
ولأنه "ما من آية من آيات القرآن الا ولها ظهر وبطن ولبطنه بطن الى سبعة ابطن" كما يقول نبينا الاعظم محمد (ص) فيتوجب على المرء ان يحوز من الكمالات والفضائل والمواهب والاهلية ما يمكّنه من ازالة الاستار والحجب الممانعة، ليطل على بطون الآيات، كاشفا الحقائق الحرفية والرسمية، العلوية والسفلية، الصورية والمعنوية... الخ. كل ذلك ليقرب تفسيره الى التحقيق والى الاشارات العلمية والمعارف الحديثة.
ولكون الالفاظ دالات على المشخصات الذهنية، لا على اعيان الموجودات العينية، باعتبارها تدل على المعاني. فليس من عالم اللفظ يمكن للعارفين ان يتوصلوا الى معرفة ما يعظم ويجل عن التشخصات والتعينات الخارجية، بل بتهذيب الباطن وتسوية الداخل يمكن الاطلاع على حقائق الصفات والاسماء الواردة في كتابه المجيد.
واعلم، اخي العزيز، ان النفس اذا كملت ذاتها، وزال عنها درن الطبيعة ودنس الحرص والامل والافتخار، وانفصل نظرها عن شهوات الدنيا، وانقطع نسبها عن الاماني الفانية، اقبلت بوجهها على بارئها ومنشئها، وتمسكت بجود مبدعها واعتمدت على افادته وفيض نوره. فالله عز وجل بحسن عنايته يقبل على تلك النفس اقبالا كليا، وينظر اليها نظرا الهيا، ويتخذ من تلك النفس لوحا، ومن العقل الكلي قلما، وينقش فيها جميع علومه، ويصير العقل الكلي كالمعلم، والنفس القدسي كالمتعلم، فتحصل جميع العلوم لتلك النفس، وتنقش فيها جميع الصور عن غير تعلم وتفكر. ومصداق هذا قول الله عز وجل لنبيه "وعلّمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما" (سورة النساء 113).
واذا كان للانبياء شرف من العلم فلأن علم الانبياء محصوله عن الله تعالى بلا واسطة ووسيلة وبيان. وفي ملاحظة قصة آدم (ع) ما يؤكد هذا المعنى، فالملائكة قد تعلموا طوال عمرهم وحظوا بمعرفة الطريق وصنوف المسالك حتى صاروا اعلم المخلوقات واعرف الموجودات. وآدم لما جاء ما كان عالما، ولا خبيرا جديرا، لأنه ما رأى معلما ولا مربيا ولا مدربا، فتفاخرت عليه الملائكة وتجبروا وتكبروا فقالوا لله كيف تأمرنا بالسجود لآدم ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك (البقرة 30) ونعلم حقائق الاشياء. فرفع آدم وجهه الى باب خالقه، واخرج محبته عن جملة المكونات، واقبل بالاستعانة على الرب تعالى، فعلمه الاسماء كلها ثم عرضه على الملائكة فقال: "انبئوني بأسماء هؤلاء ان كنتم صادقين" (البقرة 31) فصغر حالهم عند آدم، وقل عملهم وانكسرت سفينة جبروتهم، فغرقوا في بحر العجز وقالوا "لا علم لنا الا ما علمتنا" (البقرة 32) فقال تعالى: "يا آدم انبئهم بأسمائهم" (البقرة 33) فأنبأهم آدم عن مكنونات العلم، ومستترات الامر. فتقرر حينها عند العقلاء ان العلم العيني المتولد عن الوحي اقوى واكمل من العلوم المكتسبة وصار علم الوحي ارث الانبياء وحق الرسل (ع)، حتى اغلق الله سبحانه وتعالى باب الوحي في حق محمد (ص) فكان رسول الله خاتم النبيين وكان اعلم الناس وافصح العرب وكان يقول: "ادبني ربي فأحسن تأديبي"(1) و: "أنا اعلمكم بالله واخشاكم من الله"(2). ومما تقدم اشارة الى ما اردت ايصاله من ان باطن القرآن عميق الغور، بعيد المنال، ولا يمكن تحقيق شروط تفسيره بمجرد التعرف على اصول اللغة من نحو وصرف وبلاغة وبيان وغيرها وان كان التعرف على هذه العلوم مقدمات ضرورية لفهم احد الابعاد الاساسية للقرآن، ولكن لكي يطلع الانسان على عوالم القرآن الغيبية لا بد من ايقاظ الفطرة، والحضور في المحضر الربوبي، ومناجاة المحبوب المطلق، لكي تتفتح الاسرار العظيمة وتتجلى صور الحق بأجلى صورة واجملها. وخصوصا اذا ما علمنا ايضا ان للقرآن اكثر من وجود، وان العربية لا تعبر عن حقيقة القرآن في كل المراتب بل هي ظهور للقرآن في عالم الالفاظ والمفاهيم. وعربية القرآن من مختصات نشأتنا لا انه كذلك في كل النشآت وهذا ما تشير اليه الآية المباركة "وانه في ام الكتاب لدينا لعلي حكيم". ما يعني انه علي في وجوده الاول ولا يمكن ان تناله الالفاظ والمفاهيم. وعلى هذا الاساس فان العلوم الحصولية والاكتسابية لن تصل بنا الى فهم القرآن اكثر مما نحن عليه في نشأتنا هذه وانه لا بد من طرق اخرى لادراك حقائقه ومضامينه العالية واسراره الدقيقة.
الشيخ عفيف النابلسي
المصدر: النهار
إضافة تعليق جديد