سعاد جروس: «حبيت ولا بانش عليَّ»
سعاد جروس: «حبيت ولا بانش عليَّ» طقطوقة من غناء أم كلثوم وألحان محمد القصبجي, وقد كان لها الفضل في إمتاعنا بنزهة إلى طرب في العام 1928, والاستراحة بعض الوقت من الهوس التلفزيوني, وحمى السباق الدرامي الرمضاني إلى: الأكثر مشاهدة والأفضل والأجمل والأحسن والأقوى... الخ من كلمات إطلاقية أصبحت دارجة, إن عبرت عن شيء, فهي تعبر عن عمق الإحساس بالعجز والاستلاب والانقياد إلى أكاذيب الإعلام التهويلية, حتى صرنا نرجو من الأعمال الدرامية أن تعيد إلينا فحولة زمن لا وجود له إلا في مخيلتنا العربية المريضة, تاركين ذاكرة ذهبية نهباً للنسيان والضياع, لا لشيء, إلا لأن الجمهور €مش عايز كده€ وحين سيحتاج الجمهور نفسه الى هذه الذاكرة ستتهافت شركات الإنتاج الفني على نبش القبور لا الذاكرة. ولنحمد الله أن مصالحها التجارية لا تزال بعيدة عن هذا الإرث كي لا تعيث فيها فساداً وتشويها.
مناسبة هذا الحديث, المساحة الموسيقية الجميلة التي وفرتها مجموعة إصدارات دار الأوبرا السورية €دار الأسد للثقافة والفنون€ ضمن سلسلتي €أعلام الموسيقى والغناء في سوريا والعالم العربي€ وتتضمن كدفعة أولى حوالى ستة عشر ألبوماً €سي.دي€ بينها خمسة البومات للقصبجي أغلبها أغان من كلمات أحمد رامي ومن غناء أم كلثوم في الفترة 1924 1955, بالإضافة إلى ألبومين لأسمهان, ومثلهما لأمير البزق الشهير محمد عبد الكريم, كذلك لنجيب السراج, وواحد لسليم سروة وصبحي جارور, ولعازف العود عزيز غنام ولعازف الناي عبد السلام سفر.
ما بين نغم عود غنام, وحنين القصب في الحان سفر, يمكن للمرء أن يعيش لحظات من الصفاء النادر, لا ليعيد التعرف الى هؤلاء المبدعين, وإنما كلحظات تتيح الإطلال على دواخل الذات البشرية كجزء من الطبيعة السورية, والتأمل في ما طرأ عليها تحت وطأة الضغط اليومي والجري وراء الرزق جري الوحوش, وفقدان الذاكرة الثقافية الجمعية مقابل شيوع ثقافة استهلاكية أتت على الأخضر واليابس في الذائقة الفنية, وحولتها إلى محض موضة تتقلب وتتشقلب... وعلى هوى السوق تسوق.
لا شك في أن مبادرة دار الأوبرا بإحياء اعمال عازفين ومبدعين سوريين وعرب كبار ضمن سلاسل موسوعية, تعتبر بمثابة هدية وطنية تستحق التقدير والاهتمام والرعاية, كي يأتي مشروعاً متكاملاً تعتز به بلادنا لا المؤسسة الثقافية وحدها, فمن المعروف تماماً أن هكذا مشاريع لا تضطلع بها سوى المؤسسات الحكومية, ومن الغريب فعلاً أن يمضي أكثر من عام على انطلاق هذا المشروع المهم, ليس على مستوى سوريا, بل على مستوى العالم العربي, من دون أن يلاقي الاهتمام الإعلامي اللائق, في حين أن البعض لم يوفر لا كبيرة ولا صغيرة في دار الأوبرا إلا وتناولها بالانتقاد والاتهامات, بدءاً من نظام الدار في فتح وإغلاق الأبواب, ومروراً بحجوزات المسارح, ونظام تشغيل أجهزة التكييف والتدفئة, وليس انتهاء بتسريحة شعر مدير الدار المتهم ظلماً باستخدام الجل بينما هو يستعمل كريم للتلميع.
فكيف يسلم هكذا مشروع سواء من المدح أو من النقد, كي لا نقول مقالات عرض من باب الدعاية والإعلام, شأنها شأن أي كتاب يصدر هنا وهناك, أو أي نشاط ثقافي عادي!! المشروع لم يحظ إلا ببعض الأخبار القصيرة, ولم يتم الترويج لإصدارات تعتبر جزءاً يسيراً وثميناُ من كنز موسيقي حقيقي, يتم نفض الغبار عنه, من خلال إتاحته للجميع بسعر لا يتجاوز للألبوم الواحد 100 ليرة سورية, وهو سعر رمزي لا يساوي سعر تكلفة الطبع والنسخ. ولنا أن نتصور لو أن مثل هذا المشروع نفذ في القاهرة أو بيروت, كيف سيكون صداه في الصحف والتلفزات!!
وكي تسهل المقارنة ونعرف مقدار التشجيع والرعاية التي تلقاها مشاريعنا الثقافية الواعدة والأفكار الخلاقة من قبل الإعلاميين والمعنيين على حد سواء سنورد معلومة بسيطة للغاية, توضح كيف يتصرف السوريون كالعميان الذين يرزقون بصبي فيقلعون عينيه من «كتر اللحمسة». المعلومة تفيد أن الإصدارات الست الأولى والتي صدرت في العام 2006 كان مكتوباً عليها €دمشق عاصمة الثقافة€, ثم اختفت هذه العبارة مع الإصدارات اللاحقة وتحديداً بعد تشكيل الأمانة العامة للعاصمة الثقافية!! لو كان السبب خوف الأمانة العامة من تحمل نفقات المشروع لقلنا معهم حق, فالميزانية بالكاد تكفي لإعادة نبش وتبليط شوارع وأرصفة العاصمة, لكن مشروعاً كهذا يقوم به كادر العاملين في دار الأوبرا, وبرأسمال يولد تغذية تمويل ذاتية, حيث كل اصدار يمول الذي يليه, يبدو من غير المفهوم حقاً تشجيعه بالتبرؤ منه!! بدل تبنيه أو على الأقل التفكير بتقديم بعض الألبومات السورية هدايا لضيوف الاحتفالية لتعريفهم على تراث سوريا الموسيقي, ومن المؤكد أن تكلفتها ستكون اقل بكثير من أي هدية تذكارية يفكرون بتقديمها كالتي درجنا على بعثرتها في كل مناسبة مثل دروع النحاس المطبوع عليها اسم المناسبة وفي حالات أرقى دروع كريستال, وعلب موزاييك بازارية «مفروطة» سلفاً, ومعلوم كيف تشترى وكيف ولمن توزع... €ويا روحي بلا كتر أسية ما تفرحيش الناس فيَّ€.
رحم الله القصبجي واحمد رامي وأم كلثوم, وسائر مبدعينا لما تركوه لنا من تراث يكفينا لنندب حظ ثقافتنا العاثر مئة عام مقبلة, ونشك بأنها كافية ليستفيق إلعازر من قبره, والشك على ذمة أحمد رامي «يحيي الغرام» وحتى الخصام, لكن بالطبع من دون العظام, ما دام مكتوب على مشاريعنا الثقافية الجادة أبداً, أن تكون اشبه بـ€حبيت ولا بانش عليَّ€.
بالاتفاق مع الكفاح العربي
إضافة تعليق جديد