رشق الحجارة

04-04-2010

رشق الحجارة

للوهلة الأولى يبدو مستغرباً بث التلفزيون السوري إعلانا للمؤسسة العامة للخطوط الحديدية، يحذر من ظاهرة رشق القطار بالحجارة. ويصعب على غير المتابع لأخبار الحوادث تقبّل استمرارية هذه الظاهرة العدائية للقطارات بعد قرن كامل على تسييرها في بلداننا العربية، لكن بعدما نعلم أن الحجارة العمياء لا تزال توقع قتلى وجرحى وخسائر بالملايين، سنسلم أن الإعلان التوجيهي لمؤسسة الخطوط الحديدية غير كاف، لمواجهة مرض اجتماعي تتوارثه الأجيال، ولم تفلح مئة عام من تطور وسائل النقل والاتصال في القضاء عليه، وما زال رشق القطار بالحجارة والمراهنة على إصابة زجاجه دون غيره من وسائل النقل القديمة والحديثة يمثل إغراءً لا يقاوم للأطفال والفتية في المناطق التي يمر فيها، حتى لو أدى هذا العبث واللهو إلى وقوع حادث إجرامي، يرتقي إلى درجة عمل إرهابي أو جناية قتل كما حصل مع المهندس الدكتور المهندس عدنان صايغ البالغ من العمر 52 عاماً (رئيس قسم الجر في المؤسسة العامة للخطوط الحديدية)، حين كان يقوم بمهمة رسمية لتجريب قطار (ترين سيت) بعد الصيانة، على طريق حلب – دير الزور قرب محطة الرقة، وإذ بحجر يزن أكثر من كيلوغرام يخترق الزجاج الأمامي لقمرة القيادة، ويصيب مباشرة رأس المهندس محدثاً كسوراً متعددة في الجمجمة والوجه والفكين وانفجاراً في العين اليسرى ونزفاً وكدمات في الدماغ. ليمكث بعدها في غيبوبة نحو أسبوعين قبل أن يتوفى.
عدا الأسف والحزن الشديد الذي خلفته الفجيعة لدى العاملين في المؤسسة وأسرة الفقيد، فثمة أسف آخر على تكرار حوادث تنم عن تخلف وبدائية في مجتمعاتنا العربية ونحن في نهاية العقد الأول من الألفية الثالثة. ولا يكفي لتفسير او تبرير هذه العادة السيئة القول إنها تعود إلى الفترة الاستعمارية، حين كان المقاومون يرمون القطارات المحملة بجنود الاحتلال والإمدادات بالحجارة والنار. فالاستعمار القديم، ولى زمنه مع وسائل نقله القديمة، والاستعمار الحديث يستخدم وسائل أكثر تطوراً وفاعلية في النقل والاتصال والتأثير لا تجدي معها حجارة عابثة بلهاء ولو كانت قاتلة، إلا إذ كان اللاوعي الجمعي لمجتمعاتنا مازال يحتفظ بمناطق مصمتة عصية على التطور إن لم نقل التحضر، وإلا كيف نفسر تنامي هذه الظاهرة في المنطقة العربية في السنوات الأخيرة بدل أن تتراجع أو تنقرض. فحسب إحصاءات مؤسسة الخطوط الحديدية السورية زادت نسبة تعرض القطارات للرشق أو وضع العراقيل على سكة القطار، كالحجارة والإطارات وغيرها في العام 2009 بنسبة 23% قياساً بالعام الذي سبقه، حيث وقع 123 حالة رشق قطارات بالحجارة خلال العام 2009 بزيادة مقدارها 23% عن 2008. وجاءت حلب الأولى في عدد حوادث رشق القطارات بـ34 حادثة، تلتها حماة بـ27 حادثة، فالحسكة 19 حادثة.
وفي مصر الحال ليس أفضل، فكل يوم هناك حادثة بسبب رشق الحجارة، وكثيرا ما يضطر السائق إلى توقف اضطراري بسبب إصابته بحجر، وفي المغرب تحفل المحاكم المغربية بدعاوى يطالب أصحابها المكتب الوطني للسكك الحديدية بتعويضات عن إصابات وقعت عليهم أثناء ركوبهم القطار، أما في الجزائر فقد استُهدفت القطارات لسنوات عدة من قبل الإرهابيين، والآن هي هدف دائم لحجارة الصبية. وتشير أرقام الشركة الوطنية للسكك الحديدية الجزائرية إلى تسجيل69 حادث قذف بالحجارة في العام 2008 منها إصابة 11 سائقاً و10 مسافرين.
وما يلفت النظر في تقارير تلك الحوادث أن القاسم المشترك بينها الإشارة إلى وجود مناطق معينة توصف بالخطرة، وهي عادة مناطق نائية نسيها الزمن أو تجاهلتها الحكومات، والاحتمال الأكبر أن يكون هذا السلوك البدائي والعدائي عبارة عن رد فعل على التهميش والإهمال، أو نوع من لفت النظر إلى مناطق محرومة لم تشملها الرعاية والتنمية. ولنا أن نتخيل حجم تخلف فتيتها الأشقياء عندما يعتبرون القطار كائناً خرافياً، جديراً بالتحدي بتحطيم نوافذه، وعرقلة سيره، وكل ما من شأنه أن يرضي نزعة التفوق والتميز في مناطق مهملة، تطغى فيها حاجة المراهقين الى الظهور وإثبات الوجود على حساب ما يمكن أن يُخلفه حنقهم من كوارث، خصوصا وأنه من الصعب إلقاء القبض على رماة الحجارة ومحاسبتهم على أعمال تخريبية باتت بحكم الجرائم المقصودة.
هل هذا وحده يمثل دافعاً لاستمرار ظاهرة تنم في عمقها عن قلق المناطق الساكنة والراكدة من قطار يمزق هدوءها بضجيجه، وتثير في لاوعي الأفراد مشاعر الحقد والرغبة في الانتقام؟ هذه المشاعر نفسها نراها تنقلب في لحظة الى دهشة وذهول وربما خوف بمجرد أن يتوقف القطار، فحتى الأولاد المتسابقون بحماسة بالغة لإيقاع الأذى، يرتعدون خوفاً إذا توقف فجأة، وتنطفئ رغبتهم الجامحة لإصابة زجاجه بحجارتهم!!
هذه هي حال كل حركة تغيير في مجتمعاتنا، تبدو الخشية من المتحرك هي الأكثر تجذراً في مجتمعات اطمأنت إلى ركودها بخشية يُعبر عنها بالرفض والعداء ومحاولات إعاقة الحركة، وهو أمر يمكن سحبه على مناحي حياتنا كافة التي لم تنسجم بعد مع حركة التغيير المجتمعي العولمي العاصفة بنا من كل جانب، لتعيث فوضى وارتباكاً ما بين تغيير قسري مرفوض وما بين سكون وادع صار عبئاً. المشكلة أن مجتمعاتنا أُفرغت من إمكاناتها الفكرية والسياسية الفاعلة حتى باتت عاجزة عن إنتاج بدائل للتغيير من داخلها، ولم يتبق لها أي وسيلة للتعبير عن السخط على هذا الواقع وعن هذا العجز سوى العبث ورمي كل ما يتقدم نحو الأمام بالحجارة وعرقلة سيره، بغض النظر عن ماهيته وبغض النظر أيضا عن نتائجه المؤلمة... تماماً مثلما يقتل مهندس أثناء عمله بحجر طائش رماه راع فتي لكسر رتابة مراقبة الأغنام بعمل مثير يؤكد وجوده.

سعاد جروس

المصدر: الكفاح العربي

التعليقات

برأيي لايكمن الحل في حملات التوعية فقط وإنما الحل الهندسي جزء لايتجزأ من الحل، في أغلب الحالات السكك الحديدية مكشوفة ضمن التجمعات السكانية التي تمر بها والحل هنا ببناء حواجز للسكك ضمن المدن والبلدات ليس فقط لحماية القطار ومستقليه ولكن لتخفيف الضجيج عن السكان، حواجز بارتفاع 4 امتار على جانبي السكة الحديدية قبل التجمع السكاني ب 4 كم وضمن التجمع وعلى امتداد 4 كم من الجانب الآخر، قد يكون الحل في ان تمر القطارات في انفاق قبل دخولها اي مدينة بمسافة جيدة وحتى خروجها من هذه المدينة بمسافة ليست قليلة، يجب بناء شبكة سكك حديدية جديدة حديثة تراعي متطلبات الهندسة الحديثة والأمان وتكون ذات تحمل للسرعات العالية بحيث تصبح المسافة بين الحسكة ودمشق ساعة ونصف وبين حلب ودمشق ساعة، بالاضافة للمترو دمشق بحاجة لما لايقل عن 10 خطوط تراموي، حلب بحاجة لعشر خطوط تراموي، اللاذقية اربعة خطوط تراموي، حمص 6 خطوط وبقية المحافظات خطان لكل منها، التران سيت اصبح قديما، عليكم بقطارات عالية السرعة TGV حتى يتطور النقل السككي بشكل صحيح، الاستثمار في النقل السككي السريع من قبل الدولة يحدث نقلة نوعية في اقتصاد البلد في حين ان الاستثمار في الاتوسترادات المدفوعة من قبل القطاع الخاص سيعود بفوائد كبيرة على القطاع العام والخاص، لاتلقو اللوم على طفل يلعب ولكن على القطاع الهندسي في وزارة النقل، فبناء سكة ليس بوضع القضبان الحديدية على الارض ولكن بتصاميم هندسية محسوبة بعناية ودقة تضمن سلامة الجميع

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...