هندسة الاغتيالات اللبنانية وسر التحول الذي طرأ عليها
الجمل: جاءت عملية اغتيال النقيب بقوى الأمن الداخلي اللبناني لتؤكد بأن مسلسل الاغتيالات الجاري في لبنان لم يعد مجرد أحداث تهدف لمجرد الانتقام أو إضعاف إحدى القوى السياسية المتصارعة، وحالياً بعد شريط الاغتيالات الذي بدأ في عام 2002م باغتيال الوزير اللبناني السابق إيلي حبيقة وإعادة التمعن في وقائع وطبيعة وتداعيات هذه الاغتيالات من الممكن أن يتوصل المرء إلى قراءة كلية تساعد في إظهار الملامح البارزة للمشهد اللبناني الدامي.
* "هندسة" الاغتيالات اللبنانية:
برغم تعدد وسائل القتل، والتي تتضمن الرصاص، والسموم، والأسلحة البيضاء، والقنابل، والصواريخ، والقذائف... وغيرها، وبرغم الحقيقة القائلة بأن كل قاتل يعتمد في تنفيذ جريمته على الوسيلة التي يتقنها، فإن الاغتيالات اللبنانية قد تمت باستخدام وسيلة واحدة هي "تفجير السيارات المفخخة بالعبوات الناسفة" الأمر الذي يرجح احتمالات صحة الاستنتاج القائل بأن "القاتل واحد". كل المعطيات والملابسات المحيطة بعملية الاغتيال كانت متشابهة إلى حد التطابق، فالسيارات المفخخة كان القتلة يوقفونها في أماكن "منتقاة" بعناية بحيث يصعب على الضحايا المستهدفين الإفلات، وهو أمر يؤكد على مدى احترافية من يقومون بعملية التخطيط لهذه العمليات. أما الذين تم استهدافهم وسقطوا ضحايا فهم من الشخصيات "غير العادية" لجهة أن تحركاتهم تكون غير عادية ويصعب رصدها إلا لمن يتواجدون معهم الأمر الذي يشير إلى مدى تغلغل القتلة في الهياكل الرسمية المؤسساتية اللبنانية. وتبدو مهارة القتلة بوضوح في عمليات التغطية المدروسة الفائقة الدقة، فالسيارات التي تم استخدامها كانت في معظمها مسروقة أو مهربة إلى داخل لبنان إضافة إلى ضرورة ملاحظة أن سرقة سيارات من طراز "BMW/320" لا يمكن أن تتم بواسطة لصوص السيارات العاديين، وإنما تحتاج من تلقوا تدريباً أكثر تقدماً في سرقة السيارات، وحتى الآن يمكن القول بأن القتلة ظلوا أكثر حرصاُ ودقة في إخفاء الخيوط التي يمكن أن توصل المحققين إليهم، وحتى الآن فإن كل محاولات تتبع الخيوط أوصلت المحققين إلى "النهاية المغلقة".
* سر "التحول النوعي" الذي طرأ على الاغتيالات اللبنانية:
حصيلة القتلى اللبنانيين، بغض النظر عن الضحايا الأبرياء الذين تصادف وجودهم في موقع الحادث لحظة الصفر وبغض النظر عن المرافقين للضحايا، هي حصيلة تشير إلى إمكانية تصنيف القتلى ضمن ثلاث فئات:
• سياسيين لبنانيين.
• شخصيات عامة لبنانية.
• مهنيين لبنانيين.
وتضمنت الفئة الأولى زعماء وأعضاء في مجلس النواب اللبناني اشتهروا بتوجهاتهم السياسية الموالية للغرب والمعادية لسوريا وقوى 8 آذار المعارضة لحكومة السنيورة، وبالنسبة للثانية فقد تضمنت صحفيين اشتهروا بانتمائهم لقوى 14 آذار والولاء للغرب والعداء لسوريا وقوى 8 آذار. أما الفئة الثالثة فتتكون من مهنيين لبنانيين. إن الاغتيالات الانتقائية ضمن الفئة الأولى والفئة الثانية ترتبت عليها محاولات قوى 14 آذار وأمريكا وحلفاءها محاولات:
• إلصاق التهم بسوريا وتحميلها المسؤولية.
• رفع وتيرة العداء ضد سوريا في الرأي العام اللبناني.
• إضعاف قوى 8 آذار التي يتزعمها حزب الله اللبناني.
• إدخال الأزمة اللبنانية في نفق التدويل.
• إضعاف الدور الإقليمي العربي للبنان.
ولكن، لاحقاً توقفت عمليات الاغتيال ضمن الفئتين الأولى والثانية ولكي نفهم سر توقف القتلة عن انتقاء الضحايا من ضمن الفئة الأولى والثانية يمكن بكل سهولة الاعتماد على نظرية الفرص والمخاطر في تفسير ذلك:
• جانب الفرص: بعد انكشاف فضيحة المحقق اليهودي الألماني ديتليف ميليس تضاءلت الفرص المتعلقة باستهداف سوريا إضافة إلى أن الرأي العام اللبناني أصبح أكثر تشككاً إزاء طبيعة هذه الاغتيالات، وقد أدى خطأ إسرائيل بارتكاب جريمة العدوان ضد جنوب لبنان إلى تعزيز شعبية حزب الله اللبناني وبقية قوى 8 آذار، الأمر الذي ترتب عليه ضعف فرص دفع الرأي العام اللبناني باتجاه المطالبة بنزع وتجريد أسلحة حزب الله اللبناني.
• جانب المخاطر: المضي قدماً في اغتيال عناصر "الفئة الأولى" أصبح يهدد بمخاطر إسقاط حكومة السنيورة الموالية لغرب وقلب التوازنات داخل مجلس النواب اللبناني لذلك توقفت عمليات الاغتيال ضمن هذه الفئة حتى لا يتم الإضرار بمركز النخبة الحاكمة. أما بالنسبة لعناصر الفئة الثانية فقد توقفت الاغتيالات لأن المضي قدماً في إسقاط الضحايا من الصحفيين سوف يترتب عليه انكشاف الصحافة اللبنانية من الأقلام التي تمثل البنيات التحتية التي تقوم بمهام الحرب النفسية ضد سوريا وقوى 8 آذار. بكلمات أخرى، فإن القضاء على هذه الأقلام سوف يترتب عليه القضاء على سلاح الحرب النفسية الرئيسي الذي تعتمد عليه قوى 14 آذار وحكومة السنيورة وأمريكا والغرب لجهة توجيه الرأي العام اللبناني والعالمي.
وبعد أن توقفت اغتيالات عناصر الفئة الأولى والثانية بسبب ضعف الفرص وتزايد المخاطر لم تتوقف عمليات الاغتيال بل تحولت إلى عناصر الفئة الثالثة وهنا تجدر الإشارة إلى الملاحظات التالية:
• بدأت عمليات الاغتيال ضمن هذه الفئة لاحقاً بعكس الفئة الأولى والثانية اللتان تداخلت اغتيالات عناصرهما في التوقيت الزمني وتسلسل الأحداث والتطورات السياسية اللبنانية الداخلية والإقليمية والدولية.
• حتى الآن سقط قتيلان في هذه الفئة هما:
* العميد فرانسوا الحاج المقرب من قائد الجيش اللبناني الحالي والمرشح لرئاسة الجمهورية العماد ميشيل سليمان، وحينها كانت التسريبات تشير إلى أن العميد الحاج كان الأقرب لتولي منصب قادة الجيش في حال تولي قائده منصب الرئاسة.
* النقيب بقوى الأمن الداخلي وسام عيد والذي أشارت التقارير إلى:
* إلمامه الكبير بالمعلومات الأمنية والتقارير الاستخبارية المتعلقة بالاغتيالات السابقة التي شهدتها الساحة اللبنانية.
* له روابط مع قوى 14 آذار ووثيق الصلة بالمقدم سمير شحادة نائب رئيس شعبة المعلوماتية بقوى الأمن الداخلي، وقد سبق للاثنين النجاة والإفلات من محاولات اغتيال استهدفتهما سابقاً، كذلك تقول التسريبات بأن المغدور النقيب وسام عيد كان قريباً من "لجنة التحقيق الدولية".
* النقلة النوعية في طبيعة الاغتيالات اللبنانية: الدلالات والتداعيات:
توجد الكثير من التساؤلات المتعلقة بطبيعة "النقلة النوعية" التي حدثت مؤخراً في طبيعة الاغتيالات اللبنانية ومن أبرزها:
لماذا تم انتقاء هذه العناصر بالذات؟ وإذا كانت الاغتيالات ضمن الفئتين الأولى والثانية تهدف إلى إعطاء المزيد من الدفع لزخم الأزمة اللبنانية ودفع ديناميكيتها ضمن مسارات تسويق العداء لسوريا وإبعاد لبنان عن سوريا، وإضعاف قوى 8 آذار والتمهيد لعلاقات أمريكية – لبنانية قوية، والتمهيد لعلاقات إستراتيجية إسرائيلية – لبنانية، فما الذي تهدف إليه هذه الاغتيالات من الفئة الثالثة؟ وهل يهدف اغتيال العميد فرانسوا الحاج إلى نقل الإشارة للبنانيين بأن جماعة فتح الإسلام والجماعات الأصولية الإسلامية ما تزال موجودة وناشطة وتهدد استقرار لبنان، وبأن على لبنان واللبنانيين دعم الجهود الأمريكية والغربية الهادفة لمساعدة لبنان عن طريق فتح لبنان جواً وبراً وبحراً ليصبح قاعدة ومسرحاً للحرب الأمريكية – الإسرائيلية ضد الإرهاب الذي لا يتمثل لبنانياً في الجماعات الأصولية الإسلامية وحدها وإنما في حزب الله وحلفاءه وسوريا وإيران؟ أم هل تضمن الاغتيال توجيه رسالة إلى العماد ميشيل سليمان قائد الجيش اللبناني حاول القتلة القول فيها لـ"الرئيس اللبناني القادم ميشيل سليمان" بأننا موجودون في الساحة اللبنانية وأن عليكم المضي قدماً مع وضمن توجهات قوى 14 آذار وحكومة السنيورة وإلا فنحن قادرون على استهدافكم أيضاً، وبالنسبة لاغتيال النقيب وسام عيد هل حاول القتلة القضاء نهائياً على ملف "المعلومات" والمعلوماتية التي بحوزته؟ وذلك بعد إحساس القتلة بأن مجريات اللعبة اللبنانية لم تعد تعمل في صالحهم وبأن الشوط القادم سوف يحمل ما لا تحمد عقباه وبالتالي يتوجب القيام بسلسلة من الاغتيالات الوقائية التي تؤدي إلى القضاء على مصادر الخطر المتزايد الذي بات ينذر بالكشف عن الأيادي الخفية التي ظلت تدير من وراء الظلام دولاب الأزمة اللبنانية ضد سوريا وإيران وقوى 8 آذار.
إن عمليات الاغتيال ضمن الفئة الثالثة لن تتوقف وعلى الأغلب أن تطال الأيادي الآثمة المزيد من عناصر قوى الأمن الداخلي اللبناني وربما بعض قضاة التحقيق وبعض المهنيين العاملين في المرافق اللبنانية الحساسة مثل المطارات والبنوك والموانئ والاتصالات، إضافة إلى الاحتمالات الكبيرة بأن تطال الزعماء السياسيين المتورطين في التعامل مع الأيادي الخفية الآثمة، بما يؤدي نهائياً إلى نجاح "العقل المدبر" في عملية القضاء على كل الخيوط والأدلة المادية التي يمكن أن تكشف ما هو موجود وراء سيناريو الأزمة اللبنانية الممتد ليس من لحظة اغتيال رفيق الحريري وإنما من لحظة اغتيال الزعيم اللبناني الماروني إيلي حبيقة الذي اختلف مع حلفائه السابقين وهدد بالكشف عن دور شارون في مذابح بيروت.
الجمل: قسم الدراسات والترجمة
إضافة تعليق جديد