مهرجان الجاز يروي عطش السوريين
كانت قرقعة السلاسل , تطغى على كل الأصوات الأخرى , و كان الزنوج العراة الجائعون يدركون أن قيودهم الضخمة حولتهم الى عبيد
في بلاد البيض البعيدة . ومن أفريقيا بدأت رحلة السفن المحملة بالبضائع البشرية السوداء , و شقت مياه البحار , متجهة إلى مكان تجمع فيه مهاجرون إسبان و انجليز و فرنسيون , ينتظرون هذه الكائنات التي ستكون فقط خدماً و بلا ثمن.
خلال الرحلة البحرية الطويلة , رمى السادة البيض كل من قاومهم في البحر , ووجدت الحيتان عندها طعاماً جديداً لم تألفه من قبل . ووصل أخيراً من رضخ للعنف الى أمريكا ليبدأ حياة لم يتوقعها.
بعد قرن تقريباً , أي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر , جاء الرئيس الأمريكي أبراهام لينكولون إلى سدة الحكم , وألغى نظام الرق و العبودية , و أنهى الحرب الأهلية الأمريكية ليبدأ الزنوج بامتلاك أرواحهم بأيديهم , و ليصبحوا أحراراً لا سيد عليهم سوى أنفسهم .
ظهرت مدينة نيوأورليانز كأكبر تجمع أسود في البلاد الأمريكية , مع امتيازها بوجود صالات الرقص في كل أنحائها , و انتشار الفرق الصغيرة التي كانت تجوب الشوارع ووجد الزنوج أنفسهم وقد مزجوا ألحانهم الأفريقية الأصيلة , بألحان الكنيسة الكاثوليكية و البروتستانتية , وعشقوها بأنفاس العبيد المعذبين و صرخاتهم المرعبة.
من هذا الخليط الفطري خرجت موسيقا الجاز , وأصبحت الآلات النحاسية هي الأساسية في العزف وتكونت في عام 1893 في مدينة أورليانز , أول فرقة تعزف موسيقا الجاز قادها ( بادي بولدن ) وهو حلاق و يعزف على آلة ( كورونيت ) . و لم تكن الموسيقا التي تعزفها هذه الفرقة مدونة , فقد اعتمد عازفوها الارتجال المشترك و من ثم انتشرت هذه الموسيقا في كل انحاء البلاد و لتعبر الحدود فيما بعد.
تطورت موسيقا الجاز و أخذ البيض يكونون فرقاً مماثلة لفرق السود و يدونون ألحانهم بالنوتة , ولكنهم لم يلقوا نجاح السود , لفقدانهم الروح الزنجية و الفطرة , و لكنهم واصلوامحاولة تطوير الجاز إلى أن أصبح موسيقا الرقص بأنواعه : ( الشارلي ستون) و ( السوينغ ) فنجحت الفرق في الوصول إلى محطات الراديو , و حققت انتشاراً ساحقاً .بعد الحرب العالمية الثانية , حدثت ثورة ضد تحريك أرجل الراقصين , وفرض الجاز نفسه كموسيقا تستحق الاصغاء إليها وكفن جديد يخاطب المشاعر ويرتفع إلى المستويات السيمفونية , و لم يعديشترك فيه عازفون بالفطرة بل جلب أفضل خريجي المعاهد الموسيقية , وهكذا فقد اختفى الارتجال و حلت الأكاديمية الجادة.
امتزجت موسيقا الجاز بموسيقا دول أمريكا اللاتينية فأدخلت دول كالارجنتين و المكسيك والبرازيل إيقاعات مبتكرة ورقصات جديدة مثل : التانغو , الرومبا , السامبا , و التشاتشا , و استخدمت آلات إيقاع شعبية خاصة مثل القرع و النقارات.
انطلقت مهرجانات الجاز من الولايات المتحدة في الخمسينات , ثم أصبحت دولية , تتنافس فرق العالم في تقديم جديدها. و بعد سنوات تكونت هيئة دولية لتنظيم المهرجانات , لتصل الى معظم عواصم العالم .
كانت مصر سباقة الى مهرجانات الجاز بين الدول العربية فقدبدأت في النصف الثاني من القرن العشرين, ولاقت موسيقا الجاز استحساناً شعبياً كبيراً . و شرع الموسيقيون المصريون في محاولة الدمج بين موسيقا الجاز بأصولها الغربية و بين الموسيقا العربية , ونجحوا في تقريبها من عامة الناس.
أما في سورية فقد ابتدأ أول مهرجان لموسيقا الجاز عام 2005 , وفي هذا العام تم افتتاح المهرجان في قلعة دمشق و قد تميز بمشاركة عدد من العازفين من كندا و هولندا و الهند , إضافة إلى مؤسسي المهرجان سورية وسويسرا الموسيقا المهرجان :.في بداية حفل الافتتاح ألقى السيد جاك دوفات فيل السفير السويسري في دمشق , كلمة قال فيها ( إنه من دواعي سروري أن أرحب بكم في قلعة دمشق , في اليوم الذي يلي افتتاح هذه القلعة و قد افتتحها يوم أمس السيد الرئيس بشار الأسد , بعد النجاح الذي أحرزه حفل الجازا لعام الماضي بادرت السفارة السويسرية بتنظيم الحفل الموسيقي الأكبر بين 2 -7 تموز . وكما في عام 2005 يشرفنا أن نحظى بالرعاية الكريمة التي تقدمها السيدة أسماء الأسد , هذه الرعاية التي نقدرها عالياً ثم أكد السيد السفير على المشاركة الهولندية و الكندية والهندية التي تدل على الطابع الدولي لهذا الملتقى الموسيقي . و أضاف : (( لا يهدف هذا الحدث لإظهار المواهب المتنوعة للموسيقيين , بل إلى نشر موسيقا الجاز في سورية لتوطيد القيم الانسانية في العالم . أن الحفلات المتتالية التي تنظم في دمشق وحلب , تؤكد حواراً ثقافياً بين سورية و سويسرا ورسالة عن الصداقة و الانفتاح و السلام )). و أكد السيد السفير على أن الأوركسترا السورية السويسرية للجاز , هي الفرقة الوحيدة الكاملة في الوطن العربي , بفضل مديرها ( أماديس دنكل ) , وهي مبنية على ما هو مشترك و أصيل , لخلق انسجام إنساني.ما أن بدأت أوركسترا جاز سوري سويسري مقطوعتها الأولى , حتى تجلت مهارة العازفين و قائد فرقتهم , و أدخلتنا في حالة انسانية سامية , وقد جاءت الموسيقا انسيابية و شاعرية فيها مزيج من التلقائية و الحزن و الألم , ومن ثم الثورة , عبر آلة الدرامز التي أضفت حساً جمالياً خاصاً على المقطوعة.وقدمت الأوركسترا مقطوعات أخرى شارك فيها العود , بشرقيته , في الأداء المتناغم , مع الآلات الأخرى الغربية مثل البيانو , الساكسفون و الباص و الغيتار و الدرامز و الفلوت . وحدث صراع خفي بين إيقاعين متنافرين , هما الإيقاع الشرقي و الغربي , و تناوب كل منهما على ترويض الآخر وفق حرفة و جمالية عالية .رغم حداثة موسيقا الجاز و تواجدها في سورية , إلا أنها لم تكن غريبة أبداً مسامع الناس فقد انسجم الحضور مع المقطوعات والألحان , و تفاعلوا معها بكثير من الحماس والإعجاب.هو اليوم الأول للمهرجان , و قد افتتح في قلعة دمشق و سيستمر خمسة أيام أخرى في دمشق وحلب , هو اليوم الأول لمهرجان يؤكد على رسالة المحبة و الصداقة و السلام وتعزيز الحوار الثقافي المتعدد , و قد عبرت عنه موسيقا الجاز في قدرتها على مزج العديد من الثقافات , ما يخلق أرضية لالتقاء المبدعين الموسيقيين من جميع المشارب.الجاز حالة إنسانية عميقة , لا تعرف الحدود , و لا ترضى بالعنصرية , لأنها خلقت أساساً ضد العنصرية
عقبة زيدان
المصدر: الثورة
إضافة تعليق جديد