الحدث السعيد : كوميديا الطاغية
نعرف بالضبط في ظل أي حدث سياسي كتب المسرحي البولوني سلافومير مروجيك (1930) مسرحيته "الحدث السعيد"، وهو الكاتب السياسي المعارض لنظام الاستبداد الشيوعي في بلاده والمنفي لأعوام طويلة. غير أن ذلك ليس مهماً إلى هذا الحد، فحين يقدَّم النص الذي كُتب عام ,1974 في دمشق 2006 سيُكتب من دون شك بطريقة أخرى مهما كان مخرجه سامر عمران (الذي كان أنهى دراسته المسرحية في بولونيا) أميناً وحرفياً في ترجمة النص. فحين يقدم عمل يتطرق إلى "ثلاثي" الاستبداد، المعارضة، والخارج، في خضم جدل عربي واسع حول وبين هذه الأقطاب، لا بد أن يساق العمل باعتباره مساهمة في ذلك الجدل. بشخصيات قليلة يحاكي نص مروجيك تلك العلاقة الشائكة، خمس شخصيات تنطلق من عقل كاتب سياسي، لا شك سيكون مهموماً بالتوصيل، وبأن تكون العلاقات والمواقف من غير لبس؛ هكذا سيكون الأب العجوز (يؤديه هنا علي كريّم) نموذج الاستبداد، والغريب (محمد خير جراح) نموذجاً للتدخل الخارجي، أما الابن وزوجته (سيف أبو أسعد وزينة ظروف) فبمثابة الشعب الحائر بأمره بين الاستبداد وطلب النجدة من الخارج. تقسيم نراه اليوم ساذجاً ومنفراً على المستوى المسرحي من غير شك، وسنرى الحكاية أمتع وأكثر إضحاكاً. تبدأ المسرحية حين يقع غريب، الذي يبحث عن غرفة للإيجار، فريسة إعلان كاذب يعد بإطلالة على جبل وثلج ومطر، وبحمّام أنيق ومترف، ليكتشف إثر وصوله المنزل ومجادلته صاحبه أن الإطلالة وهم، بل إن الغرفة في الأساس غير موجودة، وأن الأسرة كلها تنام في سرير واحد، وعلى المستأجر أن يشاركهم إياه. وهنا نتعرف على مأساة الزوج الذي استقدم المستأجر الغريب وكل همّه أن يلهي به الأب العجوز عن مراقبته مع زوجته، حيث يقعان فريسة العجوز المستبد الذي لا يسمح لهما بالتنفس من دون رقابته، خوفاً من أن يلتقيا من وراء ظهره وينجبا، فالطاغية العجوز، الجنرال السابق، يؤمن بأنه خالد، فهو لم يصب مرة بمرض، ويتمتع بصحة توهمه بأنه سيضمن شخصياً، وبنفسه، استمرارية اللقب العائلي. وهكذا فإن الطفل (الافتراضي) بالنسبة للعجوز مصادرةٌ لدوره ومكانته، وبالنسبة للزوج "ليس مجرد قضية شخصية، بل قضية مؤسسات جديدة، قضية علم الصحة، انتساب للحضارة...". الغريب، الذي يصنف نفسه فوضوياً، ينصاع ويساعد في إنجاح ما يسميه "التناسل الأرستقراطي"، فهو يمارس فنون التسلية مع الجد الجنرال، ما يهيئ للزوجين فرصة للاختلاء. هذا التحالف الناشئ بين الزوج والغريب الفوضوي (الشعب والخارج) يصفه الأول للثاني بالقول: "لا أخفيك أنني ضد الفوضوية، ولكن لسنا مضطرين لتقاسم آرائنا، يكفي أن لدينا عدواً مشتركاً، كل النوايا طيبة حينما يكون القصد إسقاط الاستبداد، من واجبك الارتباط بالمؤامرة، إذا كنت تعشق الحرية".
إن العرض، كما النص، لا يتوقف عن السخرية، فالاستبداد والتدخل الخارجي مدانان بالقدر نفسه، ظهر الطاغية العجوز في رسم كاريكاتيري في غاية الإضحاك: قبعة عسكرية مليئة بالأوسمة والريش، ثوب أبيض أشبه بلباس مرضى مشافي الأمراض العقلية، ويظل ينفخ في بوق حربي في آذان أسرته. ولقد لعب الممثل علي كريّم الدور بأجمل ما يكون، مستعيراً صوتاً وإيقاعاً عصابياً طوال العرض. أما بالنسبة للغريب فقد كان مجرد اختيار ممثل معروف بأدوار كوميدية للعب الدور نوعاً من التهكم، سوى أن العرض قال ذلك بوضوح أيضاً، خصوصاً حين راح الغريب يطالب بحصته في الطفل الوليد، باعتباره شارك على نحو ما في عملية إنجابه. هذا الزواج، الذي هو زواج مع الخارج قبل كل شيء، لن ينجب سوى طفل مسخ، حيث يولد الطفل كبيراً ولكن بحركات رضيع (أداه حسام الشاه). المسخ يذكّر بذاك الذي خلقه فرانكشتاين، في رواية ماري شيلي، والذي سيُفلت من يد خالقه ويتمرد عليه، ويفتك بأعز من حوله. وهنا أيضاً فإن المسخ يبدأ بجده المستبد قبل أن يفتك بالغريب، لينتهي العرض فيما الطفل المسخ يعابث دمية على شكل جرافة. ولعل ظهور المسخ ككائن كوميدي على الخشبة، وكمتوحش ألقي في خضم حوارات ومواقف كاريكاتيرية وكوميدية، نوع من الغروتسك، ذلك النوع الكوميدي الفظ الذي يجمع بين متناقضات حادة على الخشبة. ولكن كوميديا "الحدث السعيد" كانت باردة إلى حد بعيد، عرض بإيقاع بطيء، وهذا بالضبط مقتل العرض، ولو أننا نحيّي فيه عدم انجراره إلى كوميديا الفارْس، الذي يبدو أن من السهل الانزلاق نحوه في نص مروجيك، ومع ممثلين لهم رصيد كوميدي. يلزم العرض أن ينجدل في إيقاع يشبه إيقاع الرسوم المتحركة، ومروجيك بدأ كفنان في هذا المجال، وبخفة الكاريكاتير، الأمر الذي قد تساعد فيه موسيقى رشيقة، ولكن هذه غابت عن العرض، أو قلما حضرت فيه. هذا بالإضافة إلى مشكلة أخرى يعرفها الممثلون، واشتكى منها المخرج، وهي أن العرض المصمم لمسرح العلبة الإيطالية، يقدم هنا في مسرح دائري ألغيت جنباته وبقي الجمهور في المواجهة، وحتى المواجهة مع المتفرج لم تكن على ما يرام، إذ كلما ارتفع موقع المتفرج صار ينظر إلى العرض من أعلى، كأنما يرى مسقط "الحدث السعيد" أو ظلاله.
راشد عيسى
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد