إشـراقات حمـود شـنتوت
المدرس بثقافته الواسعة وبعد نظره كان مدركاً للقيمة الشعرية الهائلة في عمل شنتوت، وينبغي هنا توضيح بعض السياقات، فشنتوت لم يكن ينتمي إلى الرواد أو المؤسسين الذين تشكلت تجربتهم في مناخ ثقافي مغاير، كما لم يمتلك الحصانة والتكريس، وكانت ظاهرة حمود شنتوت التي بدأت بالتشكل غير مألوفة بالنسبة للأوساط الفنية، فنموذج الفنان المحترف، لم يكن قد ثبت أقدامه بعد على الساحة السورية، ورغم أن عدداً من صالات العرض الخاصة قد بدأت بلعب دور هام منذ نهاية السبعينيات، إلا أن معظم الفنانين كانوا يمارسون أعمالاً أخرى، أو يتمتعون بمكانة أكاديمية بالأساس. أما شنتوت فقد اختار التفرغ لعمله الفني. وقاده ذلك إلى بحث ذي طبيعة داخلية، هموم تشكيلية تصدر عن العمل نفسه من الداخل، روح من العمل والإنتاج، مراهنة على موضوعات لا تملك الجلال الكافي، لكن إبداع الفنان، هو من يمنحها الأهمية. الغزارة وعدم التوقف لطرح أسئلة عن جدوى العمل الفني، مبرراته وأبعاده وأهدافه، قادت شنتوت إلى المزيد من التطور، فلفت إليه الأنظار بقوة وبات من الصعب تجاهله. إلى ذلك كانت علاقة خاصة تتشكل بين الفنان والجمهور، جمهور من أناس عاديين، وجد في تمسك الفنان بالموضوع الواقعي، المقدم بصورة ساحرة، مدخلاً لتذوق عمل الفنان دون صعوبات، ولم يتعب نفسه هذا الجمهور بالتساؤل كيف تم الوصول إلى هذا السحر. وجمهور من الخبراء والوسطاء والمقتنين، أدرك أنه يتعامل مع فنان خاص، لا يمكن قراءته عبر المقارنة مع تجارب أخرى. في لحظة حصل التقاطع بين طبقة ميسورة تملك القدرة على شراء الأعمال الفنية، وعمل لا يستعديها ولا تشعر بالغربة تجاهه تبعاً لأفقه الإنساني الرحب، ولغته التشكيلية البسيطة ظاهراً. هذا الأمر خلق حالة من الإرباك لدى (نخبة) تسيطر على المنابر الإعلامية، تعودت اللجوء إلى تفسيرات ثقافوية في صياغة الرأي العام الثقافي في تعامله مع الظواهر الإبداعية، وبدا واضحاً قصورها التشكيلي، خاصة أنها اعتقدت أنها تملك الوصفات الحصرية لما هو فن ولما هو حديث.
المشهد الخارجي المرئي، والبورتريه، ستظل مواضيع أساسية لدى شنتوت. عين الفنان التي تنجح في التقاط القيم الجمالية لمنظر أو موضوع، وفق معالجات أسلوبية شكلانية، ستنتقل بدءاً من مرحلة باريس إلى وضع لمسة من الذات في ما تراه العين، سنتعرف إلى عين داخلية، ستصبغ المكان وليكن غرفة مثلاً، بالحالة النفسية لشاغلها، سيحضر اللون الأسود بقوة، فالبرد والحرمان والغربة، ستتخذ تمظهرات عبر الظل والنور، اللون والمادة، وقد اعترف شنتوت غير مرة بأن أعماله هي ضرب من مذكرات شخصية، وفنان غزير الإنتاج سيكون عمله نوعاً من اليوميات المرتبطة بلحظة إنجاز العمل، وبالظروف المحيطة والسياقات التي أنتج فيها. غالباً لا يظهر الكائن الإنساني الذي يعيش في هذه الغرف في اللوحة، لكنه في مرحلة تالية سيظهر وفق صيغة خاصة هي الرأس المتطاول والثياب الفضفاضة الشبيهة بثياب المتعبدين، بملامح مختزلة تحيل إلى نموذج ـ فرد، لا إلى شبه، أي إلى ملامح نفسية. فن الإيقونة يشكل مصدراً آخر من مصادر شنتوت، ولقاؤه به كان في مرحلة إنجاز أعمال الغرف ذاتها، وهذا الفن يقدم أيضاً نماذج وصيغاً ثابتة، سيستحضرها الفنان مجرياً عليها تعديلات لا متناهية، إذ سيصنع أيقوناته الشخصية النابعة من روحانيته الخاصة، روحانية الألم والصبر والإيمان بسعادة ممكنة تدرك في هذه الحياة، نعمة دنيوية معيشة، هذه الصوفية هي أيضاً صوفية الفن، أي التكريس الكامل للعمل والبحث وغبطة الإبداع والتوصل إلى حلول. والفن صوفي من حيث كونه قراءة حدسية للواقع تحاول النفاذ إلى أبعاده العميقة، فخلف المشهد المرئي يكمن الجمال الذي يكتشف.
غرف
شنتوت بعد عودته إلى الوطن ومعرضه الذي يمثل عمله المنجز في باريس، سيستمر في موضوعاته المكانية، من غرف، وبيوت عربية قديمة، وطبيعة. لكن ستحضر في عمله ألوان أكثر حرارة، كالأحمر، الذي كان هو لون الدم في الماضي، وصار الآن قيمة بصرية قد تتخذ من صينية رب البندورة المنشورة على سطح بيت وعاءً لها. ستبدأ أيضاً الموضوعات المتخيلة بالتسلل إلى عمله، بتأثير فن الأيقونة في البداية، ثم سيصنع أيقوناته الخاصة لا في معالجاتها فحسب وهي المستمر بها إلى اليوم، بل في حكاياتها، فالعمل الخيالي يروي حكاية، ستحضر المرأة في عمله، بتأثير قصة حب سيعيشها وتتكلل بالزواج، والمرأة التي سنراها في عمله لا تحيل إلى امرأة واقعية رغم ذلك، بل إلى مفهوم للأنوثة، فريد في تصعيده، حتى لو رسم نساءً عاريات، فالمرأة لديه، خالقة حالة من الجذل والغنائية اللونية، وملهمة تكوينات معقدة، هنا سيظهر المشهد الداخلي كلية إلى العلن، بهاء الحب، القوة الدافعة التي يمنحها للأجساد لتطير، ففعل الحب لا يثبت إلى الأرض وإلى ما هو ترابي، بل هو يمنح البشري وجهاً سماوياً، وما نراه في هذه الأعمال هو المشاعر. ويمارس الفنان في هذه الأعمال صوفية خاصة تتمثل في البحث عما وراء الوجد، وما تمنح العواطف من طاقة للروح كي ترى (من الرؤيا) وهذا ما سيتحول إلى مشاهد مرئية، هي ليست أحلاماً بقدر ما هي رؤى. البذخ اللوني، التذهيب، النساء اللواتي يظهرن بصورة الملكات بثياب أرجوانية. أيقونات عشق، تضفي على المرأة قداسة.
عُرف شنتوت بطريقة في العمل تتمثل بتوزيع الألوان على سطح اللوحة في البداية، قبل أن تظهر الأشكال والخطوط، وهذه البنائية التشكيلية تظهر أن المدخل إلى عمله هو تشكيلي في الأساس، والرسم لديه هو ضرب من الزخرفة لتركيب لوني موجود سلفاً، لذلك يمكن رؤية أعماله بعزل الموضوع منها، لكنه يحافظ على الخط والشكل تبعاً لاعتبارين، الأول التخفيف من تسطيح اللوحة، والثاني تسلية العين، وإغواء المشاهد بموضوع. أحياناً لا تتطابق الخطوط مع الأشكال والألوان، رغم أنه يلجأ إلى خط حاد داكن وقد يكون أسودَ.
الظل والنور اللذان أجاد شنتوت لعبتهما أيما إجادة، سينتقل إلى صيغ جديدة في تقديمها، فالضوء لا يصدر من مصدر خارجي مسلط على العنصر المصور، بل يصدر عن العنصر نفسه، في صيغة مفاهيمية لا تحيل إلى الواقع، وهذه الصيغة المستمدة من فن الأيقونة الديني، ستتحول إلى خيار تشكيلي، فالأجسام والأشياء ستغرق في نور أثيري، وسنرى واقعاً مشتهى، هو المشهد المرئي بعين الداخل، خاصة حين لا يكون الموضوع متخيلاً بشكل كامل، هذا الفيض من النور، هو واقع أعلى قد تخلص من أدرانه، وبراءة أولى. إذ يزاوج الفنان بين مشهد واقعي، وليكن قصراً شرقياً قديماً ببحرة وحديقة داخلية، وبين صيغة متخيلة كامرأة عارية تختال في الباحة الداخلية أو تجلس في الليوان، متكئة بعزلة راضية، فالكائنات التي يظهر أنها تعيش في عزلة تمثل عزلة مكتفية، تختلف عن عزلة الوحشة. »عزلة الملكات« أو فراديس ألف ليلة وليلة، القصور السرية المحمية عن الخارج، الجمال والدعة، الترف وعالم الأحلام.
كثيراً ما تظهر شخوص شنتوت مغمضة العينين، تقفلها عن سر أو حقيقة داخلية، وقد يكون ما تراه هذه النماذج، هو العمل الذي نراه نفسه، فكأن الفنان يريد القول، إن خلف ما نراه حقيقة داخلية، وإن وراء البصر البصيرة، والعين أعز أدوات الفنان، لا يمكن أن تصاب بالعمى، بل هو إغماض اقتضاه الحال، الإشراق والتكشف الذي هو العملية الإبداعية، التي سنرى نتائجها بكل وهجها وبهائها. نساء شنتوت المغلقات الأجفان الشبيهات بدمى أو فتيات غيشا يابانيات، هن أيضاً تمثل جديد لصورة الأنثى، تخلو من ذكورية فجة وتصل حد التماهي، فالناعمات الساحرات، هن الوسائط الأرقى لإدراك حقائق هذا الكون لدى فنان صاحب رؤية كونية.
هناك كائنات نصف إلهية ونصف بشرية صنعها الخيال كالملائكة، والشياطين والوحوش الخرافية، الملائكة هي تمثيل للخير والإيجابي في الطبيعة البشرية في حدوده القصوى، وحسب صور الذهن، والشياطين هي الشر والسلبي، أما الوحوش فهي تمثلات خارقة لقوة فوق بشرية. ملائكة شنتوت تتسم بسمة بشرية، فهي قد لا تطير وتظهر أجنحتها مغلقة، بل مهملة، وعريها لا يحيل إلى جنس معين، هي لا تلتفت إلى المشاهد وتبدو مشغولة بترتيب المشهد الذي تنتمي إليه، مستقلة عن الفنان، وكأنها تقوم بمهمة جسيمة، لكن ما تفعله ليس سوى الوجود، تؤكد دون جهد أنها حقيقية، إنها كملائكة ريلكه، صور ذهنية متعالية، لكنها واقعية تماماً، فهي بعد نفسي، لأخلاقية فوق الاستطاعة، وتصالح لا يمكن أن يتم إلا على أرض الجمال بين الإنسان وصورته الإلهية.
لم يعنَ شنتوت بالشياطين والوحوش، فقد طرد شياطينه ووحوشه مبكراً، رغم أن بعض الأعمال التي تمثل الفنان والتي تتميز بوجه متطاول، لشخص يرتدي عباءة بياقة خلفية عريضة، والمصورة بألوان داكنة قد تحيل إلى مفيستوفيليس شيطان »فاوست« غوته، خصوصاً عملاً يظهر فيه (الشخص) أو بطل هذه الدراما الشخصية برفقة نسر، لكن لو دققنا النظر لوجدنا أن هذه الشخصيات تتسم بالسخرية، أو بشعور غامض بالقوة أكثر مما تمثل شراً. (سنرى هذه الروح لاحقاً في أعمال الفنان سبهان آدم)، ومصدر النسر الضخم هو نسر محنط، في مرسم الفنان، فالمشهد المرئي يدخل في معمل إبداعي ليظهر لاحقاً على هيئة مجاز، وهذه الشعرية هي جزء من الأسطورة الذاتية، ففي المستوى الفني تتحول مواد السيرة والحياة اليومية إلى مطلق.
جداريات
من أعمال يهيمن عليها النور، وتتقلص الظلال، نصل إلى أعمال أخرى تسيطر عليها الظلال الغامقة، وينبلج الضوء على شكل فجوات تحيط بالشخوص المصورة، كأنها شموع في كهف، تظهر رسوماً دقيقة ملونة كأنها مرسومة على الجدران، والفنان الذي اهتم بالتصوير الجداري، وقدم في معارضه أعمالاً ضخمة معالجة بألوان ترابية ومواد طبيعية، يبدو هنا مستلهماً أعرق فنون التصوير من رسوم الكهوف لدى الإنسان القديم، إلى جداريات الحضارات الشرقية. العلاقة مع التراث كانت لدى شنتوت أصيلة على الدوام، فهو لم يتورط في تنظيرات للوحة عربية مفترضة، تتناسى السياق التاريخي الذي ينتج فيه الفنان، لقد أنجز رواد الفن التشكيلي العربي المهمة، وصنع خلال نصف قرن تاريخ للوحة العربية، أما المغامرات الحروفية والزخرفية التي تجعل من فن الخط العربي، فناً عربياً وحيداً، ووفق قراءة غربية أساساً هي التجريد، والنزعات الإحيائية للتراثات الشرقية القديمة، الملتبسة بخطابات سياسية، فلم يكن مما يعني فناناً لم يكن مشغولاً بإعادة اختراع العجلة، فهنا والآن، أصبحت اللوحة معطى مقبولاً ومتعارفاً عليه. التقنية أي الأدوات، والتجربة الذاتية، هي أولويات المبدع، حكايته الفريدة، خياراته الجمالية والنفسية، اكتشافاته وتدفقاته الأصيلة، ضمن مرحلة زمنية محددة، هي عصره وحياته، هي ما حدد الصورة التي ظهر عليها عمل الفنان، في تجاهل مدهش للشائع والمتشابه، أو المطلوب. لذلك يبدو عمل حمود شنتوت فريداً في الحركة التشكيلية السورية والعربية، فهو ودون مقدمات ينتمي إلى الفن العالمي. النقد التشكيلي السوري، كان بحاجة باستمرار لذرائع لوضع عمل شنتوت في سياق محلي، فلجأ إلى مقولات من نوع الشمس المضيئة في المشرق في تعارض مع المناخات الرمادية في الغرب، خاصة أنه يتعامل مع فنان يركز على التعارضات الضوئية والكونتراست. ورغم ما يتمتع به المشهد الشرقي من نور مبهر نهاراً، وليل شديد الظلمة بسماء صافية ليلاً، إلا أن الظلام والنور الداخليين، هما المصدر، فشنتوت استمر برسم مناظر مظلمة حتى بعد عودته إلى الوطن، والضرورات الجمالية والتشكيلية لطالما حددت أيضاً خياراته اللونية. فهو انتقل من ألوان كامدة محدودة نحو ألوان أكثر غنى وتنوعاً، وتزامن نجاحاته الفنية والاجتماعية وتحققه الإبداعي والعاطفي، أثر في تلك الانتقالات.
تسود في الأوساط الثقافية أحكام متسرعة حول عمل المبدع، فمن الشائع القول في دمشق إن أعمال شنتوت الأولى هي الأفضل، ربما لحدتها التعبيرية وارتباطها بالمعاناة، وقد شاء كثيرون أن يتوقف الفنان عند تلك المرحلة، لأنهم عجزوا عن اللحاق باقتراحاته المتجددة، اتهمه البعض بتكرار موضوعاته، وفق نظرة سطحية، تصنف العمل تبعاً لموضوعه لا للكيفية التي قدم بها، لا ينفي شنتوت أنه يكرر موضوعاته، وما الضير في ذلك، فالموضوعات محدودة أصلاً وفي أي فن من الفنون، كما أن الكثير من الفنانين المعروفين، يعملون سنوات طويلة على موضوعات متشابهة، لكن قلّما يقف المتابعين على الفروق الدقيقة بين عمل وآخر في طرح الموضوعات نفسها. وفنون كالتشكيل والموسيقا تهتم بمعانٍ عامة، إنسانية وأبدية، لكن ما يميز عملاً عن آخر هو تلك الفرادة الذاتية، والإضافة الشكلية. بالمقابل ترى وجهات نظر أخرى أن أعمال شنتوت الأخيرة لا يجمعها أسلوب، في تناقض مع مقولة التكرار، نعم لقد جرب الفنان أساليب مختلفة، لكن ضمن خط ناظم، فلوحته يمكن تمييزها بسهولة، بل هو من بين قلة من المصورين السوريين ممن يمكن القول إنهم يملكون لغتهم الخاصة، تطورات شنتوت تبدو طبيعية بقدر ما هي مدهشة، فهو لم يصب بالعقم ولم يتوقف عند مرحلة محددة، رغم ما قوبلت به بعض مراحله من ترحيب، كان استجابته لهواجسه الداخلية ولبحثه الفني هي همه الأساسي لا إرضاء الآخرين من نقاد ومقتنين.
تأثرات
كما كان حمود شنتوت مؤثراً، فإنه قد كانت له تأثراته، لكن على نحو أبعد ما يكون عن المباشرة، كما أن عائلته الفنية إما أنها لم تكن تتكون من فنانين معاصرين، أو لم تكن من فنانين حاضرين بقوة في الخطاب الثقافي حينها، ويبدو أنه كان يبحث عمن يشبهونه أكثر منه كان يفتش عن مصادر، وشنتوت يبدي إعجاباً كبيراً بعمل الفنان البريطاني فرنسيس بيكون، لكننا لن نلمس له أثراً واضحاً عليه، بالمقابل لا يخفي ولعه بفناني مدرسة فيينا النمساويين ككليمت وإيغون شيله، وقد جذبه لدى الأخير رهافة الخطوط والموضوعات البشرية المحملة بتعبيرية نفسية عالية، والمصورة في المدينة التي شهدت ولادة التحليل النفسي، وقد صوره شنتوت نقلاً عن صورة فوتوغرافية يظهر فيها نائماً. أما فخامة وأبهة أعمال غوستاف كليمت، التي لم تجعلها موضوعاتها تحمل صفة التشكيل الأدبي، فقد اقترب منها بطريقته الخاصة. فالأساليب الواقعية التي نفذت بها أجزاء من لوحات كليمت لم يعرفها شنتوت، والإفراط الزخرفي الذي عرفه عمل المعلم النمساوي صاحب »القبلة« لم يبالغ فيه الفنان السوري ليصل إلى ذلك الحد، هذا إضافة إلى كثافة تلك الأعمال ومساحاتها المسمطة. الوجوه المتطاولة لدى شنتوت كثيراً ما أحيلت إلى جياكوميتي، النحات السويسري الذي أنجز عدداً من أعمال التصوير، لكن مصدراً محلياً (إن شئنا ألا نؤكد على المصدر الذاتي)، هو التماثيل الفينيقية، يتم تناسيه (مارس شنتوت النحت على نطاق محدود)، فيما يربط الفنان بين تطاول الوجه وبين صفة النبل. ونجد هذه الوجوه المتطاولة لدى اليوناني الإسباني العظيم إلغريكو من عصر النهضة، الذي نشأ مصوراً للأيقونات البيزنطية، وهو أيضاً فنان رسم المناظر والموضوعات الدينية مازجاً أحياناً بين الاثنين، وأنجز عدداً من اللوحات الشهيرة عن الملائكة، وكان مجدداً كبيراً في معالجته للضوء، وفي غرابة موضوعاته. (يشير شنتوت إلى كتاب كازنتزاكيس »تقرير إلى غريكو« كأحد كتبه الأثيرة). وإن كنا قد ذكرنا المعلم الهولندي رامبرانت، وفرادة منجزه العظيم في التعامل مع الظل والنور، هذه العلاقة التي سيمنحها شنتوت غير المحكوم بموضوعات أو قوانين واقعية المزيد من الإيقاع، فإننا قد ذكرنا أيضاً فان غوخ ومناظره الطبيعية الانفعالية، التي تتخذ لدى شنتوت المزيد من الهدوء والسلام، وقد وجّه شنتوت في عمله تحية لفان غوخ بإعادة اكتشاف موضوع أزهار عباد الشمس الذي قدمه في عدد من الأعمال، كما صور نفسه في بورتريه ذاتي يعتمر قبعة من القش ويقف أمام حامل اللوحة، في استعادة لعمل مماثل للهولندي الكبير، كما أعاد تصوير غرفة فان غوخ الشهيرة، وشنتوت فنان بقيت »غرف الروح« إحدى موضوعاته الأساسية، وإعادة تقديم عمل بارز في تاريخ الفن أمر شائع مارسه كبار كبيكاسو وماتيس. الفرنسي أوتريللو خريج المصحات العقلية، الذي رسم برهافة مدهشة وبسكونية ميتافيزيقية البيوت والمباني والشوارع، كان أيضاً أحد اكتشافات شنتوت. أما الإيطالي موديلياني الذي شكل حالة شديدة الخصوصية في الفن الغربي الحديث، والذي انحصر عمله تقريباً في البورتريهات والعاريات فإنه يشبه شنتوت في مغايرته لسياق سائد وفي اعتماده أدوات قد تبدو تقليدية، وفي تكراريته، وفي تأكيده على الأعين المغمضة أو الفارغة لأشخاصه. ويلحظ في من أشرنا إليهم من الفنانين العظام، ذلك التقاطع بين الهم الفني التشكيلي، والنوازع الروحية والنفسية. إن إحالة شنتوت إلى أعمال عظيمة وفنانين عظام تظهر أنه يتعامل معهم من موقع الصداقة الروحية والندية، ويعكس ذلك ثقة عالية بالنفس وبنظرة الفنان إلى إبداعه.
وامتلك شنتوت نظرة شاملة في مرجعياته، فإنه أيضاً ابتعد من الإمكانيات المألوفة للمواد الشائعة، فلم يستعمل في مراحل نضجه وبعد إدراكه للمزيد من أسرار المواد، تلك الألوان المطروحة في الأسواق التي يستعملها الجميع، بل صنع ألوانه بيديه من الترابات المحلية ومزجها وفق تقنيات مغرقة بالقدم تعود إلى عهود الفراعنة، باستخدام الشمع والبيض، استعمل في العمل نفسه ايضاً ألوان الزيت والأكريليك وقلم الفحم، أدخل المواد المختلفة إلى سطح اللوحة كقصاصات الصحف والمناديل الورقية لتشكل جزءاً من نسيجها، ولم يكن ذلك نوعاً من الكولاج الذي وظفه هو الآخر في بعض الأعمال. حرص شنتوت ورغم فخامة أسلوبه الأخير على الهروب من الالتماعات المبتذلة للألوان الزيتية، وبدا أميل إلى أعمال أشبه بالرسم الجداري (الفريسك). وولعه بالتجريب وحس معلم الحرفة الذي يمتلكه قاده إلى التعامل مع سطوح جديدة، فرسم على الخشب بدل القماش (منها بارافان شهير جمع بين موضوع العاريات والموسيقا)، وحوّل أبواباً قديمة إلى مزيــج من التصوير والنحت الجداري (الرولييف)، رسم عــلى الزجاج، وعلى الآنية الخزفية (بل إنه شغّل فرناً للخزف في مرسمه في وقت من الأوقات). ورغم قلــة الأعمــال النحتية التي أنجزها إلا أنها تملك علاقــة فريــدة مــع عمـله التصويري، فتبدو هذه المنحوتات وكأنـها خرجت من اللوحات وتجسدت.
الخارج أو المنظر، لم يعد موضوعاً يتطلب السيطرة عليه، فإرادة الفنان جعلته قادراً على اللعب بالمشهد كما يشاء، وتجربة طويلة وغنية، مكنته من التنقل بين الداخل والخارج، النفسي والواقعي، المتخيل والحقيقي. الخبرة حولت الموضوع الواقعي إلى تفاصيل محفورة في الذهن لا تستدعي نقلاً، والتجربة الحياتية منحت الجرأة لهدم الموضوع وبنائه بحرية. حس التسلية والعمل من أجل اللذة، أعطى الفرصة لتحقيق أعمال هي غاية في ذاتها لا تحيل إلى مرئي، ولا تنطلق من مأزق شعوري. لم يعد شنتوت فنان المعاناة بل فنان المتعة، هذا المعنى المشتهى، الذي ندينه حين لا نستطيعه. لا يتوقف شنتوت الذي يرسم كما يتنفس، وهو يملك الوعد باكتشافات جديدة، تخصه وحده، ففنان محترف لا يلتفت إلا إلى عمله، رغبته الجامحة بالقول الفني، وصناعة أسرار وروائع. نفذت الأعمال العظيمة في تاريخ الفن بناءً على رغبة الملوك والأمراء الحماة والرعاة، لكنها كانت بنظر مبدعيها سعياً وراء الإعجاز، ومغامرة جسورة لاجتراح الأعاجيب، وترك ألغاز ستبقى أجيال حائرة في محاولة فهمها، رغم أنها تثمن عالياً بالبداهة. لم يعد من داخل وخارج، فالخارج أصبح متخيلاً تماماً، والداخل صريحا وواضحا، صراحة النور وأبهة الضخامة. لكن الخارج المتخيل هو المرئي بعين الذات المنتصرة، وهو حقيقي، والداخل لا يعاني هنا كبتاً أو عجزاً. إنه التنزه في الخلود، والتمشي في المساحات الفردوسية الرحبة.
يقول نورثروب فراي »الفن صامت بينما النقد يستطيع أن يتكلم«، وكيف إذا كنا نتعامل مع أشد الفنون صمتاً، وفي سياق حضاري للغة فيه سطوة تكاد تكون تخديرية. كانت ريشة حمود وسيلته في مخاطبة العالم، وهذا الفنان الصموت لم يعتد أن يبرر فنه في المحافل العامة، كما لم يمارس الكتابة كالعديد من الفنانين النقاد، الذين فرضت سمعتهم النقدية والصحافية اهتماماً بفنهم. لغة شنــتوت البسيطة في التعبير الكلامي ناتجة من غزارة إبداعيــة تشكيــلية لم تبق للكلمات لديه متسعاً، إنه يقول الكثير في لوحــته، لكن حالة ثقافية كسولة كانت تنتظر دوماً من يزودهــا بالمفاتيــح أو الكلــيشيات، وتبحث عن سياقات من خـارج التشكيل لتضع فناناً في مكان ما وتمنحه مكانة.
هذه الســطور محاولــة لتجديد الاهتمام بفنان كبير لا يختلف أحد على مكانــته، لكن تكريسه، أوقف محاولات متجددة لمقاربة عمله، وحضــوره الدائــم تبعاً لغزارة إنتاجه وكثرة معارضه، جعل الاهتمام ينصب على الظواهر الجديدة، التي تضم تجارب أصيلة وأخرى متواضعة لا تزيد عن صرعات. كتب الكثير عن شنتوت، لكن قلما تم التعامل مع تجربته ككل متكامل وكتجربة مستمرة. وأعمال هذا المعرض الكبير الجديد مناسبــة للوقــوف الجاد على ما آل إليه عمل الفنان، فالفرح والخفة، البهاء والفخامة، الاكتمال والنضج، ليست بالضــرورة أن لا تشــكل محفزات لنقد لا ينطلق إلا من الأزمــة، ويجد مشــكلة مع الثــراء والبذخ الفني، فهذا الفنان يبدو مهتماً اليوم بمدى أوســع، والحس الجمالي البحت الذي يقدمه هو ارستقراطية فنية، تسـتدعي تعاملاً أكثر تحضراً.
منار ديب
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد