23-03-2009
هل يطيق الشعر احتفال يوم وماذا يغدو في بقية الأيام؟
هل علينا أن نحتفي بالشعر في يومه فقط؟ يبدو السؤال صعباً، بمعنى من المعاني، على الذين «تورطوا» في هذه المسألة، بمعنى أنهم خصّوا وجودهم بهذا «الحيّز المدهش» الذي نذروا له كلّ شيء. فالشعر بالنسبة إلى كثيرين ممن يكتبونه ليس مناسبة سنوية، ينتهي بعدها «الاحتفال» ويعودون، من ثم، إلى بيوتهم. بل هو «مناسبة» مستمرة، دائمة، لا تتوقف لحظة. بهذا المعنى، يبدو الشعر، بالنسبة إليهم، وكأنه «العيش في الشعر»، فيما لو استعرنا عبارة الشاعر الفرنسي يوجين غيوفيك، الذي لخص علاقته بالكلمة الشعرية، بهذه الطريقة. فالشاعر الذي كتب الأشياء، كان يعتبر أن الشعر هو طريقة حياة، لا نستطيع اختصارها بلحظة معينة.
ما يدفعنا إلى هذا السؤال مجدداً، مرور ـ منذ يومين ـ «اليوم العالمي للشعر»، وهو اليوم الذي أعلنته منظمة اليونسكو منذ أعوام عديدة. ربما كان في إعلان اليونسكو يومها، رغبة «في تقليل هذه الحصة المظلمة من الحياة» التي نعيشها، أي في إعادة بعض ألق مفقود لفن أساسي، يذهب حالياً في نوع من الغياب، أقصد أنه يبدو عند عديدين وكأنه يفقد حضوره الكبير الذي كان يعرفه في الحِقَب الماضية. لكن هل هذا صحيح؟
على الرغم مما نقوله ونستعيده، في أحاديثنا اليومية، عن أزمة الشعر إلا أن شيئاً واحداً لا بدّ أن نلحظه من دون مواربة: لم يتوقف الشعر يوماً عن أن يكتب نفسه. لم يتوقف الشعراء أيضا عن تأكيد حضورهم في «المدن» أيّ لم يتوقفوا عن الكتابة. لذلك قد تبدو أقاويلنا بمثابة اختراع أوهام وأزمات، من حيث أن الواقع ـ واقع الشعر ـ لا يبدو على هذه الدرجة الكبيرة من اليأس مثلما يتمّ تصويره.
مهما اختلفت التسميات والتوصيفات، يبقى الشعر بالنسبة إلى كثيرين من «صُنّاعه» و«أبطاله» بمثابة مجال حيوي يتنفسون في داخله ومن داخله. لكن المناسبة تقتضي سؤالاً عنه، من هنا توجهنا إلى بعض الشعراء بالسؤال التالي: «منذ سنوات أعلنت اليونسكو يوم 21 آذار (مارس) من كلّ عام، اليوم العالمي للشعر. كشاعر ماذا تعني لك هذه المناسبة؟».
يبدأ الشاعر البحريني قاسم حداد كلامه بالقول: «لا أخفيك، بالنسبة إليّ، لم يعد كافياً الشعر، يومياً، طوال أيام السنة، واقتراح اليونسكو 21 مارس هو سعيّ منها لتذكير أصحاب النسيان بأن ثمة الشعر في الحياة». ويمضي متابعاً: «والحق، أن الأمر كما أراه، مثل المثل القائل (من في قلبه الصلاة لا ينساها). الشعر هو أيضاً ضربٌ من الصلاة، تذكير الناس به عبثٌ لا طائل منه». ومع ذلك يجد حداد: «غير أن مناسبة 21 مارس أصبحت تقليدا (تقليديا)، يناسب أصحاب المشاريع الموسمية، يوفرون مناخا لالتقاء الشعراء كل مرة في مكان من العالم، ولا ضير أن يحضر هذا (اللقاء) من تروق له المناسبة من الآخرين، حين لا يكون لديهم ارتباط آخر».
الإفراط في الفرح
من جهته يرى الشاعر السوري عابد إسماعيل: «لا أعلم لماذا يجعلني هذا اليوم أشعر بالقشعريرة. أرتجفُ من فكرة تحويل الفنّ إلى سلعة، إلى شعار، إلى إعلان؛ وما بناءُ سفارة أممية، رسمية، للقصيدة، سوى مقدّمة لطرد الشّعر من منفاه الأزلي: العراء. هذا الاحتفال يخفي نقيضه، بالنسبة إلي. ربمّا أجد فيه نعياً مبكّراً للفنّ كحالة جمالية صرفة، ينبغي أن تغوينا بالتأمّل وليس الهتاف، الكآبة وليس التصفيق. ثمة من يؤبّن الشعر، ويكفّنه، ويعقّمه، ويقتادُهُ إلى المتحف. هذا الإفراط في الفرح، في الديكور، في المناسبة، ليس سوى تمهيد لدفن سرّي. كيف يمكن للقصيدة أن تحيا خارج عزلتِها، وأن تتكلّمَ خارج صمتِها، وأن تعشق وتكره وتحلم، خارج تشرّدها وتسكّعها؟ لماذا هذا الإصرار على ترويض ما لا يُروّض؟».
بهذا المعنى يرى إسماعيل «قد يأتي الشّعر، في كلّ يوم، إلاّ في يوم الشعر؟ يأتي حرّاً، مباغتاً، غامضاً، من جهة النسيان المطلق، من ذاكرة الموتى التي تكبر وتتّسع في كلّ لحظة، وتسبقنا إلى غدنا. وماذا يبقى من قصيدة أُلقيت على منبر سوى صليل الحروف، وشظايا القافية، ونثرات المشاعر؟ أليست القصيدة، كالكينونة ذاتها، مجازٌ قائمٌ على مجاز. لماذا هذا الإصرار على فضح المجاز، وابتكار دلالة أزلية لكلّ ومضة عابرة. لماذا تلك الشهوة في ردم كلّ فجوة، وملء كلّ فراغ، وتفكيك كل هفوة، واعتقال كلّ شرود؟ في يوم الشعر ندجّن القصيدة، ونستدرجها إلى فخّ الشّرح، ونحوّلها إلى ملصق فحسب. أليس من الأفضل أن تظلّ القصيدة، عصيةً على التدجين، والترويض، والتشيؤ، وأن لا تُستدرج إلى غريزة الاستهلاك التي تغزو عصرنا».
ويختم الشاعر عابد إسماعيل فكرته بالقول: «أتذكّر في هذا السياق أستاذي في مادة الشّعر، الناقد الأيرلندي المعروف دينيس دونهيو، حين كان يردّد على مسامعنا، نحن طلابه في جامعة نيويورك، جملةً أضحت أشبه باللاّزمة، في كلّ مرّة كان يقرأ فيها مقطعاً من الأرض (الأرض الخراب)، ويصطدمُ بغموضه الخلاّق: «وماذا يضيرُ أن تكون النهايةُ هي الصّمت؟». حقاً، ماذا يضيرُ الشعر أن يظلّ منفياً، متوحّشاً، ملعوناً، مصنوعاً من النسيان فحسب، ودائماً ضدّ غريزة الكرنفال!».
لا تخفي الشاعرة اللبنانية آمال نوار «توترها» أمام «المناسبة»، إذ تبدأ إجابتها بالقول: «لا أعرف منذ متى فقدت إيماني بصدقية المناسبات التكريمية الخاصة والعامة على اختلاف أنواعها، وألفيتني أشكّ بمدى فاعليتها وجوهرية مغزاها وطبيعة تأثيرها، لكي لا أقول كم باتت مضجرة بالنسبة إليّ ومُفبركة وذات بُعد دعائي، ادّعائي واستهلاكي. وأحسب أن الفرق بين احتفالية وأخرى هو اختلاف في منسوب الضجر، أكان الاحتفاء بمولدي مثلاً أم الأم أم الشجرة أم الشعر أم غير ذلك. ولكي أبقى في الشعر تحديداً لأن لكل مناسبة حيثياتها الخاصة في طريقة تلقّيها، أشعر أن يومه العالمي أشبه (عذراً) بعظمة تُرمى لكلب شريد جائع وبلا كلبة. عظمة ليوم واحد تتكفّل بعُقَد ذنوب فاعلي الخير كلها، وتقيهم وطأة الشعور بالمسؤولية لبقية أيام السنة».
وبما أن السؤال هو سؤال الشعر ترى نوّار «نحن في زمن، الشعر فيه يعيش في عزلة وكآبة، وليس من يحميه من وحشته، لا يوم عالميا أو كونيا، ولا بيوت للشعر، ولا مهرجانات ولا فعاليات، إن لم يجد قلوباً تحميه. لا أقول بموت الشعر بالطبع، فهو في أصل الوجود، وسؤاله سؤال الذات في مقام الحيرة والصحو، ولكني أراه متراجعاً أمام ما يسود حياتنا المعاصرة من أزمات اجتماعية وسياسية واقتصادية وسيكولوجية، ناهيك عن كلّ الكلام الرائج عن التأثيرات السلبية التي خلّفتها فيه الطبيعة المادية والاستهلاكية للعصر والتطور التكنولوجي والعولمة وما إلى ذلك».
أمام هذا الأمر ترى الشاعرة اللبنانية «أنّ ثمة مَنْ يريد أن يردّ للشعر اعتباره، لكنّ قيمة الشعر لا تُختزل بيوم تكريم وزينة وجماهير وتهريج، ثم وكان الله يحبّ المحسنين! لا بدّ من منهج مدروس ومتكامل يأخذ على عاتقه إعادة فتح قنوات للشعر في تواصلنا وحوارنا اليومي مع أنفسنا والآخر. يوم الشعر في بلادنا يتمثّل بوقوف أحدهم على المنبر ليُسَمِّي الشعر ملاكاً كونياً، من خلاله تتواصل الشعوب والحضارات، وتتغلّب على تناقضاتها، وصراع ثقافاتها وأديانها، وليُعْلِنَه خطاباً إنسانياً عميقاً ولازباً لتحقيق الوعي الجماعي واكتشاف الذات والوجود».
وبما أن «لا خلاف على ما سلف، سوى أني أتساءل هل استطاع أولئك الذين يقفون ويُكرّمون ويحتفون أن ينصاعوا للشعر لا للأشخاص والمحسوبيات والمصالح والكذب والنفاق؟! أتساءل ماذا عساهم أن يفعلوا، مذ قالوا إنهم سيفعلون، للشعراء المهمّشين في يوم الشعر العظيم؟! هل أخرجوهم للضوء؟ هل طبعوا لهم كتباً؟ هل وهل وهل؟ للأسف، المشهد أمامنا هو نفسه يتكرّر في كل يوم تكريم. الاحتفالات تقام بالأسماء نفسها والوجوه نفسها والأقنعة نفسها والجيوب نفسها والاعتبارات نفسها، تقام لتكرّس المكرَّسين وتهمل المهمَلين. لهذا يا عزيزي اسكندر، أنا لا أبالي بيوم الشعر العالمي ولا المحلي، ولا بكل التسميات التي تخلط المُطلق بالزمني. يوم الشعر بالنسبة إليّ هو كل يوم أكتب فيه قصيدة أو أعيشها. الغريب أن فكرة أخرى تساورني الآن: الشعر شيء جوّاني وخاص وحميم، فهل يجوز الاحتفاء به في الضوء؟! ولكن مهلاً، بمن عساهم يحتفون حقاً بالشعر أم بالشاعر»؟!».
أسئلة تقريعية
يربط الشاعر السوري خضر الآغا، في مستهل كلامه، مناسبة اليوم العالمي للشعر بمناسبة عيد الأم، فيقول: «تعلم أنّ هذه مناسبة اليوم العالمي للشعر متزامنة مع مناسبة عيد الأم (21 آذار). في مثل هذا اليوم من كلّ عام أشعر، استناداً إلى ما يبثه التلفزيون العربي ـ السوري خصوصاً، أنني مجرم من النوع الذي لا أمل في إصلاحه بحق أمي، وأسأل نفسي أسئلة تقريعية، مثل: لماذا أنا عاق وسيئ هكذا؟ لماذا لا أبقى طيلة السنة في حضنها، أضمها وأبكي وأعترف لها بجميل ولادتي والاعتناء بي منذ كنت جنيناً إلى هذا اليوم، وقد بلغت من العمر عتياً؟ وأبقى طيلة هذا اليوم من كلّ عام أشعر بتبكيت قوي للضمير... وهكذا. وخلال العام كله أشعر أنني لا أفعل شيئاً سوى أنني مثل كل البشر (تقريباً) أحب أمي على الدوام. أكثر من هذا، إن صديقاتي يقلن لي إنني أحب المرأة التي تشبه أمي... مع هذا يحدث لي ما يحدث في عيد الأم من كل عام».
ويمضي الآغا بالقول: «وفي هذا اليوم من كل عام، وضمن ضغط الضمير والضغط النفسي الذي أعيشه، ينزاح هذا الشعور إلى الشعر (ليس لتزامن المناسبتين فحسب، بل، ربما، لتشابه الحالتين: الأمومة). أشعر أيضاً أنني مجرم بحق الشعر: ماذا أضفت إليه؟ ماذا منحته؟ هل قمت بتغيير مناخاته؟ هل صنعت أو شاركت بصنع تاريخ له؟ إلى ما هنالك... مع إنني خلال العام كله، وبدون أية مناسبة، لا أفعل سوى أن أقرأ الشعر، وأوالي حبه، وأتغير باطراد مع قصائد معينة، حتى إن قصيدة أو جملة شعرية واحدة قادرة على تغيير حتى سلوكي اليومي، فأغير ملابسي وتسريحة شعري وطريقتي في الأكل والسير والحب... كل ذلك بقصيدة أو جملة شعرية واحدة. قبل إعلان اليونسكو، كنت على علاقة وثيقة بهولدرلين ولوركا وإيف بونفوا والمتنبي والمعري وشعراء الأرض... ولم أزل، بعد إعلان اليونسكو، على علاقة وثيقة معهم ومع شعراء الأرض. ربما يكون ما فعله إعلان اليونسكو يشبه أن تضع كرزة حمراء جانب شفتين أنهتا، للتوّ، تقبيلك».
الشاعرة اللبنانية ريتا بدورة (تكتب بالفرنسية) تحاول أن تلتف على السؤال بالقول: «آذار ٢٠٠٨. كنتُ في برلين للمشارَكة في يوم اليونسكو العالمي للشعر الذي ضمّ شعراء من شتّى الجنسيّات والأجيال. أتت كارولين، وهي فنّانة صديقة، من باريس لمشاهدة أدائي واكتشاف العاصمة الألمانيّة. حين فوجئت بالحشد البارز على مدخل «ماكس ليبرمان هاوس»، سألًت إذا كان سببه أهميّة الشعراء المدعوين أو شغف الشعب الألمانيّ بالشعر. فقيل لها: الشغف هو السبب».
ربما هذا ما تبقى لنا اليوم. كتابة الشعر، هي هذا الشغف الذي لا يزال يمكن له أن يسيرنا. بيوم عالمي أو بدونه. هو ـ كما قلنا ـ قد يكون حياة كاملة بالنسبة إلى كثيرين منّا.
ما يدفعنا إلى هذا السؤال مجدداً، مرور ـ منذ يومين ـ «اليوم العالمي للشعر»، وهو اليوم الذي أعلنته منظمة اليونسكو منذ أعوام عديدة. ربما كان في إعلان اليونسكو يومها، رغبة «في تقليل هذه الحصة المظلمة من الحياة» التي نعيشها، أي في إعادة بعض ألق مفقود لفن أساسي، يذهب حالياً في نوع من الغياب، أقصد أنه يبدو عند عديدين وكأنه يفقد حضوره الكبير الذي كان يعرفه في الحِقَب الماضية. لكن هل هذا صحيح؟
على الرغم مما نقوله ونستعيده، في أحاديثنا اليومية، عن أزمة الشعر إلا أن شيئاً واحداً لا بدّ أن نلحظه من دون مواربة: لم يتوقف الشعر يوماً عن أن يكتب نفسه. لم يتوقف الشعراء أيضا عن تأكيد حضورهم في «المدن» أيّ لم يتوقفوا عن الكتابة. لذلك قد تبدو أقاويلنا بمثابة اختراع أوهام وأزمات، من حيث أن الواقع ـ واقع الشعر ـ لا يبدو على هذه الدرجة الكبيرة من اليأس مثلما يتمّ تصويره.
مهما اختلفت التسميات والتوصيفات، يبقى الشعر بالنسبة إلى كثيرين من «صُنّاعه» و«أبطاله» بمثابة مجال حيوي يتنفسون في داخله ومن داخله. لكن المناسبة تقتضي سؤالاً عنه، من هنا توجهنا إلى بعض الشعراء بالسؤال التالي: «منذ سنوات أعلنت اليونسكو يوم 21 آذار (مارس) من كلّ عام، اليوم العالمي للشعر. كشاعر ماذا تعني لك هذه المناسبة؟».
يبدأ الشاعر البحريني قاسم حداد كلامه بالقول: «لا أخفيك، بالنسبة إليّ، لم يعد كافياً الشعر، يومياً، طوال أيام السنة، واقتراح اليونسكو 21 مارس هو سعيّ منها لتذكير أصحاب النسيان بأن ثمة الشعر في الحياة». ويمضي متابعاً: «والحق، أن الأمر كما أراه، مثل المثل القائل (من في قلبه الصلاة لا ينساها). الشعر هو أيضاً ضربٌ من الصلاة، تذكير الناس به عبثٌ لا طائل منه». ومع ذلك يجد حداد: «غير أن مناسبة 21 مارس أصبحت تقليدا (تقليديا)، يناسب أصحاب المشاريع الموسمية، يوفرون مناخا لالتقاء الشعراء كل مرة في مكان من العالم، ولا ضير أن يحضر هذا (اللقاء) من تروق له المناسبة من الآخرين، حين لا يكون لديهم ارتباط آخر».
الإفراط في الفرح
من جهته يرى الشاعر السوري عابد إسماعيل: «لا أعلم لماذا يجعلني هذا اليوم أشعر بالقشعريرة. أرتجفُ من فكرة تحويل الفنّ إلى سلعة، إلى شعار، إلى إعلان؛ وما بناءُ سفارة أممية، رسمية، للقصيدة، سوى مقدّمة لطرد الشّعر من منفاه الأزلي: العراء. هذا الاحتفال يخفي نقيضه، بالنسبة إلي. ربمّا أجد فيه نعياً مبكّراً للفنّ كحالة جمالية صرفة، ينبغي أن تغوينا بالتأمّل وليس الهتاف، الكآبة وليس التصفيق. ثمة من يؤبّن الشعر، ويكفّنه، ويعقّمه، ويقتادُهُ إلى المتحف. هذا الإفراط في الفرح، في الديكور، في المناسبة، ليس سوى تمهيد لدفن سرّي. كيف يمكن للقصيدة أن تحيا خارج عزلتِها، وأن تتكلّمَ خارج صمتِها، وأن تعشق وتكره وتحلم، خارج تشرّدها وتسكّعها؟ لماذا هذا الإصرار على ترويض ما لا يُروّض؟».
بهذا المعنى يرى إسماعيل «قد يأتي الشّعر، في كلّ يوم، إلاّ في يوم الشعر؟ يأتي حرّاً، مباغتاً، غامضاً، من جهة النسيان المطلق، من ذاكرة الموتى التي تكبر وتتّسع في كلّ لحظة، وتسبقنا إلى غدنا. وماذا يبقى من قصيدة أُلقيت على منبر سوى صليل الحروف، وشظايا القافية، ونثرات المشاعر؟ أليست القصيدة، كالكينونة ذاتها، مجازٌ قائمٌ على مجاز. لماذا هذا الإصرار على فضح المجاز، وابتكار دلالة أزلية لكلّ ومضة عابرة. لماذا تلك الشهوة في ردم كلّ فجوة، وملء كلّ فراغ، وتفكيك كل هفوة، واعتقال كلّ شرود؟ في يوم الشعر ندجّن القصيدة، ونستدرجها إلى فخّ الشّرح، ونحوّلها إلى ملصق فحسب. أليس من الأفضل أن تظلّ القصيدة، عصيةً على التدجين، والترويض، والتشيؤ، وأن لا تُستدرج إلى غريزة الاستهلاك التي تغزو عصرنا».
ويختم الشاعر عابد إسماعيل فكرته بالقول: «أتذكّر في هذا السياق أستاذي في مادة الشّعر، الناقد الأيرلندي المعروف دينيس دونهيو، حين كان يردّد على مسامعنا، نحن طلابه في جامعة نيويورك، جملةً أضحت أشبه باللاّزمة، في كلّ مرّة كان يقرأ فيها مقطعاً من الأرض (الأرض الخراب)، ويصطدمُ بغموضه الخلاّق: «وماذا يضيرُ أن تكون النهايةُ هي الصّمت؟». حقاً، ماذا يضيرُ الشعر أن يظلّ منفياً، متوحّشاً، ملعوناً، مصنوعاً من النسيان فحسب، ودائماً ضدّ غريزة الكرنفال!».
لا تخفي الشاعرة اللبنانية آمال نوار «توترها» أمام «المناسبة»، إذ تبدأ إجابتها بالقول: «لا أعرف منذ متى فقدت إيماني بصدقية المناسبات التكريمية الخاصة والعامة على اختلاف أنواعها، وألفيتني أشكّ بمدى فاعليتها وجوهرية مغزاها وطبيعة تأثيرها، لكي لا أقول كم باتت مضجرة بالنسبة إليّ ومُفبركة وذات بُعد دعائي، ادّعائي واستهلاكي. وأحسب أن الفرق بين احتفالية وأخرى هو اختلاف في منسوب الضجر، أكان الاحتفاء بمولدي مثلاً أم الأم أم الشجرة أم الشعر أم غير ذلك. ولكي أبقى في الشعر تحديداً لأن لكل مناسبة حيثياتها الخاصة في طريقة تلقّيها، أشعر أن يومه العالمي أشبه (عذراً) بعظمة تُرمى لكلب شريد جائع وبلا كلبة. عظمة ليوم واحد تتكفّل بعُقَد ذنوب فاعلي الخير كلها، وتقيهم وطأة الشعور بالمسؤولية لبقية أيام السنة».
وبما أن السؤال هو سؤال الشعر ترى نوّار «نحن في زمن، الشعر فيه يعيش في عزلة وكآبة، وليس من يحميه من وحشته، لا يوم عالميا أو كونيا، ولا بيوت للشعر، ولا مهرجانات ولا فعاليات، إن لم يجد قلوباً تحميه. لا أقول بموت الشعر بالطبع، فهو في أصل الوجود، وسؤاله سؤال الذات في مقام الحيرة والصحو، ولكني أراه متراجعاً أمام ما يسود حياتنا المعاصرة من أزمات اجتماعية وسياسية واقتصادية وسيكولوجية، ناهيك عن كلّ الكلام الرائج عن التأثيرات السلبية التي خلّفتها فيه الطبيعة المادية والاستهلاكية للعصر والتطور التكنولوجي والعولمة وما إلى ذلك».
أمام هذا الأمر ترى الشاعرة اللبنانية «أنّ ثمة مَنْ يريد أن يردّ للشعر اعتباره، لكنّ قيمة الشعر لا تُختزل بيوم تكريم وزينة وجماهير وتهريج، ثم وكان الله يحبّ المحسنين! لا بدّ من منهج مدروس ومتكامل يأخذ على عاتقه إعادة فتح قنوات للشعر في تواصلنا وحوارنا اليومي مع أنفسنا والآخر. يوم الشعر في بلادنا يتمثّل بوقوف أحدهم على المنبر ليُسَمِّي الشعر ملاكاً كونياً، من خلاله تتواصل الشعوب والحضارات، وتتغلّب على تناقضاتها، وصراع ثقافاتها وأديانها، وليُعْلِنَه خطاباً إنسانياً عميقاً ولازباً لتحقيق الوعي الجماعي واكتشاف الذات والوجود».
وبما أن «لا خلاف على ما سلف، سوى أني أتساءل هل استطاع أولئك الذين يقفون ويُكرّمون ويحتفون أن ينصاعوا للشعر لا للأشخاص والمحسوبيات والمصالح والكذب والنفاق؟! أتساءل ماذا عساهم أن يفعلوا، مذ قالوا إنهم سيفعلون، للشعراء المهمّشين في يوم الشعر العظيم؟! هل أخرجوهم للضوء؟ هل طبعوا لهم كتباً؟ هل وهل وهل؟ للأسف، المشهد أمامنا هو نفسه يتكرّر في كل يوم تكريم. الاحتفالات تقام بالأسماء نفسها والوجوه نفسها والأقنعة نفسها والجيوب نفسها والاعتبارات نفسها، تقام لتكرّس المكرَّسين وتهمل المهمَلين. لهذا يا عزيزي اسكندر، أنا لا أبالي بيوم الشعر العالمي ولا المحلي، ولا بكل التسميات التي تخلط المُطلق بالزمني. يوم الشعر بالنسبة إليّ هو كل يوم أكتب فيه قصيدة أو أعيشها. الغريب أن فكرة أخرى تساورني الآن: الشعر شيء جوّاني وخاص وحميم، فهل يجوز الاحتفاء به في الضوء؟! ولكن مهلاً، بمن عساهم يحتفون حقاً بالشعر أم بالشاعر»؟!».
أسئلة تقريعية
يربط الشاعر السوري خضر الآغا، في مستهل كلامه، مناسبة اليوم العالمي للشعر بمناسبة عيد الأم، فيقول: «تعلم أنّ هذه مناسبة اليوم العالمي للشعر متزامنة مع مناسبة عيد الأم (21 آذار). في مثل هذا اليوم من كلّ عام أشعر، استناداً إلى ما يبثه التلفزيون العربي ـ السوري خصوصاً، أنني مجرم من النوع الذي لا أمل في إصلاحه بحق أمي، وأسأل نفسي أسئلة تقريعية، مثل: لماذا أنا عاق وسيئ هكذا؟ لماذا لا أبقى طيلة السنة في حضنها، أضمها وأبكي وأعترف لها بجميل ولادتي والاعتناء بي منذ كنت جنيناً إلى هذا اليوم، وقد بلغت من العمر عتياً؟ وأبقى طيلة هذا اليوم من كلّ عام أشعر بتبكيت قوي للضمير... وهكذا. وخلال العام كله أشعر أنني لا أفعل شيئاً سوى أنني مثل كل البشر (تقريباً) أحب أمي على الدوام. أكثر من هذا، إن صديقاتي يقلن لي إنني أحب المرأة التي تشبه أمي... مع هذا يحدث لي ما يحدث في عيد الأم من كل عام».
ويمضي الآغا بالقول: «وفي هذا اليوم من كل عام، وضمن ضغط الضمير والضغط النفسي الذي أعيشه، ينزاح هذا الشعور إلى الشعر (ليس لتزامن المناسبتين فحسب، بل، ربما، لتشابه الحالتين: الأمومة). أشعر أيضاً أنني مجرم بحق الشعر: ماذا أضفت إليه؟ ماذا منحته؟ هل قمت بتغيير مناخاته؟ هل صنعت أو شاركت بصنع تاريخ له؟ إلى ما هنالك... مع إنني خلال العام كله، وبدون أية مناسبة، لا أفعل سوى أن أقرأ الشعر، وأوالي حبه، وأتغير باطراد مع قصائد معينة، حتى إن قصيدة أو جملة شعرية واحدة قادرة على تغيير حتى سلوكي اليومي، فأغير ملابسي وتسريحة شعري وطريقتي في الأكل والسير والحب... كل ذلك بقصيدة أو جملة شعرية واحدة. قبل إعلان اليونسكو، كنت على علاقة وثيقة بهولدرلين ولوركا وإيف بونفوا والمتنبي والمعري وشعراء الأرض... ولم أزل، بعد إعلان اليونسكو، على علاقة وثيقة معهم ومع شعراء الأرض. ربما يكون ما فعله إعلان اليونسكو يشبه أن تضع كرزة حمراء جانب شفتين أنهتا، للتوّ، تقبيلك».
الشاعرة اللبنانية ريتا بدورة (تكتب بالفرنسية) تحاول أن تلتف على السؤال بالقول: «آذار ٢٠٠٨. كنتُ في برلين للمشارَكة في يوم اليونسكو العالمي للشعر الذي ضمّ شعراء من شتّى الجنسيّات والأجيال. أتت كارولين، وهي فنّانة صديقة، من باريس لمشاهدة أدائي واكتشاف العاصمة الألمانيّة. حين فوجئت بالحشد البارز على مدخل «ماكس ليبرمان هاوس»، سألًت إذا كان سببه أهميّة الشعراء المدعوين أو شغف الشعب الألمانيّ بالشعر. فقيل لها: الشغف هو السبب».
ربما هذا ما تبقى لنا اليوم. كتابة الشعر، هي هذا الشغف الذي لا يزال يمكن له أن يسيرنا. بيوم عالمي أو بدونه. هو ـ كما قلنا ـ قد يكون حياة كاملة بالنسبة إلى كثيرين منّا.
اسكندر حبش
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد