لينكون في مئويته الثانية : شيء من الحقيقة
ليست القضية في تلميع صورة الرجل أو على العكس تشويهها , بل في استعادة شيئا من الحقيقة التاريخية من أسر الأسطورة التي ارتبطت به , لصالح القوى السائدة , كان فوكو يربط الحقيقة بالسلطة , بل إن السلطة عنده هي إنتاج الحقيقة , هنا نحاول إعادة شيئا من الاعتبار للحقيقة التاريخية , لكن هذه الحقيقة في النهاية ليست محايدة , إنها في حيادها عن السلطة تجد نفسها على الفور إلى جانب ضحاياها , في قصة لينكون الكثير من الأساطير , فالتاريخ قدر له أن يصبح مثالا فعليا و أسطوريا في نفس الوقت لواقع السياسة و المال في الولايات المتحدة , يمثل لينكون إلى حد بعيد حقيقة ذلك الوعد البرجوازي , وعد الطبقة الثالثة , بتحرير "الإنسان" , حيث يتسامى الإنسان بالفعل نتيجة لهذا التسلسل التاريخي لكن تتسامى معه أيضا منظومة التدجين الرسمية و شبه الرسمية , تترقى معه من سوط صاحب العبيد إلى زرع ذلك السوط داخل تفكير الضحايا و تمويهه و تحويله من مصدر للألم و للمعاناة إلى حالة محايدة مزعومة أو حتى مولدة للسعادة الوهمية , من هنا تأتي أهمية أسطورة لينكون التي تصبح بالتالي جزءا من منظومة التدجين و من القصة الرسمية عن تحرير الإنسان , بين دوره "كمحرر للعبيد" إلى انتصاره في الحرب الأهلية الوحيدة في التاريخ الأمريكي , هذا وحده كاف ليضمن له حضور طاغ حتى بعد 200 سنة من ولادته ( ولد لينكون في 19 فبراير شباط 1809 ) , في الحقيقة يمثل لينكون شكلا سائدا من الشخصيات ذات الحضور الطاغي في التاريخ التي تجد نفسها و هي تلهث وراء الأحداث أبعد مما كانت تريد , أبعد بشكل خطير أحيانا , لكنه ضروري , هكذا نجد "أبطالا بالصدفة أو حتى رغما عن أنفهم" , هكذا كان لينكون الذي لم يكن يحلم يوما بتحرير العبيد , و قد فعل هو نفسه كل ما بوسعه ليؤكد هذا على الدوام , كانت القضية المطروحة يومها أصغر بكثير و هي تشريع أو تحريم العبودية في الأراضي الشاسعة الجنوبية الجديدة التي كسبتها الولايات المتحدة بعد هزيمتها للمكسيك في تكساس و كاليفورنيا , كان لينكون يعتبر شماليا معتدلا هنا , و انتخب رئيسا على هذا الأساس في انتخابات 1860 , و كان قد أصبح رئيسا رغم حصوله على 40 % فقط من أصوات الناخبين لأن بقية الأصوات توزعت بين مرشحين منافسين , و عندما بدأت الولايات الجنوبية تنفصل بعد انتخابه كان عليه أن يجد مبررا قانونيا أو دستوريا لإعادتها بالقوة إلى الولايات المتحدة , التي تشكلت بالاتحاد الطوعي بين الولايات الأمريكية , كان عليه أن يعود إلى دستور 1776 الذي توقف العمل به عام 1789 و الذي تحدث عن "الوحدة الدائمة" , فاعتبر أن دستور 1789 هو تطوير لما سبقه , أي لدستور 1776 , و بالتالي ففكرة الوحدة الدائمة ما زالت قائمة , في البداية كان لينكون ميالا للتصالح مع الولايات الجنوبية المتمردة , حتى أنه عرض تعديل الدستور لينص على إلغاء تحريم العبودية في تلك الولايات "إلى الأبد" , دون أن يتنازل عن تحريم العبودية في الولايات الجنوبية الجديدة , لكن الولايات الجنوبية شكلت كونفيدرالية جديدة مؤكدة انفصالها عن الشمال , لكن رأي لينكون فيما يخص إعادة الجنوب بالقوة إلى الاتحاد و تفسيره للدستور لم يكن يتمتع بشعبية كبيرة حتى في حزبه الجمهوري و كان عليه انتظار هجوم الجنوبيين على قلعة سمتر ليبدأ بتحشيد القوات لمهمة إخضاع الجنوب , اختار لينكون أولا الجنرال ماكلينن قائدا عاما لقواته و توقع تحقيق انتصار سريع لتفوق الشمال العددي و الاقتصادي لكن الجنوبيين تمكنوا من اختراق الشمال و ألحقوا خسائر مهمة بقوات الشمال فاستبدله بالجنرال غرانت الذي بدأ يطبق سياسة الأرض المحروقة في الجنوب , ما سمي يومها الحرب الشاملة total war , و في مواقفه أثناء الحرب كان من الواضح لا مبالاته بالضحايا أو بحياة المدنيين أو سلامة المرافق المدنية , و في أيلول سبتمبر 1863 أصدر لينكون القرار الذي لم يفكر به حتى قبل وقت قصير و هو قرار تحرير العبيد على أمل أن يثير العبيد في الجنوب ضد أسيادهم و يضعف اقتصاد خصومه بالتالي , مستثنيا الولايات الجنوبية الأربعة التي بقيت في الاتحاد كالعادة من تحرير عبيدهم , لكن هذا القرار أدى لتصاعد المعارضة ضده في الشمال , إلى جانب الخسائر البشرية و الاقتصادية الباهظة , حيث ساد الانطباع أن الشماليين يقاتلون من أجل الزنوج و ليس من أجل توحيد الدولة , و هنا مارس لينكون , كأي سلطة أخرى , قمعا هائلا ضد كل معارضيه , فكمم الأفواه و أقفل الصحف و سجن الآلاف , حتى أنه في أحد المرات أمر بسجن أعضاء المجلس التشريعي لولاية ميريلاند عندما تناهى إليه أنهم قد يصوتون لصالح الانفصال عن الاتحاد , في 1865 بعد سقوط 600 ألف قتيل و إحراق مدن الجنوب انتهت الحرب الأهلية , لم يتردد لينكون لحظة في التأكيد أنه لم يكن يريد المساواة بين العبيد و أسيادهم و إنما , في أفضل الأحوال , إلغاء الرق من بعض ولايات الجنوب , كانت ضرورة هذا الإلغاء للصناعة الشمالية واضحة تماما , لكن سكان البلاد الأصليين لا يستحقون حتى أن يعملوا كحثالة بروليتاريا في مصانع الشمال النامية , كان يجب سحقهم فقط , الاستيلاء على أراضيهم و إبادة قطعان ثيرانهم البرية , يختلف الهنود الحمر عن السود جدا بهذا المعنى , لم يكن من الممكن لممثل برجوازية الشمال الصناعي أن يبدي أي تعاطف مع قضيتهم , كان عليهم أن يختفوا و حسب , لذلك عندما قامت قبيلة السو الهندية في مينيسوتا بالانتفاض كان رد واشنطن قاسيا , بعد إخماد الثورة بالقوة جرى إعدام 300 من قادتها بأمر مباشر من لينكون , يستحق هذا العمل أن يكون خاتمة لمآثر هذا الرجل , الأب الثاني للولايات المتحدة كما يسمى في التاريخ الأمريكي الرسمي.
مازن كم الماز
الجمل
إضافة تعليق جديد