تأزم الدبلوماسية الإسرائيلية-التركية وتأثيرها على المفاوضات مع سوريا
الجمل: تعتبر سوريا من أكثر بلدان الشرق الأوسط اهتماما بتطورات الأحداث والوقائع الجارية على خط دبلوماسية أنقرا-تل أبيب, ولا يرجع سبب الاهتمام السوري لمجرد قيام أنقرا بالوساطة في مساعي حل الصراع السوري-الإسرائيلي وحسب, وإنما لأن سوريا تمثل بلدا شرق أوسطيا رئيسيا, يهمها أولا وقبل كل شيء متابعة ما يحدث ويجري, وعلى وجه الخصوص في منطقة الشرق الأوسط: فما هي الأزمة الجديدة على خط أنقرة-تل أبيب؟ وما هو شكل السيناريوهات الممكنة الحدوث؟
ماذا تقول السردية؟
تحركت الخارجية الإسرائيلية دون سابق إنذار, وقامت باستدعاء أحمد أوغو سيلكول السفير التركي في تل أبيب, وذلك لاستيضاح وتوبيخ السفير التركي بسبب قيام إحدى المحطات التلفزيونية التركية ببث مسلسل ينتقد الإسرائيليين, حتى هنا, يعتبر الأمر عاديا ومشروعا في الأعراف الدبلوماسية, وقد ظلت كل دول العالم تقوم باستدعاء السفراء الذين في ضيافتها لجهة مطالبتهم بتقديم التفسيرات أو توبيخهم إزاء سلوك بلدانهم, وبالمقابل فإن بلدانهم تستطيع بالمقابل الرد على ذلك بما يحلو لها, بما في ذلك استدعاء سفراء البلدان التي استدعت سفراءها, ولكن, ما هو مثير للانتباه تمثل في الآتي:
•قام داني إيعالون نائب وزير الخارجية الإسرائيلي بشكل فوري ومفاجئ باستدعاء السفير التركي.
•تم إحضار طاقم لتصوير تلفزيوني إسرائيلي كامل مجهز بالكاميرات والمحللين والمحررين
•تم تصوير السفير التركي وهو يجلس لفترة طويلة من الانتظار.
•عندما وصل السفير التركي رفض داني إيعالون مصافحته.
•قام داني إيعالون بإزالة العلم التركي من الطاولة.
•تم إجلاس السفير التركي في كرسي صغير منخفض بينما جلس الإسرائيليون في كراسي كبيرة مرتفعة.
•لم يتم تقديم أي ضيافة للسفير التركي.
•.ركزت عملية التصوير ليس على وضع السفير التركي المهين وحسب, وإنما على ملامح داني إيعالون وهو يتكلم بحدة وازدراء ويحرك يديه باستخفاف في مواجهة السفير التركي.
هذا, وعند بدء الاجتماع تحدث داني إيعالون, باللغة العبرية مطالبا طاقم التصوير التلفزيوني بتركيز الكاميرا على كرسي السفير, بحيث يبدو واضحا للمشاهدين منظر السفير التركي وهو يجلس على الكرسي الصغير العتيق المحشور في الزاوية, وهو يستمع إلى المسؤولين الإسرائيليين الذين يجلسون على الكراسي الكبيرة المرتفعة.
تحليل السيناريو: المحفزات والتراكيب
تقول المعلومات والتسريبات, بأن زعيم حزب إسرائيل بيتنا أفيغدور ليبرمان, هو الذي أصدر التعليمات المباشرة لنائبه داني إيعالون وزير الخارجية بتنفيذ عملية استدعاء السفير التركي وإعداد عملية تنفيذ السيناريو لكي تتم بهذا الشكل المهين.
تتضمن خلفيات ومحفزات هذا السيناريو العديد من العناصر, المرتبطة بالبيئة السياسية الإسرائيلية الداخلية, والخارجية, ويمكن الإشارة إلى ذلك على النحو الآتي:
•الصراعات الداخلية الإسرائيلية: يسعى الوزير أفيغدور ليبرمان إلى إلحاق الضرر بموقف وزير الدفاع الإسرائيلي الجنرال أيهود باراك, زعيم حزب العمل, فالجنرال باراك سوف يقوم بزيارة إلى العاصمة التركية أنقرا, وذلك ضمن جهود تحسين وتطبيع العلاقات الدبلوماسية التركية-الإسرائيلية, ولما كان مثل هذا الإنجاز سوف يعزز موقف باراك وحزب العمل داخل الائتلاف الحكومي وفي أوساط الرأي العام الإسرائيلي, فقد لجأ ليبرمان إلى سيناريو إحراج السفير التركي من أجل تنفيذ سيناريو آخر هو سيناريو إحراج الجنرال باراك في تركيا.
•إغلاق المنافذ أمام عملية السلام: تقول المعلومات, بأن أفيغدور ليبرمان والمتشددون الإسرائيليون يسعون حاليا, لجهة تقويض كل جهود السلام المتوقع إعادة إحيائها, وعلى وجه الخصوص جهود الوساطة التركية في المحادثات السورية-الإسرائيلية, وجهود إحياء مفاوضات عملية سلام الشرق الأوسط بين الإسرائيليين والفلسطينيين.
•تضييق هامش المناورة أمام نتنياهو: سعى ليبرمان إلى وضع الزعيم الليكودي, ورئيس الوزراء الحالي نتنياهو في مأزق حقيقي, فهو من جهة لن يستطيع منع الخارجية الإسرائيلية من القيام بالاحتجاج على بث إحدى القنوات التلفزيونية التركية مسلسل ينتقد الإسرائيليين, ومن الجهة الأخرى لن يستطيع أن يتحمل مسئولية مواجهة أمرين أحلاهما مر, خيار تحمل مسئولية الاعتذار لتركيا, أو خيار التصعيد وتحمل مسئولية تدهور العلاقات مع تركيا.
•تضييق هامش المناورة أمام زعيمة المعارضة تسيبي ليفني, والتي ظلت تنتقد أداء دبلوماسية حكومة ائتلاف الليكود-كاديما إزاء تركيا, فحاليا لن تستطيع تسيبي ليفني مطالبة الحكومة الإسرائيلية بالاعتذار لأن ذلك يجلب لها المزيد من المشاكل مع معسكر المتشددين الذي يقوده الجنرال موفاز داخل حزبها, وفي نفس الوقت لن تستطيع مطالبة حكومة نتنياهو تصعيد التوترات مع أنقرا, لأن ذلك سوف يكون متناقضا مع توجهاتها الشخصية.
تركيب وإعداد الخارجية الإسرائيلية للسيناريو المحرج بهذه الطريقة, لم يكن كافيا لنقل رسالة الاحتجاج والغضب الإسرائيلي, وإنما لنقل رسالة إضافية بالغة السوء لجهة طاقة الإهانة المفرطة الزائدة التي وصلت لأنقرا.
حوارية السيناريو والسيناريو المضاد:
وضع عالم الميكانيكا الرياضي إسحاق نيوتن قانونا في الديناميكا, يقول بان كل فعل يكون له رد فعل مساو له في المقدار ومضاد له في الاتجاه, وما يمكن إضافته هنا, أن الكثير من الأفعال تكون أحيانا مفرطة بسبب كمية طاقة الفعل الزائدة التي تنطوي عليها محفزاتها, ويمكن أن نشير إلى أن الفعل الإسرائيلي الدبلوماسي المهين للأتراك, قد ترتب عليه ردود الأفعال الأولية الآتية:
•مطالبة أنقرا لتل أبيب الاعتذار رسميا.
•تجدد تصريحات الرئيس التركي غول, ورئيس الوزراء التركي أردوغان المنتقدة لإسرائيل.
•تزايد تناول الصحافة التركية للتصرف الإسرائيلي بشيء من الغضب الشديد.
وما هو أكثر أهمية تمثل في أن التصرف الإسرائيلي قد أدى إلى تعزيز موقف حزب العدالة والتنمية التركي وحكومته, وفي هذا الخصوص فقد شهدت الساحة السياسية التركية تراجع مواقف خصوم حزب العدالة والتنمية, الداعمة لمواقف الحكومة التركية إزاء إسرائيل, ومن أبرزها نشير إلى الآتي:
•تصريحات زعماء حزب الشعب الجمهوري "أبرز خلفاء إسرائيل وأميركا" المنددة بالإجراء الإسرائيلي والمؤكدة على ضرورة دعم السياسة الخارجية التركية الحالية, إزاء إسرائيل, مع ضرورة تصعيد المواقف ضد الإسرائيليين.
•تصريحات زعماء الحزب القومي التركي, التي نددت بالإجراء الإسرائيلي, والتي أكدت على أن الانتهاكات والجرائم الإسرائيلية لم تنحصر فقط في المجال العربي, وإنما امتدت السلوكيات العدوانية الإسرائيلية لجهة تهديد وحدة الأمة التركية عن طريق تقديم الدعم والمساعدات الإسرائيلية للحركات الانفصالية الكردية.
أدى تصرف الخارجية الإسرائيلية المهين للسفير التركي, إلى تطور إيجابي تمثل في الآتي:
•تعزيز مشاعر الغضب التركي ضد الإسرائيليين.
•توحيد الرأي العام التركي إزاء رفض التوجهات الإسرائيلية في المنطقة.
•توحيد القوى السياسية التركية "بما في ذلك حلفاء إسرائيل التقليديين الأتراك" لجهة دعم الموقف السياسي الرسمي التركي وموقف حزب العدالة والتنمية المناهض لإسرائيل.
الآن, يمكن بكل سهولة, اكتشاف أن الخلافات التركية-الإسرائيلية قد بدأت تنتقل من مرحلة مجرد خلافات سياسية حول المصالح والمعاملات والسلوكيات, باتجاه الدخول في نفق مرحلة نفسية-اجتماعية, فالمجتمع التركي, وإن كان براغماتيا في طابع علاقاته مع الشعوب والمجتمعات الأخرى, فإنه يتميز بالكثير من مشاعر الكبرياء القومي, وبالتالي, فإن ما حدث مع السفير التركي في تل أبيب, سوف لن يكون مجرد حادثة عادية, وإنما سوف تظل تلقي بظلالها وتداعياتها على الشعور القومي التركي القادم, وبرغم أن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو قد سعى للإعلان رسميا بأن موقف الخارجية الإسرائيلية من جهة كان صائبا بجهة الاحتجاج, ومن الجهة الأخرى لم يكن صائبا لجهة استخدام وسائل غير مقبولة في التعبير عن الاحتجاج, فإن ما حدث مع السفير التركي في إسرائيل سوف يظل باقيا تحت السطح, وسوف يظهر بشكل متواتر كقوة رمزية ناعمة لجهة تفعيل مشاعر التعبئة الفاعلة السلبية التركية إزاء إسرائيل والإسرائيليين!!.
الجمل: قسم الدراسات والترجمة
إضافة تعليق جديد