ناجي العلي في ذكراه التاسعة عشرة
لم يكن الفنان الفلسطيني ناجي العلي مجرد رسام كاريكاتير،ولم يكن ما اختطه بالأسود فوق سطح اللوحة البيضاء مجرد رسوم كاريكاتيرية ساخرة وحسب، بل كانت لهذه الرسوم (البيانات!!) حضورها وتأثيرها القوي على الأعداء قبل الأصدقاء، لأنه كان فناناً حقيقياً وملتزماً، فناناً مثقفاً ثورياً، صادقاً مع شعبه ومخلصاً لقضايا أمته، وهذا ماجعل إحدى الصحف الامريكية تقول:
«إذا أردت ان تعرف رأي العرب في أمريكا فانظر الى رسوم ناجي العلي».
كثيراً ما كنت أنا وزملائي فناني الكاريكاتير والمهتمين بالشأن الثقافي والاعلامي عندما نتحدث عن فن الكاريكاتير او عن المبدعين ورموز الفكر والثقافة والاعلام، كثيراً ما كنا نأتي على ذكر الفنان ناجي العلي وكأنه حاضر بيننا على الرغم من مضي عدة سنوات على رحيله، وكنت أتساءل بيني وبين نفسي ما سر هذا النجاح والانتشار للفنان ناجي العلي، واليوم هذا السؤال اتوجه به الى بعض فناني الكاريكاتير بالاضافة الى أخذ رأي بعض المثقفين والأدباء والشعراء..
والسؤال هنا:
«مضى أكثر من ثمانية عشرة عاماً على رحيل فنان الكاريكاتير ناجي العلي، وما زال الأكثر شهرة بين فناني العالم..وما زال مقعده خالياً..، ما سر نجاح ناجي العلي الى اليوم برأيك؟
لكي نتعرف على سر نجاحه الى اليوم..كان لنا التحقيق التالي:
عبدالهادي الشماع: رسام كاريكاتير
هما سببان الأول: إنه كان الاكثر التصاقاً بجمهوره وشعبه والأكثر تعبيراً عن همومه وقضاياه وهذا بحد ذاته كان تميزاً لم يجاريه فيه معظم رسامي العالم.
الثاني: إنه استطاع ان يقدم رسومه بخطوط بسيطة وذكية وصياغات كاريكاتيرية غير معقدة لا تطغى عليها الذهنية أو النخبوية وإنما تقدم المفارقة الكاريكاتيرية بكثير من السخرية المؤلمة، فكان الفنان الملتزم بقضيته العادلة، قضية فلسطين والذي حصل انه لم يتجاوز الخط الأحمر في رسوماته، بل على العكس تماماً الخط الأحمر هو الذي تجاوزه وهاجمه، فصرعه، وهذا المثال يؤكد ان هناك خصوصاً حمراء كثيرة متداخلة تستخدم خلالها مختلف انواع«الكواتم» لكتم عنصر الابداع الملتزم والمعبر عن النخبة من الناس الذين ينطقون عبر رسومهم مما يعيشه ويحس به الناس، ويصورون خلالها قضاياهم العادلة.
حسن حميد: كاتب وروائي
لا سبب سوى الفن..فالفن هو الذي أنضج موهبة ناجي العلي حتى صارت رايته..والفن هو الذي ماشاه ليصير هويته الوطنية، ناجي العلي..درس ذهبي في الابداع والموهبة والتعبير، درس ذهبي في تعلم أبجديات الخلود.
غادة فاضل فطوم: شاعرة وكاتبة
ناجي العلي..حالة جسدت وجمعت مآسي المواطن العربي كلها..القهر، الذل، الهزيمة، التحدي، الانتصار، والاستمرار، الحزن، الفرح.
ناجي العلي..حمل هموم المواطن العربي عموماً والفلسطيني خصوصاً، وكان صدق الانتماء هويته..والإيمان بقضيته جواز مرور الى دول العالم، هو معركة بحد ذاتها خاضها وحنظلة في وجه كل مستبد وهي المعركة التي استشهد وضحى بروحه فيها..
ناجي العلي..يبقى المعجزة التي حركت الشعور والذات العربي حيث لا يجد مفراً من الانتفاض ورفض الظلم والقهر..
هو الصامت الذي بلغ صمته من خلال رسوماته بلاغة زلزلت الكيان الصهيوني وهز المجتمع العربي والفلسطيني.
لذلك كانت ريشته المتحدثة دوماً مستهدفة كما استهدف هو، لهذا لا يوجد فنان يستطيع ان يحل محله..أو يأخذ مكانه ومقعده لأنه هو من فصّل هذا المقعد وأخذه معه..لأنه من خلال رسوماته وأفكاره وصل الى بقاع العالم وبقي حياًً الى يومنا هذا.
حميد قاروط: رسام كاريكاتير
سبب نجاحه يعود الى نقاط عدة الأولى: لأن الفنان ناجي العلي كان مواكباً للمتغيرات المحيطة به كافة السياسية والاجتماعية وكان يتأثربها ويؤثر فيها، والفنان العلي ليس الاكثر شهرة وهذا انتقاص له لأنه ما زال حياً من خلال رسومه علىالرغم من مضي هذه السنوات كلها فما زال حنظلة الى اليوم يسير في الشارع وهو يحدث الناس..كثير من المشاهير ساهمت وسائل الاعلام فيها وغذوها، أما ناجي العلي فرسومه هي التي غذّته لذلك ما زال يتربع على عرش الشهرة الى اليوم، والمقصود بالشهرة ليست الشهرة الاستعراضية بل هي الحاجة الى الناس ولأن اعماله حاضرة بيننا وتمس الناس، ما رسمه ناجي العلي منذ عشرين سنة ما زال صالحاً للنشر في هذه الأيام، وكأنه كان يستشف للمستقبل لأنه كان يرسم للأدب وليس رسماً آنياً.
الثانية: في البداية كان الفنان العلي يعتمد على التعليق أو الكتابة المرافقة لرسومه وكانت في معظمها أهازيج وأمثلة شعبية وحكم وما يتداوله الناس في الشارع العربي والفلسطيني خاصة، فكان يستخدم تعليقات باللهجة الفلسطينية او اللهجة اللبنانية ولهجات محكية عربية ليعطيها مصداقية من يتكلم بها برأيي لم تكن هذه الكتابات لتنتقص من قيمة الكاريكاتير بل على العكس كانت تغنيها خلافاً لما يقول عنها البعض لان ضعف الكاريكاتير في ضعف التعليق،وقد تطورت رسوم ناجي العلي من ناحية الشكل والمضمون وقد لاحظنا في رسوم الشخوص التي يرسمها وخاصة الانهزامية منها كانت تسير على قدمين على طريق الاستسلام ثم بالغ صادقاً في رسمها عندما الغى أقدامها التي تسير عليها وأصبحت تزحف على الارض كالفقمة.
الثالثة: كان ناجي العلي يقدم شكلاً تشكيلياً في رسومه كافياً لايصال الفكرة غير مبالغ بالتشكيل وجمالياته التي لو استغرق فيها قد تؤثر على الفكرة وكانت الفكرة عنده تحمل الشكل والشكل يحمل الفكرة وهنا التكامل.
الرابعة: هو التوقيع الذي كان يستخدمه على رسومه فقد ابتكر شخصية وسماها «حنظلة» كانت مرافقة لجميع رسومه، وهذه الشخصية انسانية بكل ما تحمله الكلمة من معنى فهي من لحم ودم، والانسان دائماً يكون أقرب الى الانسان.
د.خليل الموسى : ناقد
لا يتأتى نجاح أي انسان من فراغ وليس هو من قبيل المصادفة أو ضربة الحظ، وانما أسباب النجاح كامنة في شخصية الفرد وتربيته وقدرته على المثابرة والجلد، فضلاً عن المعرفة والموهبة والايمان بما يقوم به.
وناجي العلي واحد من هؤلاء الناجحين ولا شك في ان الموضوعات التي تناولها في رسوماته الكاريكاتيرية قد لفتت اليها الانظار فهو رسام فلسطيني ومن الطبيعي ان يلتفت الى معاناة شعبه في الداخل والخارج، وهذا سبب أول... أما السبب الثاني فهو يكمن في الواقعية الشعرية التي اتسمت بها رسومه، فقد استطاع ان يشدّ الانتباه اليه، اذ أمسك بطرفي اللعبة الفنية: الطرف الاول الالتصاق بالواقع واستمداد موضوعاته منه، والطرف الثاني الارتفاع بهذه الرسومات من واقعيتها الى مدارك الشعرية والأدبية والفنون، أما الاسباب الاكثر جدية في نجاح رسوماته فهي الكامنة في شخصيته الفنية، فهو موهوب بلا معرفة، فناجي العلي مثقف من جهة، وعارف بالأمور المحيطة به، وبأسرار الرسم وتقنياته وتاريخه وتحولاته من جهة ثانية وهو مثابر على عمله، ومخلص له، وقد أفنى عمره في سبيل الوصول الى ماوصل اليه فن الكاريكاتير عالمياً وعربياً، وفي هذه الاسباب مجتمعة نبحث عن العوامل التي أمنت لناجي العلي هذه الشهرة والنجاح والانتشار كله.
معتز البشار: فنان تشكيلي
للشهرة وللحضور اسرار ما زالت عمياء عن الحقيقة النقدية..فربما تكون الالتزم بالقضية وربما يكون الصنعة الفنية البديعة أو الخطوط أو التقنية الغارقة بالترف التجريبي والثقافة المبذرة.
أما ما يراودني أنا تجاه هذا المبدع فهو العزف بخفة على هذه الاسباب مجتمعة مما يدفعه دائماً في المساحة المظلمة والغير مأهولة للمشهد الجديد الساخر .
رائد خليل: رسام كاريكاتير
لم يرَ منا ما رآه ناجي العلي، ولم تكن علاقته بفنه مجرد علاقة فنان بمساحة الأبيض والأسود، فقد صور في ساحات الهزيمة والنكسات صوراً تراجيدية لكل الخلافات في أمور القضية وللأخلاق المريضة أيضاً..في رسومه نضج سياسي ومخزون يتدفق يصعب تحجيمه، وهذا ما أكد أصالة الهوية في أعماله.
في ذاكرتنا ويقظتنا من يثب دوماً ليأخذنا الى عوالم لم نكن قد دخلناها الى مساحات من نور لم نبصرها نحن المذبوحين بالصمت.
أربعون ألفاً، صاغها ناجي العلي غطت مساحات الخيبة من المحيط الى الخليج، وغطت عيون العاطلين عن حب الوطن والارض والقضية.
من أراد ان يقرأ تاريخ المعاناة فليقرأ رسوم هذا الفنان فهو لم يرسمها لزمن محدد بل للأزمنة كلها، واخترع لنفسه أبجدية خاصة وقاموساً يخلو من تقييد الفكر، ولم ينضوِ ناجي تحت أي راية حزبية، وهذا ما أكده في احدى حواراته.
دائرة ناجي العلي لم تكن ضيقة بل احتوت مساحة الوطن كله من المحيط الى الخليج، فقد عبر عن هموم العربي القابع خلف قضبان الخوف، وشخّص أدق تشخيص حالة التخبط السياسي وانعدام العدالة وهم العيش والصراع مع العدو الاسرائيلي.
غاب عنا ناجي العلي، لكن ريشته لم تسقط وبقي حنظلة المقهور يصرخ ويصرخ واقفاً عاقداً يديه خلف ظهره شاهداً منتظراً، مواجهاً الهزيمة..لن نبكي موت ناجي لأن الرصاص لن يكسر القلم النقي الطاهر.
د.ماجد أبو ماضي: ناقد
إن سر نجاح ناجي العلي حتى بعد استشهاده هو التزامه لقضايا الجماهير والعزف على الوتر الحساس الذي تحب هذه الجماهير سماعه، إضافة لذلك نلاحظ الجرأة والقوة في طرحه للموضوعات التي يختارها، فلم يكن-رحمه الله- يستثني أحداً ممن يقع في الخطأ الذي يلاحظه رمزه -حنظله- الذي يكون صامتاً امام ما يحدث وكأنه يتخذ من هذا الصمت موقفاً يعبر عنه من خلاله...كما ان ناجي العلي يتمتع بعنصر هام جداً وهو الحرية التي يعبر بها عن أفكاره من خلال رسوماته، والحرية شرط أساسي في الالتزام.. ذلك كله يترافق مع السمات الفنية والابداعية والأنامل الذهبية التي أبدعت في نقل صورة عن شعبنا ومعاناته وآلامه وآماله، وتلوين هذه الصورة من خلال الكلمات والعبارات والحوارات بين الشخصيات التي تعبر عن الموضوع المختار، وابراز قضيتنا الفلسطينية لتلاقي مساندة وتأييداً من شعوب العالم التي تقف مع قضايا العدل والحرية.
-حكمت أبو حمدان: رسام كاريكاتير
لنصحح أولاً، ليس سر نجاح ناجي العلي الى اليوم، بل بقاء سر نجاح العلي الى اليوم، هذا البقاء يعود الى جذور ناجي الضاربة في الأرض والانتماء.
قطف ناجي العلي غيلة لم يقض على جذوره...وكل يوم تخلف الجذور فروعاً جديدة..إن اعتماد ناجي العلي على الرسم الذي يبقى...هو سر بقاء ذلك العمل...العمل الذي رسمه ليس لحدث آني يسقط بمروره، ناجي نجح حيث غيره لم ينجح باقترابه الأكثر من انتمائه ومن جذوره...في وقت معظم ما يرسم فيه هو لارضاء الآخرين..
إيمان ونوس: صحفية
لأنه أولاً وقبل أي شيء آخر..إنسان بما تحمله هذه الصفة من معانٍ أخلاقية صادقة وأصيلة، في زمن اللاأخلاق الذي ترفرف فيه رايات الوصولية والانتهازية بدافع التودد للحكام ورغباتهم وأهوائهم، ولأنه (ناجي العلي) كما وصف نفسه يوماً «شخص غير قابل للتدجين»، لم يهادنهم أو يجاريهم في نفاقهم، أبعدوه بداية عن الكويت، ونهاية عن الحياة برمتها ولكنه إبعاد جسدي فقط لأن ناجي العلي بقي في الذاكرة والوجدان والمبادىء، رمزاً للانسان المقهور، والمناضل العنيد، والصادق الأبي في فكره ومعتقداته «مثل فأر سد مأرب، ما يهمه هو أن يظل يحفر بأظافره السد، حتى يحدث الفيضان ويخرج زرع جديد» هكذا وصف ذاته.
ولأنه صاغ لوحاته بجرأة عالية وعميقة صلبة في زمن الصمت والخوف والموت البطيء ..لذلك اجتازت شخصيته ووجوده حدود النسيان وبقي شامخاً، رافعاً رأسه ورؤوسنا بما حملناه إياه، فهو لم يكن يبدع للراهن من الزمن، وإنما اخترق الأمكنة والأزمنة كلها، واجتاز أسلاك الفكر الشائكة كلها...لوحاته تحمل ذلك الحنظلة المقهور والذي يدير ظهره لكل الخيبات والانكسارات زارعاً فينا الأمل دائماً بالنصر.
يبقى ناجي العلي الفنان الاسطورة والعبقري لأن رسومه كانت بسيطة غير معقدة ومفهومة من قبل الجميع، لأنه رسم للناس البسطاء والفقراء لذلك استطاع أن يصل الى قلوب الناس وكثير من الفنانين الذين اعجبوا بأعماله وتأثروا بها، وأنا كرسام كاريكارتير تأثرت به وتعلمت منه الكثير، وكل يوم اكتشف في رسومه شيئاً جديداً.
ناجي العلي كالشمس التي تشرق كل يوم...شمس الابداع ...شمس الحقيقة ...شمس الفن المتألق
حقاً كما قال ناجي عن حنظلة:
« هذا المخلوق الذي ابتدعته لم ينتهي من بعدي بالتأكيد وربما لا أبالغ اذا قلت انني قد استمر به بعد موتي ».
- ولد ناجي سليم حسين العلي في بلدة الشجرة في فلسطين عام (1936)
- أُبعد عن فلسطين عام (1947)، وكان عمره آنذاك حوالي عشر سنوات هو وعائلته باتجاه لبنان.
- درس الابتدائية في مخيم عين الحلوة ثم عمل في بساتين الليمون وبعدها التحق بمدرسة مهنية في طرابلس وحصل على دبلوم في الميكانيك.
- عام (1957) سافر الى الجزائر العربية وبقي هناك عامين حيث عاد يعمل مدرساً للرسم في مدارس صور.
- عام(1968) عمل في جريدة السياسة الكويتية لغاية عام (1975) حيث عاد الى بيروت للعمل في جريدة السفير..
- ثم عاد الى الكويت لينضم الى جريدة القبس حتى عام (1985) بعدها انتقل الى لندن.
- نشر اكثر من (40) ألف لوحة كاريكاتيرية طيلة حياته الفنية.
- اصدر ثلاثة كتب في الاعوام (1973-1976-1985)
- أقام معارض عدة خاصة له في بيروت ودمشق وعمان والكويت وواشنطن ولندن.
- أطلق عليه الرصاص في لندن يوم 22/7/1987 وبقي في غيبوبة حتى استشهاده يوم 28/8/1987م.
معتز علي
المصدر: البعث
إضافة تعليق جديد