حنا مينه: وما عشت من بعد الأحبة سلوة ولكنني للنائبات حمول
ولماذا، يا حنا، لا تحكي حكايتك من البدء؟ وما الغضاضة في البوح، وأنت بحت بكل شيء إلى حد الحد، إلى حد الإزعاج، وقلت للناس قولاً عنه تنهاني؟ وما همُّ العيب في أن تكون صريحاً إلى درجة تنكشف معها السريرة، أو أن تكشف أنت هذه السريرة، مخالفاً في هذا الكشف الأليم، قول شاعرك الرائع أبي نواس، وإذا كان أبو نواس، هذا الفيلسوف بغير فلسفة، والقاطع قطعاً باتراً، حبل البكاء على الأطلال، قد تخفى أحياناً في سكره ومجونه، تخفياً شفيفاً كيلا يغضب الخليفة المأمون، الخليفة الذي أفاء وزاد في نشر المعرفة وتكريم العارفين، فكنت، يا شاعري، تعرف في سكرك، أين تقف، تقية، وكيف تلجم، عنوة، لسانك عن الدبيب، ولما دب دبيبها إلى مكمن الأسرار، قلت لها قفي فلماذا يا حنا، لا تعمل، أو تقتدي بحكمة هذا الشاعر فتمضي في كشف المستور والمسكوت عنه، إلى درجة إغضاب عائلتك؟! لقد كنت، وهذه العائلة مثل الماء والخمر، وكنت عصي الدمع، شيمتك الصبر، فصرت في الشيخوخة، ندي الدمع، بسبب من أنك مصاب بمرض البكاء، المرض الذي يأتي، مع التقدم جداً في العمر، ضربة قدر، اللطف بعيد عنها.... ومنهم من يردون إلى أرذل العمر وقد رددت إلى هذه الرذيلة دون أن يتوب الله عليك.
شكراً يا أفندينا الزمخشري، فقد عرفنا منك، ما كنا نعرفه، مرة أخرى، وعن يقين، لا شائبة فيه، نعترف: لغتنا العربية لغة أورستقراطية، يصعب على أكثر المستشرقين، أن ينفذوا إلى سر أورستقراطيتها، وعليّ، بعد هذا التمهيد النافل، أن أعود إلى لغة الحلاق الذي كنته، في العشرين من عمري، أي لغة الحلاقين وأشباههم من أصحاب المهن، وهي لغة بسيطة عذبة لا جنف فيها، عن فهم الناس، وإفهامهم أيضاً.
ولد! نعم! أنت ولد يا حنا، وستبقى ولداً في طفولتك، مراهقتك، شبابك، استواء رجولتك، كهولتك، شيخوختك، وعجزك، أنت ابن الثمانين ونيف، عن إرواء شهوتك الشهاء، من لذة الوصال حتى مع النساء الجميلات، وهل رضيت، أو سترضى يوماً، إلا مع هؤلاء الجميلات؟
والسبب بسيط، يصعب على قرائك والمحبين أن يصدقوا أنك لم تحب، حياتك كلها، ومن هنا، لا من طلعتك غير البهية، التي تخجل أن تراها في المرآة، أو التلفاز، أو أي أداة عاكسة للصورة، في زمن ثورة المعلوماتية الراهنة هذه.
أنت يا حنا ولد عجيب غريب، أمك المرحومة، مريانا ميخائيل زكور، حملت ثلاث مرات قبل أن تتشرف أنت بدنيانا هذه، وقد بكت هذه الأم الفقيرة، اليتيمة، أو أبكتها جدتك لأبيك، لأنها لم تنجب ذكراً، ومن لعنة قهرها، أو بلوى مصيبتها خرجت حاسرة الرأس، في منتصف الليل، وفي طقس شديد البرودة، ونادت ربّها، هي المؤمنة بالله، والمسيح، ومريم البتول: أن يرزقها صبياً «كيف ما كان يكون» وجئت أنت، يا حنا «كيف ما كان يكون» ولا تزال، حتى في شيخوختك «كيف ما كان يكون» وفاء لهذه الأم الحنون، أو لأنك لأسباب عديدة، تطيب نفساً، بهذه الحكمة التي ليس فيها من الحكمة أثر!
إنك، يا أيها اللامع الآن كالنجمة، كم وسمتك النار، في جبينك المتّقد، على اسم «الأب والابن والروح القدس» لكنك لم تنسَ ولن تنسى، مناجاة أمك المسكينة، ربها الرحيم، أن يرزقها ذكراً، كي تتخلص من القمطة السوداء، على رأس جدتك وهي تلد بنتاً بعد بنت، بعد بنت، واليأس، والبؤس، والعذاب زادها اليومي، قبل أن تقرّ عينها بإنجابك، وبعد أن بكت التياعاً، وهي تراك مترجلاً من سجن إلى سجن إلى سجن، والقيود الحديدية، تُلذّ في معصميك، زهو كفاح، ورجوة أمل، في أن يستقل وطنك سورية، ويتحرر شعبها، من ربقة التخلف، وضلالة البؤس، وثعلبية الخطابات، في معسول الكَلِم، وانتفاء الفعل، و«نحن أدرى وقد سألنا بنجد/ أطويل طريقنا أم يطول» وندرك دون إبطاء، أن طريقنا طويل طويل، وأن الكولونيالية، بعد الحرب العالمية الثانية، بدلت جلدها، كما الأفعى، فلم تعد بحاجة إلى الاحتلالات المباشرة، وما نفعها، مادامت هناك الشركات، متعددة الجنسيات، والبنوك الدولية، وارتباط البلدان العربية، وبلدان الجنوب، بالمركز الرأسمالي العالمي، والاستقلالات تظلّ ناقصة الفائدة، لأن جلاء جيوش الاحتلال، لا خير فيه، مادامت هذه البلدان رازحة تحت نير عبودية الرأسمالية العالمية، فالاستقلال الحقيقي اقتصادياً يكون أو لا يكون، وان المفاهيم تبدلت ولم تعد السياسة فن الممكن، بل فن فهم الاقتصاد!
كفى، يا حنا، يا بني، كفى استطراداً، وتدليلاً على أن «فوكوياما» هذا الياباني المتأمرك، كان غبياً جداً، حين أعلن نهاية التاريخ، وكل الاقتصاديين، وغير الاقتصاديين، من المتنورين في بلدان الجنوب، لم يبلعوا هذا الطعم، لأن صنارته نفّرت الأسماك، بدل أن تقرّبها من طعم مسموم، ظاهر السم، ومن ايديولوجيا متهافتة، غير متقنة، غير محبوكة على نحو جيد، غير مخفية تحت المكيال، وبائخة إلى حد بعيد!
يا حنا! يا حنا، أقول لك كفى فضحاً لما هو مفضوح، فعد إلى سيرتك، أنت الحلاق ابن العشرين، الذي ينتظر القرّاء منه أن يتكلّم بلغة حلاقية، فيها طرافة، فيها متعة وفائدة، مادام الفن الصادق يصدر عن متعة وفائدة، وهذا حسبه، وحسبك أن تتذكر، وتذكّر القرّاء بالشيء الأساسي وهو أنك جئت إلى هذه الدنيا «كيف ما كان يكون» وانك لم تبرح تراوح في مكانك، مجتراً حكمتك البلهاء هذه.
حنا مينه
المصدر: تشرين
إضافة تعليق جديد