لحظة حاسمة
كثر ما تخشاه حدسها. هكذا فكرت كريمة وهي تمسك يد طفلها ذي السنوات الأربع، غير منتبهة أنها تضغط عليها أكثر من عادتها، حتى تذمر الصغير متألماً وقال وهو يحاول أن يحرر يده: ماما لماذا تشدّين هكذا على يدي؟!
أفلتت يده للتو وتأملته بوله. إنها تعبده، تركز وعيها في تلك اللحظة على قلبها الممتلئ بحب الصغير، اعتذرت منه، لكن تذمره نبهها إلى مقدار فزعها، فبعد دقائق ستعرف نتيجة الخزعة التي سحبت من ثديها الأيمن، بعد لحظات ستعرف هل هي مصابة بالسرطان أم بصحة جيدة، إنها تنتظر أقسى حكم في حياتها. لكن حدسها المتشائم يبلبلها، وكل جهودها في تبديد هذا الحدس واستبداله بالتفاؤل كانت تفشل، شعور لئيم في أعماقها يرفض أن يطمئنها، تشعر أن كارثة تهمّ بالانقضاض عليها، ثمة حدسٌ مؤكد تعجز عن التخلص منه، يلتصق بها كالدبق، ويوسوسها أنها مصابة بالسرطان.
كانت تخشى حدسها حقاً لأنه لم يخب قطّ طوال حياتها، لطالما حيّرها حدسها الى درجة آمنت أنها تمتلك قوى خفية. وكي تقاوم إنذار الشؤم في روحها، أصرّت على اصطحاب صغيرها إلى المخبر، لعله يتدخل في قدرها ويغيّر النتيجة، لعله يبدد وحشة روحها ومخاوفها، لعله بطهارة طفولته يقنع إلهاً بعيداً أن يعيد صياغة قدر أمه... ياه، كيف يتجسد لها الشؤم كخفاش مجنون يرتطم بأضلاعها المتيبسة من الخوف.
عند باب المخبر تسمرت، لم تعد تملك الهمة لتخطو خطوة واحدة، شعرت بأنها تحجرت، وبأنها عاجزة عن تغيير تلك الوضعية ما لم يدفعها أحد بقوة من ظهرها. كان الصغير يقضم كعكة ويطرح عليها أسئلة تردّ عليها شاردة. عند باب المخبر أحست أنها عاجزة عن النظر إلى ابنها، لكنها أجبرت نفسها أن تستدير لتتأمله، كانت تحس بوجع الحب، فكرت وهي تتأمله أن الحب موجع، سحرتها نضارته كما لو أنها تكتشفها للمرة الأولى، أذهلتها تلك الشهية التي يأكل بها الكعكة، في الواقع أذهلتها الصحة، إنه معافى، معافى... وهي! ستعرف بعد دقائق.
فكرت أنها منذورة له وحده، وأن الصباح يشرق من عينيه. بدأ حدسها يتشوش، ثم هبّت عاصفة أمل في روحها جعلت قلبها ينقلع من مكانه من شهوة الحياة، تركت قلبها يترنح ككرة بين أمل وألم. ترى ما الفرق بين الألم والأمل؟! ابتسمت ابتسامة تقطرت مرارتها من شفتيها. ياه، الأحرف ذاتها، لكن الفرق بين الكلمتين شاسع.
لم تشعر أنها تقف على عتبة المخبر، بل على رصيف الحياة. كانت امرأة جميلة في الثامنة والثلاثين تنتظر حكم القدر الذي لا ينفع معه الرجاء ولا الوساطة ولا الرشوة. تبدد تفاؤلها المباغت، وعاد حدسها المتشائم يهيمن على حواسها كلها، تسارعت أنفاسها وهي تعي أيّ حس موحش بالخوف يشلّها، في تلك اللحظة أضاءت روحها برؤيا، فهي مصابة بالسرطان... حدسها أكّد لها تلك الحقيقة، هزّ الصغير يدها وتساءل: ماما ألن ندخل الغرفة؟
لماذا جعلها صوته العذب تنكمش وتتقلص، كما لو أنها تريد الهروب من العالم والاختباء داخل قوقعة وحدتها. أدركت أنها ستدشن مرحلة جديدة في حياتها، أساسها الوحدة، اجتازت العتبة كما لو أنها تدخل نفقاً معتماً للمرة الأولى في حياتها.
كان الطبيب في انتظارها. حال نظرت في عينيه، أدركت الحقيقة. ابتسامة عينيه زائفة، وابتسامة شفتيه منافقة. عرفت أنها مصابة بالسرطان بسبب إتقانه نظرة التفاؤل الزائف والثقة التي يحاول جاهداً أن يبعثها في نفسها. همّت أن تقول له إن للحقيقة رائحة، لكنها اكتفت بأن تردّ على ابتسامته بابتسامة تطفح بالمرارة، وحين همّ أن يتكلم ناظراً إلى أوراق أمامه، طلع صوتها أجشّ غريباً وقالت: سرطان.
لم ينكر. صمته دليل إصابتها بالسرطان. حين رجاها أن تهدأ، انفجرت بضحكة قصيرة تقطر مرارة وقالت: ألا ترى أني هادئة كتمثال!
تركته يقوم بواجبه، تركته يتحدث عن تطور العلم في علاج السرطانات، وحين وصل إلى مرحلة العمل الجراحي وضرورة استئصال ثديها الأيمن بأسرع وقت، انتفضت، شعرت أن سيفاً يقطع ثديها بضربة واحدة، نظرت إلى ابنها مستنجدة وعاتبة، وابتسمت له ابتسامة تعني: ياه، يا حبيبي لم تستطع أن تقنع الله بأن يغيّر قدري! همّ الصغير أن يمسك تمثالاً جميلاً على مكتب الطبيب، زجرته، لكن الطبيب قال: اتركيه على سجيته.
هل وافقت الطبيب على الجراحة؟ هل وقّعت أوراقاً ودفعت مالاً؟! هل تكلمت حقاً؟! لم تعد واثقة من شيء، لكن يبدو أنها نطقت ببضع كلمات، لأنه أخذ يثني على شجاعتها.
طرحت أسئلة متلاحقة عن العلاج الشعاعي والكيميائي، بدت كلماتها كطيات قماش مجعد تخفي في ثناياها فزعاً هائلاً، عضّت على لسانها كعادتها حين تكون في قمة توترها، وأدركت القوة الغامضة للصحة، وبلمح البصر وعت أنها لم تعد تنتمي إلى خانة الأصحاء، بل صارت مدبوغة بختم المرض، عكس خيالها صورة خراف مسكينة مدبوغة بالأحمر جاهزة للذبح.
أدهشها اصطكاك أسنانها من فزع لم تستطع تقدير حجمه، قدّم لها الطبيب حبة دواء وكأس ماء، ابتلعتها من دون أن تسأله ما هذا الدواء!
قال لها إنه سيعطيها دواءً مهدئاً وآخر مضاداً للاكتئاب، وإن كل المرضى المصابين بالسرطان يجب أن يتناولوا هذه الأدوية.
همّت بأن تخبره عن حدسها، وبأنها طوال الأسبوع الماضي ظل حدسها يؤكد لها أنها مصابة بالسرطان... لكن صوتها خانها، وبدأت أعماقها تتعكر، كما لو أن إعصاراً يهبّ من مكان ما في روحها مطوّحاً كل كيانها، حدقت الى عيني الطبيب، شاعرة كيف يغلي رأسها بهلوسات عجيبة، هلوسات مخيفة مذعورة، تخيلت أجساداً مقطعة الأوصال، ونهوداً نازفة متورمة، تجسد الذعر كخوذة تطبق على رأسها، عليها أن تقبل زائراً، أو غازياً اسمه السرطان.
بمشقة قالت كأنها تحدث نفسها: ياه يا دكتور، ما كنت أخشاه حصل.
خجلت من ضعفها، صوتها واهن يرشح بالخوف، شعرت أن حديثها يترنح، وتكاد حروفها تسقط أرضاً كما لو أنها من معدن.
اجتاحها إحساس طاغ بالذل، وأحست بوهن عجيب الى درجة ما عادت قادرة أن تمد يدها لتلمس ابنها الذي تتوق لضمّه إلى صدرها بقوة في تلك اللحظة.
صرخ الصغير فجأة: ماما انظري إلى هذه المرآة، كانت مرآة دائرية ذات إطار مذهب على مكتب الطبيب، مرآة مكبرة، وضع الصغير المرآة أمام وجهها، ففزعت: أهذا وجهها حقاً! هل تبدلت ملامحها الى هذه الدرجة؟ كان وجهها يشع بسعادة مؤلمة، فكرت أن كل سعادة موشومة بالحزن، بل شعرت أن كل خلية من خلايا جسدها موشومة بالحزن.
كلام الطبيب وصوته الواثق، يسحبانها شيئاً فشيئاً من العالم. بدأ فراغ صغير أشبه بفقاعة يتسع في روحها، هل بدأ تأثير الدواء المهدئ، أم أن هذا الفراغ الذي تحسه في روحها هو فراغ الفزع؟!
أغمضت عينيها بقوة، تمنت لو تهرب من الحقيقة، لكن السرطان كان يمد أذرعه الأخطبوطية ليأسرها كعشيق متيّم بها.
كم استغرقت إغماضة أجفانها، ثواني أم دهراً؟ لأن كل حياتها مرت أمامها كفيلم سريع، أحست أنها تودع حياتها وتنسحب من العالم، وتقف على الرصيف، أي رصيف؟! فكرت أن أدق تعريف للحياة بأنها رصيف يفصل بين الموت والحياة.
أجفلت حين شعرت بيد الطبيب تربّت كتفها، فتحت عينين تائهتين وسألته بنزق ونفاذ صبر: ماذا أيضا؟ كان يقدم لها دواء آخر طالباً منها أن تشربه. أذعنت، تأملت صغيرها، بدا بعيداً بعيداً وغريباً وساحراً، إنه يسحرها، فهي تعبده. لكن لماذا تحس أن ثمة حاجزاً انتصب بينها وبين ابنها، لمن تتركه بعد أن يشفطها السرطان إلى قاعه المعتم؟ إنه يتيم الأب، فهل يقسو عليه القدر ويحرمه من أمه؟!
حين خرجت من العيادة، تسمرت على العتبة، سمّرها شعور قوي غريب في مكانها، كانت تشعر تماماً أنها امرأتان، امرأة تودع امرأة، امرأة تشفق على امرأة أخرى. ياه، ما أقسى هذا الشعور: أن يشفق الإنسان على نفسه.
تذمر الصغير وسألها: ماما، هيا تحركي.
ركعت وانطوت، أرادت أن يكون وجهها على مستوى وجه ابنها تماماً، طواها الألم وأجبرها على الركوع، ألم الذل والخوف، كانت تنجرف، وبخار ساخن تحسه طالعاً من ثديها المصاب بالسرطان، تحس أن مياهاً دافئة تتدفق من حلمتها، سيلاً من شغف. التمعت عيناها بولهٍ طاغ، ليس لابنها فقط، بل لأشياء غامضة كثيرة، الحياة حلوة حلوة، بل إن حلاوتها موجعة. تعاظم إحساسها بالانجراف، فأطبقت أصابعها على كتفي الصغير، وابتلعت دموعها. كانت تهمس له: ساعدني.
غمرته بقبلات نهمة، وهي تقاوم غصات قهر مبللة بدموعها، تمنت لو يسمح لها بأن تقبله لساعات، لكنها تعرف أنه سيتذمر. حملته وسط دهشته، وسارت شاعرة بقوة هائلة في جسدها، أحست أنها تحمل كنزاً وصليباً وقدراً، ابتسمت، أعجبتها تلك الصورة، امرأة تحمل قدرها وتمشي.
عبرت شوارع عدة وهي تحمله، بدا ألم ظهرها لذيذاً، كانت تتنشق بعمق رائحته الطفولية التي تدوخها، وثمة سؤال وحيد يسيطر على عقلها: ما معنى حياتها؟ ما معنى أن تصاب بالسرطان وهي أم شابة لطفل صغير؟! كانت تعرف أنها ستعيش كل ما تبقى من عمرها باحثةً عن جواب لهذا السؤال.
تأملته يأكل عشاءه بشهية، قدم لها بضع لقمات لتأكل معه، لكنها عجزت عن ابتلاع لقمة، كانت راحتها اليسرى تجس ثديها الأيمن كما لو أنها تلمس قنبلة موقوتة. غمرها خدرٌ لذيذ، لعل تأثير الدواء صار أعظمياً في دمها، ضمته بين ذراعيها، وأخذت تتثاءب بعمق، ياه، ما أرحم النعاس، ثقلت أجفانها وهي تتنفس أنفاسه الدافئة، وتطير وراء صور ساحرة، تخيلت روحها تشبه شاطئاً رملياً واسعاً تتعاقب عليه أمواج الأمل بين مد وجذر.
على رغم أنها غرقت في النوم، إلا أن وجهها ظل يشع بالابتسام، وعلى رغم أحاسيسها المخدرة بالدواء، فإن ثمة شعوراً لامعاً يدغدغ قلبها ويؤكد لها أن روحها تغفو بجانب روح صغيرها، وأن روحيهما ستبقيان متعانقتين إلى الأزل.
هيقاء بيطار
المصدر:النهار
إضافة تعليق جديد