غسان الرفاعي: فاشية الدياسبورا
ـ 1 ـ يتحدث (مكسيم رودنسون) مؤلف كتاب (إسرائيل واقع استعماري) الشهير الذي ترجم إلى اللغة العربية أكثر من مرة، والذي يفاخر بأنه يهودي تحرر من يهوديته، تماما كـ (اسحق روميتشر) مؤلف كتاب (اليهودي غير اليهودي) الذي تحدث عن التقاليد اليهودية ـ العربية التي لم تختف على الرغم من سيادة اليهود الاشكناز المتحدرين من البلدان الجرمانية أو السلافية، الذين صادروا اليهودية، واحتكروا الانتساب إليها، ويروي (رودنسون) القصة التالية (كان أحد اليهود يلقي محاضرة في الولايات المتحدة عن الفيلسوف (ابن ميمون) أحد كبار المفكرين اليهود العرب، وفي نهاية المحاضرة قام أحد المستمعين الأمريكيين وسأله: (ولكن من هو ابن ميمون هذا ، ما اللغة التي كان يكتب بها؟) أجاب المحاضر: (كان يكتب بالعربية!) وصرخ به المستمع : (وهل تسمي هذا الإنسان يهودياً؟) وعلق (مكسيم رودنسون) على هذه القصة في مقالة مشهورة أيضاً : كلا، إن الصراع العربي _ الإسرائيلي ليس صراعا بين حضارتين، إنه صراع بين غزاة يريدون اغتصاب أرض ، ومواطنين أصليين يتشبثون بهذه الأرض، صراع بين نازحين رفضوا أو منعوا من التأقلم مع المجتمعات التي كانوا يعيشون فيها، على الرغم من نفاقهم لما يسمى القيم الغربية، ومواطنين مسالمين يرتبطون بتراثهم وحضارتهم وقيمهم...
ـ 2 ـ
في مناقشة إذاعية على فرانس أنتر، استشهد معد برنامج ( يوميات واخزة) (كلود بيزنسون) بمقالة منشورة في صحيفة (الهيرالد تريبيون) الدولية يوم 2 حزيران، عنوانها (على طرفي الحاجز) بقلم (نيكولا كريستوف) يجري فيها مقارنة بين قرية (أبو الخير) الفلسطينية المشرفة على الهضاب الجنوبية للخليل، ومستوطنة الكرمل الاسرائيلية التي تمتد على الطرف الآخر من حاجز الأسلاك الشائكة، وقد أراد معد البرنامج أن يعرف موقف الشبيبة من الدياسبورا اليهودية الفرنسية من هذه المقارنة التي يمكن تجسيدها في 3 مفارقات:
أولاً، وصف (كريستوف) الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية، والقدس الشرقية بأنه (انتهاك مرفوض وخطيئة أخلاقية لا يمكن التستر عليها) وقد أجمع شباب الدياسبورا على أن (مايسمى احتلالاً هو تنفيذ لمشيئة الله ، وإنجاز مقدس).
ثانياً، أجرى (كريستوف) مقارنة بين قرية (أم الخير ) الممتدة على الطرف الأول من الحاجز المكهرب بالأسلاك الشائكة، وهي عبارة عن مجموعة من الخيام الممزقة والأكواخ الزرية، ويحرم سكانها من الاستفادة من المولد الكهربائي المجاور، ويحظر عليهم بناء بيوت أو حظائر لحيواناتهم، بل حتى المراحيض، وبين مستوطنة الكرمل التي تمتد على الطرف الآخر من الحاجز وهي أقرب ما تكون إلى واحة خضراء، تبدو كأنها ضاحية أمريكية مزدهرة، تحيط بها الحدائق والأشجار الباسقة، وبالقرب منها مدجنة يتصايح فيها الصيصان. ويقول (ايلادايان) وهو من ناشطي حقوق الانسان: (ان حصة صيصان المدجنة من الكهرباء والماء أكبر بكثير من حصة سكان قرية (أبو الخير) جميعا ـ كان رد فعل شبيبة (الدياسبورا موحدا، إذ أجمع الكل على أن المطلوب هو هجرة السكان الفلسطينيين ، لأن الأرض ليست أرضهم ووجود »أم الخير« هو نوع من الكرم الإسرائيلي المؤقت...).
ثالثا، تحدث (كريستوفر) عن اعتداء المستوطنين الاسرائيليين على التلاميذ الصغار الذين يتوافدون على مدرسة قريبة، ومنعهم من الوصول إلى المدرسة بشتى الوسائل والأساليب، ما دفع بالأجانب الذين يزورون هضاب الخليل إلى التبرع بحماية التلاميذ، وتأمين وصولهم وعودتهم من المدارس بأمان. وقد بارك شباب الدياسبورا هذا الإجراء الإجرامي الشاذ وأجمعوا على ان (الأطفال الفلسطينيين هم ارهابيون لم ينضجوا بعد، ومن الضروري عدم مساعدتهم على التعلم حتى لا يمارسوا الإرهاب قبل الأوان).
ـ 3 ـ
فضح (إيريك رولو)، رئيس قسم الشرق الأوسط في صحيفة: (اللوموند) سابقا، وسفير فرنسا في تونس، ثم في أنقرة سابقا، في دراسة مستفيضة عن المفردات التي تستخدمها إسرائيل بهدف (تعهير) الواقع السياسي في المنطقة وحشوه بمعان كاذبة للتستر على طموحاتها التوسعية الاستيطانية ورفضها الحقيقي للسلام.
تتحدث اسرائيل عن (المناطق المدارة) أو المناطق المتنازع عليها، عوضاً عن المناطق المحتلة لإظهار أن الضفة الغربية وغزة ليستا من حق الفلسطينيين، ولا ينطبق عليهما قرار مجلس الأمن 242، و338، ولا اتفاقيات اوسلو التي وقعت عليها إسرائيل، بل إن إسرائيل لاتزال تطلق عليهما اسمي (يهودا والسامرا) على اعتبار أنهما جزآن من التراب اليهودي.
وترفض إسرائيل، حتى الآن، أن تستخدم كلمة (انسحاب) من الأراضي الفلسطينية المحتلة وتصر على استخدام كلمة (إعادة انتشار)، وقد تبين أن كلمة انسحاب لم ترد في أي نص من النصوص المتداولة في المفاوضات.
ثم إن إسرائيل حينما تأتي على ذكر القدس (العاصمة الأبدية الوحيدة للدولة العبرية) فيما تزعم، فإنها لاتعني المدينة بالذات في حدودها الحقيقية حين احتلها الجيش الإسرائيلي عام 1967، وإنما عاصمة متروبوليتية حجمها أكبر بـ 13 مرة من حجمها الطبيعي الحقيقي لتشمل 952 كيلومتراً مربعاً.
وحينما تتحدث إسرائيل عن الوساطة الأميركية فإنها تعني القبول بالشروط الإسرائيلية، ومحاولة فرضها على الطرف الآخر الفلسطيني، حتى لو كانت هذه الشروط تتعارض مع قرارات الأمم المتحدة وقوانين الشرعية الدولية.
والحرب في المفهوم الإسرائيلي، لا تعني العمليات العسكرية العدوانية التي يشنها الجيش الإسرائيلي بحق الشعب الفلسطيني الأعزل، وإنما هي تظاهرات ومسيرات الفلسطينيين تضامناً مع شهدائهم أو المجاهرة بحقوقهم الوطنية والإنسانية الأساسية.
ويستنتج (ايريك رولو) من دراسته عن (المفردات المتعهرة) أن العقل الإسرائيلي لا يريد السلام، وأن كل المفاوضات التي جرت وتجري وستجري هي مراوغة وخداع وان الهدف منها هو كسب الوقت وترسيخ الاحتلال وتهجير الفلسطينيين خارج فلسطين.
ـ 4 ـ
قد نحتاج إلى كثير من الفطنة لنكتشف ان هناك مخططاً شيطانياً لغرس ثلاث قناعات في تلافيف دماغنا، أولاها غسل إسرائيل بالماء الطهور وعرضها على أنها (محبة للسلام متفانية بالتمسك بالقيم الإنسانية)، وثانيتها الصفح عن الولايات المتحدة وإقناع المترددين بأنها مازالت متمسكة بحقوق الإنسان والديمقراطية الأصلية، وثالثتها إيهام العالم بأن القيم الوحيدة التي تدافع عن كرامة الإنسان هي القيم الغربية، وقد شهدت الساحات الإعلامية طوال الأشهر الماضية طوفاناً من (الأغذية الإعلامية الجذابة) شاركت فيها الإمبراطوريات الإعلامية المرئية والمسموعة والمكتوبة بكثير من البراعة والحنكة وكما قال مراقب يكتفي بالمشاهدة لا بالتحليل: (أغرقونا بالاستعراضات التي أخرجها محترفون أذكياء، حتى بدأنا نخشى من أن نفقد قدرتنا على المحاكمة الصحيحة).
ـ 5 ـ
إن الإنسان العربي الذي تصوغه أغذية حضارية متناقضة يقف كالفاقد ظله، ومن هنا شعوره بالقوة وبعدم الأمان أيضاً معاً. إنه يعرف أن أسوأ الاحتمالات ممكن فينظر إلى الدفاع عما هو كائن باسم ما كان. الإنسان بالنسبة له كائن مهدد مرتبط بميراث المكتسبات الإنسانية وقد انتهت أو تحولت إلى أشياء متعضية. أما المستقبل فهو بمنزلة سارق يسعى إلى ابتزاز ملكيته، وكنتيجة لهذا فهو يحكم عليه لا من وراء ما ستربحه الإنسانية بل من وراء ما توشك أن تخسره.
إن التناقض المفترض بين الحداثة والقيم الخالدة الذي يستخدم عادة لتبرير التنصل من المشاركة هو تناقض مزور. وكما قال (سارتر): (ليس يعيب المثقف أن يكون موزة طازجة في عصره، يقارن بالأثاث والقبعات وأن ينقلب إلى موزة متعفنة في غير عصره). ويذكر (سارتر): أنه قد تكون هناك عصور أجمل وأفضل ولكنه عصرنا وليس لنا إلا هذه الحياة لنحياها ووسط هذه الحرية أو هذه العبودية وعلى المثقف أن يعرف أن المجد الذي يأتي بعد موته سيقوم على سوء تفاهم ذلك أن الخلود هو محاولة لادعاء الغياب في مكان معين لإثبات الوجود في مكان آخر.
ـ 6 ـ
يتحدث (البير كامو) عن (عاهة) تؤرقه وتثير غضبه هي الشعور بعبثية الوجود الإنساني وهو لهذا يدعو إلى التمرد على (فظاعة) العالم الزاخر بالمظالم والمجازر والفساد، يصرخ في كتابه الملحمي (الإنسان المتمرد): (انظروا إلى جثة البراءة التي نصطدم بها أينما توجهنا إنها تكشف عوراتنا ولكنها تظهر لنا جبننا أيضاً. نحن نرفض الجريمة ولكننا سنستمر في ارتكابها وقد لا نجد ضرورة لتبريرها وتفسيرها) ثم يكتب في رواية (الطاعون): (نشاهد الجريمة وهي ترتكب أمامنا ونغتفر للأنظمة الطاغية حمامات الدم في الجزائر، وفيتنام وفلسطين، نتألم ونتوجع، ثم نطوي الصفحة لنراقب فظاعات أخرى قد تكون أكثر هولا، ولكننا نتحصن دائماً بالجبن والبلادة ونكتفي بإشهار ماشهدناه من دون أن يرف لنا جفن).
ـ 7 ـ
لئن كان من المباح في عهد الازدهار الاستجابة لإغراء اللامسؤولية والهامشية والاعتصام بالحياد والزهد فإننا اليوم أكثر من أي وقت مضى لا بد من أن نكون في مغطس ماء مهما تحاشينا التورط في (الشأن العام) أو الانخراط في الصخب الاجتماعي. قد نفضل أن نبقى مغتربين أو قد يفرض علينا أن نكون (منبوذين) أو قد نساق إلى الصمت الأنوف، ولكننا لا نستطيع أن نحلق فوق عصرنا ولا أن ننجو من ارهاقاته.
د. غسان الرفاعي
المصدر: تشرين
إضافة تعليق جديد