العرب يشربون البحر
تمثّل المياه المحلاّة نسبة صغيرة من المياه المستخدَمة في العالم، إلاّ أنّها في الكثير من المدن العربية تمثّل كامل إمدادات الماء. ويبلغ المجـــموع الكلّي للقدرة الإنتاجية المتوافرة في معامل التحلية في البلدان العربية، منذ العام 1944، وفقاً لما ورد في تقرير غلوبال ووتر إنتلجنس، ما يزيد عن 24 مليون متر مكعّب في اليوم، وهذا يوازي نحو 50 في المئة من إجمالي قدرة إنتاج التحلية عالمياً. ويُنتظر أن يزداد دور التحلية كمصدر أساسي لتأمين إمدادات المياه المنزلية في المنطقة، نظراً للنموّ السكّاني وزيادة التوسّع الحضري والتصنيع واستنزاف المصادر غير المتجددة. لكن يتوجّب إدخال إصلاحات في السياسات وممارسات الإدارة المائية لجعل التحلية مصدراً مستداماً للماء. الاصلاحات المطلوبة هي محور هذا الموضوع الذي أعده الدكتور عادل بشناق لتقرير «المياه: إدارة متكاملة لمورد متناقص» الصادر حديثاً عن المنتدى العربي للبيئة والتنمية.
كانت ندرة المياه في المنطقة العربية سبباً لاعتماد التحلية منذ آلاف السنين في بلاد ما بين النهرين والإسكندرية وفلسطين، أما في التاريخ الحديث، فقد عاد استخدام التحلية إلى منطقة البحر الأحمر في أواخر القرن التاسع عشر في بعض المدن، مثل سواكن وأبوقير وعدن وجدّة. ووفق بحث لمحمد الصوفي، فإنّ أوّل جهاز تقطير أحادي الأثر استخدم قرابة العام 1895، وكان يُعرف محلياً باسم «كنداسة»، وتم تجديده بعد الحرب العالمية الأولى، ثم جُدِّدَ ثانية بعد الحرب العالمية الثانية، جاعلاً بذلك مدينة جدّة أول مدينة تعتمد على تحلية مياه البحر لتأمين حاجتها من مياه الشرب طوال أكثر من مئة عام. واستخدمت وحدات تقطير مشابهة في البحرين، وسرعان ما أُنشئت أجهزة تقطير متعدّدة الآثار في الكويت والظهران ورأس تنورة والخبر. وأورد الصوفي أن التقطير الومضيّ المتعدّد المراحل (multi stage flash)بدأ استخدامه على نطاق تجاري في الكويت أولاً خلال الخمسينات. أما أوّل معمل لتحلية مياه البحر باستخدام تقنية التناضح العكسي (reverse osmosis) للإمدادات المائية البلدية خارج الولايات المتحدة، فقد بدأ تشغيله في جدّة عام 1978.
وهكذا، فإنّ معظم تكنولوجيات التحلية التجارية الحاليّة طُوِّرت عبر تطبيقات واسعة النطاق في عدد من الدول العربية. وتعتبر دول مجلس التعاون الخليجي والجزائر وليبيا ومصر أكبر مستخدمي هذه التكنولوجيات في المنطقة حالياً. وستتواصل نسبة الزيادة السنويّة العالية في القدرة الإنتاجيّة المقرّرة خلال العقد المقبل. ويستلزم هذا التوسّع الكبير مراجعة السياسات والممارسات الحاليّة، بما فيها كيفيّة زيادة القدرة المحليّة والمعرفة والقيمة المضافة للاقتصادات المحليّة.
تكنولوجيات التحلية وإدارة التكاليف
كانت تقنيّة التناضح العكسي الطريقة الأكثر استخداماً في أنحاء العالم خلال السنوات الـ 25 الأخيرة. وتعتمد دول مجلس التعاون الخليجي أسلوب التوليد المزدوج للكهرباء والماء في المعامل الكبرى من أجل زيادة كفاءة استخدام الوقود. لذلك يشيع استخدام تكنولوجيات التحلية الحرارية في هذه البلدان. ولكن حيث تتوافر الطاقة الكهربائية، أو حين يكون الماء الممولح هو المصدر، تُستخدم تكنولوجيات الأغشية.
يمكن تصنيف التكنولوجيات التجارية المستخدمة اليوم للتحلية في فئتين: التكنولوجيات الحرارية، بما فيها التقطير الومضي المتعدد المراحل، والتقطير المتعدد الآثار، وضغط البخار، وتكنولوجيات الأغشية، بما فيها التناضح العكسي لماء البحر والتناضح العكسي للماء الممولح والديلزة الكهربائية/ نزع الأيونات والترشيح النانوي. وثمّة عدد من تكنولوجيات التحلية الجديدة التي لا تزال قيد التطوير في العديد من مناطق العالم. ومنها التقطير بالأغشية، وأغشية الأنابيب النانوية الكربونية، وأغشية الأكوابورين (محاكاة حيوية)، وأغشية النانو المركبة، والتناضح الأمامي، والديلزة الكهربائية/نزع الأيونات. غير أنّ بعض خبراء التحلية يشكوّن في جدوى وضع آمال كبيرة على هذه التكنولوجيات لتحلية مياه البحر.
تستهلك التحلية الكثير من رأس المال والطاقة، وتتأثّر خيارات خفض التكاليف بمهارات التشغيل وتغيّرات نوعية الماء الملقّم. أما التكاليف الرأسمالية، فتتوقّف على نوعية الماء والقدرة الإنتاجية والبنية التحتية اللازمة، وكفاءة المعمل، واختيار الموادّ، وعوامل أخرى ترتبط بالموقع. وقد تراوحت الكلفة الرأسمالية للوحدة في معامل تحلية مياه البحر سنة 2010 بين 1000 و2000 دولار لكل متر مكعّب يومياً من القدرة المركّبة القصوى. وتقدّر الكلفة الرأسمالية للوحدة في معامل الماء الممولح بما بين 25 و45 في المئة من كلفة الوحدة في معامل مياه البحر. ويوضح الشكل 3 تكاليف التشغيل النسبية لتكنولوجيات التحلية الأساسية الثلاث في معامل التوليد المزدوج، علماً أنّ نفقات تشغيل المعامل الحرارية هي أعلى بكثير إذا لم يتوافر ناتج الحرارة أو البخار في الموقع. كما نعلم أنّ التحلية هي عادة أغلى خيارات مصادر المياه من بين الخيارات المحليّة الأخرى.
مخاوف بيئية
تثير معامل التحلية القلق حيال عدة نقاط ينبغي التصدّي لها ومعالجتها. ويتعلّق الأثر البيئي الرئيسي لمعظم معامل التحلية بمصادر طاقتها وببصماتها الكربونية، ففي معامل التقطير الومضي المتعدّد المراحل تتراوح بين 10 و 20 كيلوغراماً من ثاني اوكسيد الكربون في المتر المكعب، أما في معامل التقطير المتعدّد الآثار/ ضغط البخار الحراري، فهي في مجال 11,2 ـ 19,6 كيلوغراماً وفقاً لمعدّل دورة الحرارة. وتبلغ البصمة الكربونية للمعامل الحرارية الأحادية الغرض أضعاف هذه المستويات إذا لم تتوافر الحرارة المهدورة. ومن الجدير بالملاحظة أيضاً أنّ جميع المعامل الحرارية تقريباً في منطقة الخليج تحاول خفض التكاليف الرأسمالية بعد استخدم دورات حرارة منخفضة، وينجم عن ذلك بصمة كربونية أكبر. ومن المفيد كذلك أن نذكر أنّ البصمة الكربونية لمعامل توليد الطاقة تتراوح بين 0,5 و0,8 كيلوغرام من ثاني أوكسيد الكربون لكل كيلوواط ساعة، وفقاً لنوعية الوقود المستخدم وكفاءة المعمل.
لم يتم إجراء أي دراسة معمّقة لآثار الماء المطروح من معامل التحلية الحرارية على المستوى الإقليمي. وثمّة ما يثير القلق من الآثار المحتملة لتصريف المياه المالحة على البيئة البحرية. وحسبما جاء في تقرير للبنك الدولي عام 2007، «فإنّ تصريف الماء الساخن الشديد الملوحة والكلور المتخلّف والآثار المعدنيّة والهيدروكربونات المتطايرة والمواد المانعة للترغّي والتقشّر، كلها عوامل ذات تأثيرات ضارّة على البيئة البحريّة القريبة من الشاطئ في الخليج». ويستدعي ازدياد أعداد معامل التحلية في الخليج وارتفاع درجات حرارة مياهه إجراء دراسات شاملة وإعداد نماذج لمواجهة المشاكل المستقبليّة المحتملة وإيجاد حلول لها. يمكن بسهولة التخفيف من آثار المياه المالحة الناتجة من تحلية مياه البحر بالتناضح العكسي على الحياة البحرية، عن طريق تخفيف ملوحتها وتعديل تصميم المخارج. أما المياه المالحة الناتجة من معامل تحلية المياه الممولحة فتبقى همّاً أكبر من الناحيتين البيئية والمالية، وينبغي إعطاء أولوية لتخفيض كمياتها واستخدامها لأغراض أخرى مفيدة، مثل إنتاج الطاقة.
لم تُلاحَظ في دول مجلس التعاون الخليجي، على مدى عشرات السنين أي مخاطر صحّية مباشرة مرتبطة بنوعيّة مياه الشرب المحلاّة، إلاّ أنّه من الضروري إجراء المزيد من الدراسات لتعيين الحدود الصحية لتواجد معادن منعيّة في البيئات المحلية.
ولدى بعض البلدان العربية قوانين بيئية تنظّم بناء معامل التحلية وتشغيلها، إلاّ أنها لا تُنَفَّذ. وينبغي تخصيص الموارد اللازمة لضمان تقيّد منشآت القطاع الخاص والمنشآت الحكوميّة بهذه الأنظمة.
تطوير القدرات
يشتمل تطوير القدرات المحلية على اكتساب مقدرة صنع المعرفة المتطوّرة وقابليّة استخدام هذه المعرفة من أجل رفع القيمة الاقتصادية عن طريق الابتكار والتسويق العالمي. كما ينطوي على تشجيع ورعاية القيادات المتخصّصة المحلية وتوفير الدعم المالي واللوجستي لأصحاب المواهب المحلية لتوظيف أفكارهم في إنتاج قيمة عالمية المستوى.
يؤدّي المجلس العربي للمياه دوراً فاعلاً في بناء القدرات، فقد أنشأ الأكاديمية العربية للمياه والشبكة العربية لتكنولوجيا التحلية، من أجل تسهيل التواصل وبناء القدرات والتعاون بين خبراء التحلية في الدول العربية وفي العالم. وتُعتبر الأكاديمية العربية للمياه، ومركزها أبوظبي، مثلاً جيّداً على فوائد التعاون العربي الإقليمي. وقد بدأت برامجها لبناء القدرات في حوكمة المياه. كما أنّها نظّمت سنة 2010 أوّل اجتماع ضمّ كبارالمسؤولين عن مؤسسات المياه في البلدان العربية، ويُنتظر أن تنجم عنه مبادرات وبرامج عربيّة مشتركة مفيدة في مجال تطوير القدرات.
وبدأت شركة المياه الوطنية في السعودية مشروعاً طموحاً لبناء مركز وطني للتدريب في جدّة لخدمة المنطقة بأسرها، وليكون نموذجاً عالمياً في الجمع بين التدريب والتطوير التكنولوجي. وذلك لتعزيز المعرفة والابتكار في جميع الحقول المتعلّقة بالمياه، ومن ضمنها التحلية.
يمكن أن تكون التحلية مصدراً مستداماً للماء في الدول العربية ومحرّكاً للاقتصاد المبني على المعرفة، إذا ما جرى تطبيق الإصلاحات والتوصيات اللازمة. وعلى الحكومات أن تبدأ بالإصلاحات في تعرفات المياه، وترشيد استخدام المياه، وبرامج الادارة المتكاملة للمياه. ويجب وضع التحلية بالطاقة الشمسية على رأس أولويّات التطوير التكنولوجي المطلوب في الدول العربية. ومن الأولويّات التي يجب وضعها على رأس إصلاحات السياسات المائية توفير استهلاك المياء وإدارة الطلب لجميع الاستخدامات، خصوصاً في الزراعة.
وفي ما يأتي مقترحات لجعل تحلية مياه البحرمصدراً مستداماً للمياه:
- زيادة تعرفات الماء لاسترداد كامل كلفة إمدادات المياه وخدمات مياه الصرف، وذلك لتحقيق الاستدامة المالية والبيئية لتوفير خدمات المياه. وينبغي إقرار إعانات حكوميّة هادفة وذكيّة وموجّهة للفقراء، بدلاً من الدعم العامّ لأسعار الماء، وذلك من أجل ضمان الاقتصاد في الاستهلاك والعدالة الاجتماعية.
- تخفيض التسرب من الشبكات وتقليص المياه غير المحسوبة، قبل زيادة الإمدادات برفع القدرة الإنتاجية لمعامل التحلية القائمة أو بناء معامل جديدة. وهذا أمر أساسي لضمان المحافظة على الموارد الطبيعية والمالية.
- تحويل مهمّة البلديات وكبار مستخدمي المياه إلى شراء الماء بالجملة بسعر أدنى للوحدة وبكمّيات ونوعيّات محدّدة بدلاً من شراء معامل تحلية متكاملة. وينبغي أن تكفّ الحكومات عن تملّك الأصول المادية لمعامل التحلية، وأن تقوم بدور تنظيمي، كما ينبغي التوسّع في المشاريع المشتركة بين القطاعين العام والخاص، وكذلك تعميم صناديق الماء أو نماذج الوقف المائي.
- إنشاء منافع عامّة حكوميّة، كصناديق مستقلّة للماء (أوقاف) أو تشغيلها كشركات تجارية ذاتية التمويل، وذلك لتوفير المياه الموثوقة والمستدامة بكلفة دنيا للأجيال الحاضرة والقادمة.
- إلزام جميع معامل التحلية الجديدة بتخفيض استهلاك الطاقة وتصغير البصمة الكربونيّة لكلّ وحدة ماء منتَجة. وينبغي أن تضع الحكومات العربية حدوداً قصوى لانبعاثات الكربون من معامل المياه.
- يجب أن يتمّ تطوير تكنولوجيات تحلية جديدة بالطاقة الشمسية للأنظمة الكبيرة والصغيرة على رأس أولويّات برامج الأبحاث والتطوير في العالم العربي. ويمكن أن تشكّل المنتجات والحلول التقنية قاعدة اقتصاديّة ثابتة للعديد من بلدان المنطقة. وعلى الدول العربية ان تخطّط لتصدير الطاقة الشمسية لتحقيق الازدهار في المستقبل بمقدار ما تعتمد حالياً على تصدير النفط والغاز.
- وضع معايير بيئية وتطبيق المعايير الحالية على جميع معامل التحلية، سواء أكانت مملوكة للقطاع الخاص أم لهيئات حكومية. وينبغي وضع مهل زمنية محدّدة للمعامل التي تملكها أو تديرها الحكومات والتي تتسبّب في تلوّث الماء والهواء، كي تلتزم بالمواصفات القانونية.
- على الحكومات أن تدعم بلا حدود الاستثمارات الخاصة في الأبحاث والتطوير والتدريب، والمشاريع التكنولوجيّة الجديدة، والصناعات المحليّة القائمة على المعرفة. وينبغي أن يكون هذا الدعم متكاملاً، بحيث يحقّق النتائج الاقتصادية المحلية الوطنية ويخدم أهداف التصدير في الصناعات الاستراتيجية، مثل تحلية المياه وانتاج الطاقة الشمسية.
- من مصلحة الدول العربية أن تضع برامج مشتركة للأبحاث والتطوير، خاصة بالتحلية والطاقة المتجدّدة، وأن ترفع إلى أقصى حدّ ممكن قيمة الأفكار الجديدة ونتائج الأبحاث التي تصدرها مؤسسات المعرفة الجديدة، مثل جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية ومؤسسة قطر للتربية والعلوم.
عادل بشناق
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد