ما لا تقوله دمشق عن اطمئنانها والمرارة
يروي زوار دمشق، «الواصلون» فيها ومنها، أن الأهم ممّا تسمعه هناك، هو ما تفهمه من الإيماءات والإشارات وتعابير الوجه وأنصاف العبارات. تفهم في دمشق أن أهل النظام لا يخشون سقوطه. فهو المتهم منذ أربعة عقود ونيف بأنه «نظام أجهزة»، أفاد كلياً من هذه «الصفة» ليطمئن أمنياً. وحين تحول العبء عسكرياً مع تحول الاضطرابات إلى الطابع العسكري، بدا مرة أخرى أن المؤسسة العسكرية السورية قادرة على تأدية المهمة. البعض يقول إن الجيش السوري في النهاية هو جيش «القضية العربية الكبرى»، وبالتالي فهو مؤدلج على مواجهة «المؤامرات». وهذا ما ضمن تماسكه وحسن تنفيذه المهمات المطلوبة منه. حتى إن الضابط الذي كلف تسوية الوضع في درعا كان بدوياً من أبناء المنطقة، والذي دخل إلى حماه كان حموياً... فيما البعض الآخر يقول إن القيادة عرفت كيف تحمِّل الوحدات «القادرة» وتريح من يجب إراحته... لكن في الحالتين، يفهم زوار دمشق أن الوضع الأمني هناك ممسوك، والوضع العسكري متماسك، وهما أساسان للاطمئنان العام.
ويتابع هؤلاء أن الوضع الاقتصادي لا يحمل على القلق الذي يثيره البعض. فسوريا بلد اعتاد نوعاً من الاكتفاء منذ زمن، فضلاً عن مجتمع زراعي بنسب ساحقة، ما يقلص حاجاته الى حدود الضروري والحياتي. كذلك فإن التموين في المواد الأساسية يبدو مكفولاً. فهذه الدولة كانت تتحسّب دوماً لحروب خارجية قد تمتد أشهراً طويلة، وهي بالتالي مستعدة لحالات تموينية مماثلة. والوضع نفسه يسري على الجوانب الاقتصادية الأخرى، مالياً ونقدياً.
يفهم «الواصلون» في دمشق أن أهل النظام مطمئنون إلى داخله لهذه النواحي. لكن ذلك لا يعني أنهم غافلون عن ضرورة الإصلاح. لا بل على العكس، ثمة قرار حاسم ونهائي بإجرائه. وهنا تظهر علامة القلق الأولى في دمشق، بحسب الزوار أنفسهم: أي إصلاح؟ بأي مقدار وكيف ومتى؟ وفق أي خارطة طريق؟ ومع أي شريك من أهل المعارضة الوطنية، قادر على تمثيل الرأي الآخر في الشارع والمنتديات؟ ويؤكد هؤلاء أن هذه التساؤلات ليست قطعاً من باب المماطلة أو التنصل من ضرورة الإصلاح، لا بل على العكس، فهي مؤشر على وطأة هذه المسألة عند كل مسؤول ومعني.
ويلفت أصحاب تلك القراءة إلى أمر غير معروف، وهو أن أهل دمشق كمن يفتش عن الأفكار الجديدة والجيدة. لا بل تفهم منهم أن أكثر ما قد يحتاجون إليه الآن في هذا السياق، ليس هو المواعظ من الأصدقاء، ولا طبعاً الهجاءات من الأخصام، ولا حتى المزايدات من الحلفاء. تكاد تفهم من الوجوه المعبّرة بصمت: لسنا في حاجة إلى «صحَّاف» ثان، أو «تشرين» رابعة. نحتاج إلى أفكار مفيدة وخلّاقة، خصوصاً في الإصلاح، وفي المقاربات الإعلامية المطلوبة.
أما على المستوى الخارجي، فيستخلص «الواصلون» أنفسهم الاطمئنان نفسه، مشوباً بالتساؤلات نفسها. يفهمون في دمشق أن السقوف للضغوط الخارجية باتت واضحة وجامدة وغير قابلة للتعديل. تحدّها من جهة «شبكة الأمان» الإيرانية العراقية إقليمياً، والروسية الصينية دولياً، كما تحدّها من جهة أخرى سلسلة الانهيارات الغربية، عسكرياً في ليبيا واقتصادياً في كل أوروبا وأميركا. لا حروب غربية مباشرة بعد اليوم، يُفهم من دمشق، أو يُفهم اطمئنان أهلها من هذه الزاوية. تبقى الحروب البديلة أو بواسطة الوكلاء. وهذه ترجمتها في الوضع السوري وحيدة: تركيا، فيما أنقره بدأت تعيش ارتدادات تورّطها الشامي؛ عسكرياً مع أزمة الجيش التي لم تنته، جيش الأكثرية المذهبية المعروفة، التي سمّاها أتاتورك «حماة العلمانية التركية»، وأمنياً في ظل بروز الحركات الكردية، واقتصادياً مع تنامي اعتراضات أهل «البازار» الإسطمبولي، وسياسياً بعد استغلال خصوم أردوغان لتورّطه السوري...
هذا هو السقف... لكن مع ذلك يفهم «الواصلون» في دمشق أن لدى أهلها مرارة من حكام أنقره. نوع من الخيبة وإحساس بالجحود. بعد الوساطة مع إسرائيل وفتح الباب العربي، وتلميع الصورة وتكبير الدور. مرارة تترك إحساساً كأن أهل الشام يبحثون عمن يقوم بدور وسيط، من دون أن يطلبوا أو حتى يذكروا، فيما المرشحون لدور كهذا معدومون. كان ثمة أمل باق في القاهرة، قبل أن يتبيّن أن حكامها الجدد لم يخرجوا بعد من «الميدان» ولم تنقشع رؤيتهم أبعد منه. حتى اللبنانيون يمرون في حساب المرشحين نظرياً لدور كهذا. لكن من دون أوهام: حزب الله شريك كامل في الربح والخسارة. بري ثقة مطلقة. عون يحبونه هناك. ميقاتي يكتسب تدريجاً حمراوية الخط. جنبلاط رغم كل شيء، يطمئنهم في مكان جوهري ما...لكن ما من مرشح لدور في رفع المرارات الخارجية. في الانتظار تستمر دروس الديموقراطية من ثيوقراطية آل سعود، وشهود العيان من معاهد العميان.
جان عزيز
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد