مدحة عكاش عميد الثقافة السورية يغادر دمشق بعد نصف قرن من الكتابة عنها
منذ عام 1945 لم يترك مدحة عكاش دمشق بعد أن جاء للتدريس فيها من مدينته حماة ليعمل أستاذاً في المعهد العربي الإسلامي ويؤسس مجلته الثقافة عام 1958 بعد حصوله على ترخيص مزدوج بإقامتها من قبل رئيسي الوحدة بين مصر وسورية جمال عبد الناصر وشكري القوتلي فالرجلان كانا متفقين على شخص عكاش الذي وجدا فيه موهبة كبيرة بأن يكون صاحب مبادرة أولى لصحافة قومية عربية أخذت على عاتقها منذ بداياتها في خمسينيات القرن الفائت نبش مواهب أدبية أسست فيما بعد لحركة إبداعية من المحيط إلى الخليج.
وأسهم عكاش الذي رحل أمس عن 88عاماً في ترسيخ تقاليد العمل في الصحافة الثقافية السورية منجزاً عشرات الدراسات والكتب والتحقيقات الأدبية والشعرية في الترجمة والأدب المقارن والتراث فكان له ابن الرومي دراسة دمشق 1948 روائع الأدب الأندلسي دراسة ومختارات دمشق بدوي الجبل دراسة ومختارات رسائل الجاحظ- يا ليل شعر دمشق 1980- مختارات أدبية دمشق- القصائد الأولى بيتر تومبست.
وشارك صاحب ديوان يا ليل الذي ولد في درعا عام 1923 بحكم عمل والده قبل أن يعود إلى مدينته حماة متمماً تعليمه في مدينة النواعير التي أحبها وكتب لها ليتابع بعدها دراسته الجامعية في دمشق كلية الحقوق فنال الإجازة فيها وعمل في حقل التدريس في ثانويات دمشق ومديراً لبعضها مدة طويلة إلى أن نجح في تأسيس مجلة الثقافة التي استطاعت جمع أقلام كتاب الستينيات من أمثال عمر أبو ريشة ونزار قباني الذي نشر أولى قصائده على صفحاتها بالإضافة لصداقته مع الكثير من الأدباء الذين أغنوا المجلة الرائدة بعشرات القصائد والدراسات الهامة كالشاعر بدوي الجبل الذي ربطته علاقة وطيدة بعكاش لسنوات طوال ونديم محمد ومحمد البزم ومحمد الحريري وغيرهم.
كما تمكن عكاش الذيلا كرمته وزارة الثقافة عام 2007 تقديرا لابداعاته ودوره الكبير في خدمة الثقافة من اكتشاف أصوات أدبية جديدة ولاسيما الأديبة غادة السمان التي نشرت أولى قصصها بعد زيارة أبيها لعكاش في مقر المجلة وتشجيع هذا الأخير للطفلة التي لم تكن قد تجاوزت سن الخامسة عشرة من عمرها حيث سجلت لأرشيف مجلة الثقافة الأسبوعية والشهرية قصصاً وقصائد مهدت فيما بعد لنشأتها الأدبية وانتقالها للعيش في بيروت والكتابة من هناك.
ولعب عميد الثقافة السورية عبر مجلته الرائدة دوراً رئيساً في تمكين اللغة العربية مدافعاً عن القيم الفكرية والروحية والتاريخية التي تمثلها هذه اللغة في حياة إنسانها العربي مشجعاً عشرات الأقلام الصاعدة بالنشر لها ونصيحتها والأخذ بيدها على طريق الإبداع رغم الظروف الصعبة التي مرت بها مجلته بعد الانفصال بين سورية ومصر عام 1961 إلا أنه تمكن من إتمام طريقه مستنهضاً همم أصدقائه وعشاق الثقافة جاعلاً من مقر مجلته في زقاق الصخر الكائن في شارع الأرجنتين بدمشق ما يشبه منتدى أدبياً تحلق على طاولته المسائية خيرة أدباء سورية وكتابها كشوقي بغدادي وندرة اليازجي وعيسى فتوح ورضا رجب وسواهم.
وتميزت مؤلفات عكاش التي أصدرها من مطبعة مجلة الثقافة بجزالة اللغة وقدرة سردية خاصة عبرت عن موهبة الأديب الراحل وسعة إطلاعه على عيون التراث العربي وأمهات كتب الأدب لما تمتع به من قدرة لافتة في رواية الشعر العربي وحفظه واستحضار أعلامه في العصور كافة حيث كان لديوانه يا ليل صدى طيب في أوساط محبي الشعر ومتابعيه فقد استلهم سيرة هذا الكتاب من ليل امروء القيس سيرة الأمير ذي القروح وليله الطويل في طلب النجدة بعد تعرضه للقتل والخديعة كأمير عربي لمملكة كندة من قبل قبائل الأعراب.
ولم يتوان عميد الثقافة العربية عن المجيء إلى مقر مجلة الثقافة الجديد الكائن في برج دمشق إذ واظب رغم أحواله الصحية الصعبة على قراءة وتحرير الأعداد الأسبوعية والشهرية من المجلة حتى أيامه الأخيرة مشجعاً كل قلم جديد ولاسيما بعد أن فقد الرجل مقر مجلته القديم في زقاق الصخر الذي سجل له وللكثير من أدباء الشام أحلى أمسيات الشعر والحوارات والجدل والسجال في نقد التيارات الجديدة في سياق القصيدة العربية الكلاسيكية وفي الرد والاشتباك على صفحات المجلة على مقالات هاجمت بنية الشعر العربي وأصالته.
ويحفل أرشيف مجلة الثقافة بتاريخ جامع لمعظم أدباء سورية والوطن العربي تقارب أكثر من خمسين مجلداً ضخماً أشرف الفقيد على إعدادها وتصنيف أوراقها في مكتبه مضيفاً بذلك وثيقة هامة من وثائق الأدب العربي المعاصر ينتظر من يقوم بتحليله وتسليط الضوء على خزائنه بواسطة النص النقدي المتوازن وشديد الصبر والتدقيق في مرحلة أسست لنهضة أدبية وقومية كانت مجلة الثقافة آخر رموزها المعرفية وأيقونتها الخالدة في تأريخ دنيا الأدب فاستحق مدحة عكاش لقب عميد الثقافة السورية الذي اطلقه عليه الرئيس الراحل حافظ الاسد ومده ايضا بالكثير من الدعم والتقدير في مسيرته فكان عاشقها وكاتب غزلياتها وسميرها الحموي الرقيق.
سامر إسماعيل
المصدر: سانا
إضافة تعليق جديد