«لم آت لألقي خطاباَ»: رهبة ماركيز في صباه وشيخوخته
نادراً ما يتنبأ المرء بما ينتظره في المستقبل؛ أو يعد خطاباً ليعرضه بعد ما يزيد على ستين عاماً, حتى لو كان يأمل أن يصدر في كتاب،.
فيعد له العدة ويجمع النصوص قبل عدة عقود, أو يتنبأ بأنه سيصبح صاحب شأن ثقافي لتتحول هذه الخطب وتصدر للقارئ على شكل كتاب يخص ما قاله هذا الروائي أو ذاك الأديب في المناسبات والمنعطفات التي مرت بحياته. «لم آت لألقي خطاباً» للكاتب الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز، منشورات (الهيئة العامة السورية للكتاب)، ضم 22 خطبة كتبها صاحب «الحب في زمان الكوليرا» بترجمة لافتة لصالح علماني، فمع أول انطلاقة فعلية للحياة العملية كانت خطبة الروائي الكولومبي في السابعة عشرة أثناء تخرجه من المدرسة الثانوية, لتتوالى بعدها الخطب والمناسبات؛ لكن كيف بدأت الكتابة؟ عاد ماركيز إلى الخطابة ليبوح إلى جمهوره بحجم الرهبة التي كان يشعر بها في تلك الفترة, وبسبب تورطه في أول قصة قصيرة كتبها, وحجم المفاجأة التي تلقاها عندما شاهد ما كتبه منشوراً في صحف اليوم التالي, الأمر الذي وضعه في مواجهة الكتابة رغماً عنه, لكن تلقيه جائزة روميلو غاييغوس الدولية للرواية عن
روايته الشهيرة «مئة عام من العزلة» جعله يعيد تجربة الخطابة ويعتلي المنبر, ليصبح فن الخطابة تقليداً أو ضرورة في المناسبات كمجموعة الخطابات التي ألقاها أثناء تكريمه في مدن مختلفة كمدينة مكسيكو التي ألقى فيها «وطن آخر مختلف» و «عزلة أميركا اللاتينية» الذي ألقاه في ستوكهولم بمناسبة تلقيه جائزة نوبل, والتي استغلها لطرح عزلة القارة الجنوبية مستعرضاً الأحداث التي مرت عليها وأثرها السلبي على الإنسان, رافضاً أن يكون مبدأ القياس موضوعياً بين سكان تلك القارة وسكان الغرب الأوربي أو أمريكا الشمالية؛ على اعتبار أن أضرار الحياة ليست متساوية على حد تعبيره, مطالباً لندن أن تنظر إليهم بعين الماضي الذي احتاجته للوصول إلى هذا التطور, وروما قبل أن يستقبلها التاريخ, ويهجرها اثنا عشر مرتزقاً ألمانياً ذبحوا ثمانية آلاف من سكانها ونهبوها, مخاطباً تلك الدول بأن التضامن مع أحلامهم لا يكفي ولن يجعلهم يشعرون بعزلة أقل, لكنه يعود ليقول إن إرادة الحياة هي التفوق العنيد على الموت بالرغم من الاضطهاد والنهب والمجاعات والفيضانات, كما اعتبر فوزه بالجائزة درساً آخر من دروس القدر المباغتة العصية على الفهم. في مشاركته أيضاً في ملتقى المثقفين من أجل سيادة الشعوب في هافانا عام 1985 قدم خطبة بعنوان «كلمات لألفية جديدة» وفي اجتماع القمة الثانية لمجموعة الستة في المكسيك جاء خطابه بعنوان «كارثة ديموقليس» الذي تمحور حول السلام ونزع السلاح النووي؛ مبرراً خوفه على مستقبل الحياة؛ ولاسيما بعد امتلاك العالم لترسانة نووية هائلة, إضافة للمناسبات الثقافية كحفل افتتاح مقر مؤسسة السينما الأمريكية اللاتينية الجديدة, وافتتاح معرض تصور وخيال بمناسبة مرور خمسة وسبعين عاماً من الرسم الأمريكي اللاتيني, أقيم المعرض وقتها في كاراكاس, غير أن صاحب «خريف البطريرك» شارك بمداخلة أثناء القمة الأمريكية اللاتينية الأولى لمجموعة المئة؛ وباقتراح خلق اتحاد بيئي أمريكي لا تيني.
كان لماركيز خطابات في مناسبات خاصة على شرف بلوغ الرئيس الكولومبي« بيليساريو بيتانكور»عامه السبعين, وخطاب الصحافة أفضل مهنة في العالم الذي ألقاه في الولايات المتحدة بوصفه رئيس مؤسسة الصحافة الجديدة الإيبروأمريكية, أما آخر خطاب تضمنه الكتاب فهو «روح مفتوحة لتلقي رسائل بالقشتالية» كان في قصر المؤتمرات بمدينة كارتاخينا, خلال المؤتمر الرابع للغة بمناسبة الاحتفاءً ببلوغه عامه الثمانين؛ واحتفالاً بمرور أربعين عاماً على نشر «مئة عام من العزلة» وانقضاء خمسة وعشرين عاماً على نيله جائزة نوبل.
ربما لن تلاقي الخطابات اهتماماً كبيراً لدى القارئ العربي؛ لكننا لا نستطيع أن ننكر أنها حَوت موضوعات أدبه المركزية, واطلعنا من خلالها على بعض الأسرار الجميلة والفريدة كرغبته في أن يصبح مخرجاً سينمائياً, ذلك الحلم الذي لم يستطع تحقيقه, لكنه استطاع أن يعيش مغامرته الوحيدة ضمن هذا المجال مع فريق إخراج تلفزيوني, بعد أن تم اختياره ليكون مساعداً ثالثاً للمخرج في فيلم «من المؤسف أنه وغداً» لتصل فرحته إلى ذروتها, ليس بسبب تقدمه الشخصي في هذا الحلم وحسب, بل بسبب الفرصة التي أتاحها له القدر ليتعرف على الممثلة «صوفيا لورين» الجميلة التي لم يستطع أن يشاهدها قط خلال تجربته الإخراجية التي استمرت شهراً كاملاً, حيث إن عمله اقتصر على الإمساك بحبل عند الناصية للحيلولة دون مرور الفضوليين. كما فاجأنا عندما كشف لنا أنه لم يستطع أن يجد أي وثيقة رسمية أو شهادة مباشرة أو بعيدة عن الثلاثة آلاف قتيل الذين دفنهم في روايته «مئة عام من العزلة» وان الضحايا لم يتجاوزوا السبعة أشخاص.
حاول ماركيز أن يترفع عن فن الخطابة, ومن العنوان الذي اختاره لكتابه «لم آت لألقي خطاباً» حاول أن يوحي للقارئ أنه لا يحب أن يكون خطيباً, كذلك الأمر في أول خطاب ألقاه في مدرسته, وفي الخطاب الذي سرد لنا به رحلته مع الكتابة «أعترف بأنني فعلت كل ما هو ممكن كيلا أحضر, حاولت أن أمرض, سعيت لأن أصاب بنزلة رؤية, ذهبت إلى الحلاق على أمل أن يذبحني» وعاد ليكرر الشيء ذاته لدى تلقيه الجائزة «عاهدت نفسي على عدم تلقي جائزة وإلقاء خطاب» ربما كان علينا أن نصدق ادعاءه, فيما لو أنه لم يجمع تلك الخطب التي وجدها«مصادفة؟» في ملف مهمل منذ سنوات، بين أوراقه المتراكمة، ويقدمها ضمن مؤلف, عنه، وإلا فسنعتبر كل ماقاله صاحب نوبل مجرد لعبة من ألعابة المدهشة على الدوام.
لؤي ماجد سلمان
المصدر: تشرين
إضافة تعليق جديد