ساراماغو والموت الذي اختفى
حلم البشرية الدائم هو الخلود، ورعبها الدائم هو كل ما يهدد باختصار ذلك الحلم وإنهائه، أي مجيء الموت. ذلك ما يلعب عليه الروائي البرتغالي ساراماغو في روايته «موت غير متواصل» أو «موت مع أوقات مستقطعة»، التي نشرت بالبرتغالية عام 2005 (الترجمة الإنكليزية 2008)، أي بعد حصول الكاتب على جائزة نوبل (1998) بسبعة أعوام وقبل وفاته بعامين (2010). ومع أن من الطبيعي أن يكون الموت هاجساً ملحاً في ذهن رجل تجاوز الثمانين، فإن الرواية ليست مجرد هواجس إنسان بلغ من العمر أرذله، وإنما هي تأملات مبدع في الأبعاد المختلفة، السياسي منها والاجتماعي والفلسفي والروحي، لما ينتظر البشر أياً كانت أعمارهم.
تقدم الرواية وضعاً غرائبياً لبلاد لم يحدد مكانها حين استيقظ الناس فيها بداية أحد الأعوام على ظاهرة شديدة الغرابة: لم يمت أحد. والدة رئيس الجمهورية التي بلغ بها الكبر والمرض حد النهاية كانت أبرز المتخلفين عن الرحيل، الأمر الذي حيّر الأطباء والناس المحيطين بها ووضع أحداث الرواية في معمعمة السياسة، لكن ما إن يتضح أن الوضع عام في المستشفيات وفي الشوارع والمنازل فإن الأمر يتحول إلى ظاهرة اجتماعية غير مسبوقة في تاريخ البشر. تلك الظاهرة مقتصرة على البلاد التي تصورها الرواية، إذ إن الموت يواصل عمله في كل الدول الأخرى ومنها المحيطة.
يبدأ ساراماغو في اللعب على الدلالات للوضع الطارئ حين تبدأ المشكلات السياسية، فينتاب الدولة قلق كبير حين تبدأ في استيعاب ما ينتظرها من مشكلات في الخدمات، أولها امتلاء المستشفيات بأناس يمرضون ولا يموتون، ودور العجزة بأناس يهرمون ولا يرحلون، فلا تعود هناك أماكن لغيرهم، وحين يلوح شبح الاكتظاظ السكاني ومشكلاته المختلفة في المساكن والشوارع وغيرها. كما تتضح سخرية الوضع حين تفلس الشركات التي تتكفل بدفن الموتى ويفلس كل من يعيش على تجهيزهم وتوفير حاجات العزاء.
ثم تأتي مشكلة أخرى دينية تتصل بالعقيدة المسيحية، حين تتساءل الكنيسة عن تعطل المهام الروحية المنتظرة للبشر سواء على الأرض أو ما بعدها، بل إن الموضوع يصبح خطيراً حين تثار الشكوك في دور المسيح المخلص وصلبه من أجل البشرية. هنا نلمح ساراماغو الذي طالما خاض مشكلات مع الكنيسة منذ روايته «الكتاب المقدس حسب عيسى المسيح» (1993) التي حولتها هوليوود إلى فيلم وأثار، مثل الرواية نفسها، ضجة لتصويره المسيح عليه السلام بوصفه إنساناً عادياً يعتور النقص شخصيته. ولكننا نلمح أيضاً ساراماغو الذي خاض مشكلات سياسية مع الحكومة البرتغالية التي سحبت تلك الرواية من القائمة القصيرة لجائزة الرواية الأوروبية بحجة إساءتها للمعتقد المسيحي الكاثوليكي.
نحن إذاً إزاء تصفية حسابات، من ناحية، مع النظامين السياسي والديني، وإعادة طرح، من ناحية أخرى، لآراء الكاتب البرتغالي على مستويات أعم منها السياسة والدين. رواية «الموت مع أوقات مستقطعة» تحمل ذلك وتحمل إلى جانبه نظرات في الوضع الإنساني تجاه الموت، بل ومعنى الموت نفسه. العنوان يشير إلى الوضع الغريب الناتج من غياب الموت عن البلاد التي تتحدث عنها الرواية، فالموت هو الأصل والأوقات المستقطعة هي التي يتوقف فيها الموت عن اختطاف البشر، وكونها مستقطعة يعني أن الموت لم يغب بالكلية وإنما هو حاضر، بل إنه يعود بالفعل إلى عالم الرواية. لكن قبل عودته تخبرنا الرواية بمزيج من المأساة والكوميديا أو بنوع من الكوميديا السوداء المتمثلة في أن البلد الذي شهد غياب الموت وجد نفسه ليس أمام نعيم الخلود وإنما أمام مأزق هائل لم تعرفه البشرية من قبل، ولا يعرف من ثم كيف يجد حلاً للتخلص من الوضع القائم. فما الذي يمكنه أن يفعل بكل هؤلاء العجزة الذين لا يستطيعون الرحيل: لم يكن أمام المسؤولين سوى حل واحد هو أخذ أولئك إلى حدود الدول المجاورة حيث يموت الشخص بمجرد عبوره حدود ذلك البلد، الأمر الذي أدى إلى نشوء تجارة تزدهر على حساب الراغبين في الموت أو العائلات أو المؤسسات التي ترغب في التخلص من الأشخاص الذين صاروا شبه أموات ولكنهم لم يموتون تماماً.
غير أن الوضع الناتج من محاولة حل مشكلة التكدس تؤدي إلى مشكلات مع الدول المجاورة نتيجة لكثرة تجاوز الحدود، وأدى هذا بدوره إلى ازدهار مافيا مهمتها تهريب الناس لكي يموتوا. وهكذا كان أن استمر الوضع حتى حدث التغيّر المفاجئ بعودة الموت مرة أخرى، وذلك في ما يمكن أن يعد قسماً أو نصفاً ثانياً وأخيراً من الرواية. هنا يعود الموت في شخص امرأة تجسّد الموت. وتستمر الطرافة السوداء مرة أخرى حين تبدأ المرأة، وهي امرأة فاتنة، بممارسة عملها بطريقة مختلفة عن المعتاد. ما يحدث الآن هو أن الموت/المرأة ترسل الناس إلى حتفهم، أي إليها هي، عبر رسائل وردية اللون تأتيهم بالبريد، فمن يتسلّم رسالة من ذلك اللون أو يجدها في صندوقه أو تحت الباب فإنه يستعد للانتقال إلى عالم آخر. ينتشر الذعر بسرعة بين الناس حيث يخشى الجميع من رؤية المظروف الوردي في أية لحظة. أما القراء فيتابعون الأحداث بمرافقة المرأة المرعبة وهي تجلس في مكان خفي وتعد الرسائل بالمئات يومياً، يريحهم الشعور بأنهم مستثنون من تلقي تلك الرسائل .. في الرواية على الأقل. تستمر الأمور على هذا النحو حتى تحدث مفاجأة أخرى لا تقل غرابة عن سابقاتها: تعود إحدى تلك الرسائل من دون أن يتسلمها، أو يتأثر بمحتواها، من أرسلت إليه. تكتشف المرأة/ الموت أن شخصاً ما ولأول مرة لم يتلقَّ رسالته، فتقوم بإرسالها ثانية وثالثة ورابعة، وفي كل مرة تعود الرسالة، فيجن جنون المرأة لأنه لم يعرف في تاريخ الموت أن أحداً استعصى عليه، فتقوم بتحريات دقيقة تكتشف بعدها أن الشخص الذي يحقق نوعاً من الخلود ليس سوى عازف آلة «التشيللو» في فرقة الأوركسترا المحلية، فما يكون منها إلا أن تذهب إلى المكان الذي يعزف فيه وتراقبه عن قرب بعد أن تكون اشترت بطاقة دخول وجلست ضمن الجمهور ولكن في مكان مميّز. يلاحظ الرجل السيدة ويجدها بانتظاره، وحين تتحدث معه يندهش لاهتمامها به مع أنه عازف عادي. ثم يتطور الأمر فتذهب في ما بعد إلى شقته حيث تدخل من دون حتى أن تفتح الباب، والرجل بالطبع لا يحس بها، بل إنها تقف على رأسه أثناء عزفه، وفي النهاية تحدث المفاجأة الأخرى، وما أكثر المفاجآت! حين تجد نفسها معجبة به وتقرر أن تصير إنساناً عادياً رضوخاً لمتطلبات العشق وتتركه من دون موت. تنتهي الرواية بهذه العبارة، ولنلاحظ أن الموت هنا يرد بصيغة المؤنث وهو ما لا يمكن للغة العربية نقله: «عاد(ت) الموت إلى السرير، وضعت ذراعيها حول الرجل ومن دون أن تدري ماذا يحدث لها، نامت التي لم تنم من قبل نوماً هانئاً وأغلقت جفنيها. في اليوم التالي لم يمت أحد». عاد الوضع إذاً إلى ما كان عليه في بداية الرواية.
المفارقة المرة هنا هي أن ما كان حلماً عظيماً في المخيلة البشرية أسفر عن كابوس عظيم، فغياب الموت مرة أخرى لم يعد كما بدا لأول وهلة. لقد استطاعت الرواية أن تبيّن لنا أن حلم الخلود ليس سوى كابوس، فغياب الموت الذي بدا مدهشاً وجميلاً في بداية الرواية أسفر الآن عن كارثة، فكأن غياب الموت هو الموت الحقيقي. والحق أن ما يشير إليه الكاتب البرتغالي هو ما أشارت إليه أساطير مختلفة، منها الأسطورة اليونانية حول قديسة المعبد التي منحتها الآلهة ما تتمناه فكان أن تمنت الخلود، فمنحت الخلود لتكتشف أنها نسيت أن تطلب الشباب الدائم، فكانت النتيجة هي هرم متواصل بلغ بها حد أن أصبحت من الصغر أن أمكن وضعها في زجاجة، فبدأت تتضرع إلى الآلهة أن تسمح لها بالموت، ولعل تلك الأسطورة كانت في ذهن الكاتب البرتغالي حين فكر في الرواية. كأنه تساءل: ماذا لو حدث ما تمنته تلك القديسة اليونانية على مستوى بلد بأكمله؟
ذلك الوضع المتخيل لم يصدق في حالة ساراماغو نفسه، فقد مات عام 2010 في منفاه الذي اختاره بعيداً عن بلاده التي كان قد اختلف مع قادتها. لكن حين يكون الذي مات كاتباً أوصل البرتغال لأول مرة إلى مجد جائزة نوبل فإنه لم يكن بد أمام تلك البلاد إلا أن تحتفي به فأعلن الحداد لمدة يومين وأقيم له مأتم رسمي. الغائب الأهم عن ذلك المأتم كان رئيس الوزراء البرتغالي الذي اختلف مع ساراماغو وكان من الواضح أنه لم يكن حزيناً للفقد، بل لعله تهلل فرحاً بأن رسالة وردية وصلت إلى الكاتب وحملته بعيداً عن هذا العالم. كما أن ممن سعدوا برحيل ساراماغو إسرائيل والحركة الصهيونية التي أغضبها الكاتب البرتغالي الكبير حين زار الأراضي الفلسطينية المحتلة وأعلن رفضه لسياسة إسرائيل العنصرية. هذا الموقف السياسي لا شأن له بالعمل الذي نتحدث عنه، لكنه مناسبة للإشارة إلى كاتب كبير وموقف كبير يصعب على الموت أن يخفيه.
سعد البازعي
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد