الغناء الرجولي.. القبضاي القاسي يحمي امرأة لا تعمل
أصدر المغنّي الشعبي محمد اسكندر مؤخراً، أغنية جديدة للعام 2012، عنوانها «ضد العنف»، في سياقٍ «عنيف» بدأه منذ أربع سنوات تقريباً، وأرخى ظلالاً على النتاج الغنائي الشعبي اللاحق له. كما أثار حوله جدلاً ظنّ المرء أنه قد بات من الماضي.
ففي العام 2009، أصدر اسكندر أغنية تقول: «اللي بيرميكي بوردة، براسو بخرطش فردي، مش فرقانة عندي، قلبك أنا رجّاله... وحدك ما بمشّيكي، أنا اللي بحميكي، اللي بيطلّع فيكي، ليتّمله عياله».
يومها، بدأ الرصاص الموجّه إلى رأس إنسان، وإنسان عنده «عيال» تحديداً، يشقّ طريقه في الأغنية الحديثة، وقد رافقه كمٌّ من الثقة بفحولةٍ يولّدها السلاح في نفس المحتاج إليها.
وتغلّف الرصاص برسائل الحب، ما جعل ردود أفعال المستمعين اللبنانيين تجاهه، نوعين: نوع ينفر تماماً من غريزة القمع والقتل هذه، في بلد يحيك يومياته فوق مقابر جماعية لا تُنبش، ونوعٌ دُغدغت غرائزه تلك، عند تخيّل حبيبٍ على هذا القدر من «الفحولة».
وتكمل الأغنية: «من اليوم وبالرايح، بكل المطارح، رح توقع مدابح لو فيكي تغزلوا».
كأن النزعة العنيفة لا تنام في تاريخ لبنان. كأن هناك دائماً من يستدعيها، كلما دعت الحاجة الدفاعية لذلك. وهنا، يبدو أن المغنّي استشعر خطراً يهدّد الصورة التي يمتلكها عن «الذكر» القويّ، ربما بسبب العجز السائد على مستوى المواطن الفرد، وربما بسبب ارتفاع صوت المجتمع المدني المطالب بعدالةٍ تخرج عن «الفلكلور». فكان لا بد له من الدفاع عن «ذكرٍ» لا يعرف كيف يكون، ولا يريد أن يكون غيره عندما تشتدّ الأزمات. فجاهر بالعنف دفاعاً عن الوجود، ونهل من السلطة الذكورية ما يعيده إلى موقع «الفاعل» المطلق، الذي لا «مفعول به» له إلا إمرأة يمارس عليها سلطة، ويحقق وجوداً.
وكان ذلك في العام 2009، عندما كانت رائحة البلد باروداً وعنفاً، وكانت الأحلام المدنية القليلة الباقية، تستجدي رمقاً.
في العام التالي، أتت أغنية اسكندر الثانية لتغرف من الطبق ذاته الذي أعاده إلى الراديو. فكانت «جمهورية قلبي» الصادرة في العام 2010: «نحن ما عنّا بنات، تتوظّف بشهادتها، عنّا البنت بتدلّل، كلّ شي بيجي لخدمتها، شغلك قلبي وعاطفتي وحناني (...) تَنفرض بقبل تشتغلي، شو منعمل بجمالك، بكرا المدير بيعشق وبيتحرّك إحساسه، وطبيعي إنّي إنزل هدّ الشّركة عَ راسه».
لقد بالغ المغني في حفلة الاحتفاء بذاتٍ تشدّ إلى الكهف، حيث يكون الخمول والجهل بطولةً، بمنأى عن خطر التجربة والمعرفة. و«تراث» الذكورية الذي لا يزال حاكماً في المنطقة، يؤمن لأضعف الرجال إمكانيات فرض القوة على المرأة.
امرأة بدون عمل
في الفيديو كليب المرافق للأغنية، أوضح اسكندر أن الممنوعة من العمل هي ابنته، وقد زرع في يدها بطاقة ائتمان، كبديل كافٍ ومحقّ عن كونها مواطنة. ولكي يحصّن منطق الكهف نفسه، كان لا بد لصاحبه من الإشارة إلى أنه مدرك لماهية الضوء، يعرفه، ولذلك ينبذه: «حقوق المرأة عَ عيني وعَ راسي، بس يا ريتك بتراعي إحساسي، وجودك حدّي بيقوّيني، وهيدا شي أساسي، شو هالوظيفة اللّي بدّا تفرّقنا بيني وبينك، يلعن بيّ المصاري بحرقها كرامة عينك».
يحرق المال، كمن يحرق السفن التي تقود إلى مكان آخر، علماً أن المرأة باشرت تحرّرها عندما استقلّت اقتصادياً. ويجهر مدافعاً عن شرفٍ لا يُهدّد إلا عند خروج المرأة إلى الوظيفة، وهو الشرف ذاته الذي سمّيت باسمه جريمةً تبقى بلا عقاب. حرق المال لحماية الشرف.. فكرة تؤمنها «الذكورية» وتدغدغ غرائز الباحثين عن ثقة بالذات، حتى ولو كانوا الأشد فقراً، أي الأكثر عجزاً عن توزيع بطاقات الائتمان على البنات.
ولذلك، شكّلت الأغنية مظلّة أمان لأغنيات تشهر «القوة» كانت تتفادى عصراً يدينها. فأصدر مغنٍ مجهول تماماً، موالاً صدحت به الإذاعات يقول: «لك ملعون كذاب نصاب محتال جنس النسا محتال»، كما هدّد آخر حبيبته التي يبدو أنها تركته لترافق آخراً أحبّته، بأن «بكرا لما ترضى وتوعى، الكفّ ملبّع ع خدها».
إلا أن زمن العجز ذاته، استفز كثيرين للبحث عن سبل تغييره، بدلاً من الفخر به. وقد ارتفعت أصوات كثيرة من بين هؤلاء، ضد المنطق الذي تروّج له تلك الأغنية، كما صدرت أغنيات في العام ذاته، ترفضه.
مي مطر، مثلاً، ردّت على «جمهورية قلبي»، بالبنيّة الموسيقية ذاتها: «نحن في عنا شباب منعتز بثقافتها، بتفهم شو يعني شهادات وبتعرف شو قيمتها». وأصدر المغني عمر جاد، أغنية «خلّي علمك هو سلاحك وخلّي ببالك.. بدّي ياكي حرّة قويّة».
كما خرجت فتيات ونساء وشبان في تظاهرة عفوية شهدها شارع الحمراء، ضد أغنية اعتبرت عنصرية بحق المرأة. فما كان من صاحبنا المغني إلا أن خرج بدوره من الراديوهات يخبر عن لا أنثوية النساء المتظاهرات، ولا رجولة زملائهم الشبّان. بقي مستمراً في الهجوم ذوداً عن «الفخر بالقوة»، ذاهباً في أوهامه إلى امتلاك الحق بتصنيف النساء، ومن ثم الرجال، ضمن قوالب تتيح لمنطقه البقاء. وهو ما برهنته أغنية العام 2012.
زعوري زكرت
ففي العام 2012، توجّه إلى الرجل، محدّداً للمرأة حاجتها منه، وأسباب رغبتها فيه. فرض أن هناك إمرأة واحدة تشتهي رجلاً واحداً، يعرف شخصٌ واحد، هو محمد اسكندر (أو أيّ كان سواه)، المعادلة التي «يجب» أن تقوم بينهما، وليس تلك الجمعيات الداعية إلى صياغة قانون يجرّم العنف الأسري: «(...) بدن عاشق ضد العنف يطلع متل إختك، ويجمعلك منظر الشاب وحركات الصبية (...) من يوم ما وقّفوا بالعسكر الخدمة، نص الشباب ابتلوا بمرض النعومية، ما في مرا بدا حبيبا يكون خاتم بأيديها (...) جنس اللطيف انتو ونحنا القسوة فينا (...) لا تغنجي الصبي متل الورد الجوري (...) خليه يطلع قبضاي وزكرت وزعوري، أحسن ما يطلع زلمة خمسين بالميّة».
كأنها حفلة جنون من أجل البقاء وإدعاء القوة، يخوضها «فنان» يدّعي لنفسه رسالةً مجتمعية، لم يقترحها أحد عليه، نظراً لنمطه الغنائي.
منذ بدء التسجيل العربي، في الأغنية كما في السينما، كان الانتصار لصورة عاشق حنون، بينما اقتصرت القسوة على صورة البطل الشرير. وفي أزمنة الأمل، تماهى العرب مع رجال بكوا حبّهم، وحاربوا بالقصيدة لأجله، لا بالمسدس. وكانت «نعومية» عبد الحليم حافظ في غناء الحب مثلاً، مصدر جذب استثنائي، عادت عليه بجمهور مستمر على مرّ العقود، انتحر بعض أفراده يوم مماته!
أما الصور التي يقترحها اسكندر فتأتي لتغطّي غياب الأمل. هو عصرٌ أشهر هزائم كثيرة لأحلام كثيرة عرفها العرب في عصور سابقة تاقت إلى الحرية، ولم تنتج اليوم، لأسباب قمعية كثيرة، إلا برلمانات «أصولية» تبحث في التاريخ السحيق عن أسباب التحريم، لنحت إنسان واحد. إنسان واحد فخور بهزيمته، لا يجتهد لخلق أسباب الفرح، يحتفي بالبدائية كلما تطلّب التطوّر جهداً، يسهل التحكّم به كلما دعت الحاجة لمواجهة التغيير، بحيث يبقى «كل شيء على ما هو عليه».
وما «خدمة العسكر» التي يترحّم عليها «المغني»، إلا اختصار للحاجة إلى تغييب الخصوصيات، وإثبات «الرجولة» الواحدة.. علماً إنها خدمة ألغيت في بلدان مستمرة في «إنتاج» رجال ونساء، متعددي الألوان كقوس قزح.
فتوزيع الأدوار الجندرية الذي يروّج له محمد اسكندر، أو ابنه وكاتب كلماته الجديدة كلها، ينتج عن أصولية، لا تشبه الحياة وتنوّعها، وإنما الموت وحتميته. وهي أصولية تشبه الحروب الدائرة راهناً في المنطقة وفي العالم، تجد من يهتف لها، حتى الموت.
منطقٌ يترحّم على رجال ميليشيات، تنتظرهم في البيوت نساء الحريم. وهو منطق «الحرب الأهلية»، التي تُسمع أصواتاً لبنانية تترحم عليها كلما ضاقت حال أو انبعثت رائحة دم، يتسلل ليكون منطقاً تأسيسياً في شخصية مواطن هذا البلد.
كما أنه منطق «قبضاي زعوري زكرت»، مثلما يصف نفسه، إذ يزداد شراسةً كلما ووجه بالنقد.
القسوة في التعامل مع الأطفال، ومع المرأة، كما القسوة في التعامل مع الرجل، ليكون مصدر قسوة مستقبلاً. دائرةُ عنفٍ يتم إرساؤها، بأنغام فلكلورية.. قبورٌ إضافية تُحفر بقوة العجز.. في مواجهة سعي يشدّ بالأظافر لصياغة قوانين تحفظ للإنسان حقاً بغدٍ أقل ظلماً وظلاماً، وأكثر رحابة.
سحر مندور
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد