من يحوّل سوريا «أرض جهاد» عالمي؟
دعوات «الجهاد» إلى سوريا صارت أمراً يحتمل الدعابة في بلجيكا. ليس بداعي الغرابة أو المفارقة، بل لأن هذه «القضية» ذاعت، وتوطنت ربما في الأحاديث، إلى حد جعلها تدخل في نسيج مزاح الناس. الرجلان بلجيكيان من أصول مغربية، أحدهما ستيني والآخر في الأربعينات، ومحدثهما شاب سوري.الحرب الدائرة التي تسبب بها النظام في سوريا محطة رئيسية للنقاش. مصادر حديث الرجلين شاشات التلفزة، والتحليلات الشفهية المتداولة، والأئمة والمبشرون بالنصر. وهكذا، لا مفر من الخلاف في الرأي. ليس حول السبب ومن تسبب، بل ما هدف نضال السوريين وما أدواته؟ خلاف كهذا لا يحل في حديث ساعات، خصوصاً أنه بين متحاورين على هذه الدرجة من البعد متعدد الأسباب. لذلك، يسرب الرجل الستيني امتعاضه، ويقول معاتباً محاوره السوري «ما بالك تخالفنا، كنا نريد الذهاب والجهاد في سوريا». جملة يغمز بها الرجل لصديقه، قبل أن يطلقا العنان للضحك.لم يرد الرجلان الحديث عن تفاصيل ما أضحكهما، لكن آخرين يؤكدون أن الأمر لم يعد سراً، وأن القضية أصبحت متداولة على نطاق واسع. هذا ما يقوله رجل منخرط في أوساط المهاجرين، رفض ذكر اسمه لحساسية الموضوع. ويلفت إلى أن «هناك من ذهبوا فعلاً للجهاد في سوريا، وأيضاً الحملات والدعوات قائمة لحشد المزيد منهم».المصدر يؤكد أن دعوات «الجهاد» يقودها متشددون، وهي تخرج من صالات بعض المساجد، لكنها ليست رسمية، ولا تطلق من على المنابر، بل تكون الاجتماعات بعد الصلوات مناسبة يجد فيها هؤلاء المتشددون من يصغي لهم. وعند سؤاله عن حجم الاستجابة لهذه الدعوات، يرد «بالتأكيد تجد صدى، والمجتمع يدعمها لأن الناس لا تعرف حقيقة الأمور، بل تصغي فقط لخطاب متشدد يريد منهم دعم المسلمين نصرة للدين».لم يعد الأمر يدور في الخفاء، وها هم مسؤولون بلجيكيون يحذرون منه علانية. وكالة الأنباء البلجيكية الرسمية «بيلغا»، نشرت الأربعاء الماضي تقريراً بعنوان «مسلمون من بلجيكا يقاتلون إلى جانب المتمردين في سوريا». ونقلت عن مصدر في جهاز أمن الدولة، لم تسمّه، أنهم باتوا يشعرون «بالقلق» من هذه القضية، والسبب أن «الناس الذين شاركوا بالفعل في القتال يشكلون خطراً أمنياً حقيقياً عندما يعودون إلى بلادنا، لأنهم اكتسبوا معرفة ملموسة بكيفية استخدام الأسلحة وحول استراتيجية الحرب وتكتيكاتها». الوكالة لم تحدّد، لكنها اكتفت بالتأكيد أن هناك «مسلمين بلجيكيين، أو مهاجرين قاطنين في بلجيكا، يقاتلون إلى جانب الجيش السوري الحر أو ميليشيات أخرى». مصدرها الأمني رفض توفير معلومات عن عدد المقاتلين «لأسباب تشغيلية وعملانية»، كما قال. وبرر المصدر الأمني حصولهم على هذه المعلومات أن «من واجب» أمن الدولة «مراقبة كل الأسفار إلى مناطق النزاع بما فيها سوريا». وأوردت وكالة الأنباء البلجيكية، في سياق تقريرها، أن «تجنيد» المقاتلين للذهاب إلى سوريا يحصل في مدينة انتويرب أيضاً. ونقلت عن رئيس «اللجنة الفلمنكية للمسلمين السابقين» بيتر فيله قوله «منذ مدة جاء شيخ من السعودية إلى حي برغرهوت في انتويرب ليلقي موعظة من أجل النضال في سوريا». تتوجب الإشارة هنا إلى أن هذه الشهادة تأتي على لسان رئيس منظمة يمينية متطرفة تعلن صراحة «النضال» ضد ما تسمّيه «أسلمة بلجيكا».لكن هناك شهادات موثقة، وفي المحاكم. وفي حزيران الماضي أصدرت المحكمة الجنائية حكماً على عبد الرحمن العياشي بالسجن ثماني سنوات، بعدما أدانته بلائحة طويلة من التهم، أبرزها «عمليات إرهابية» و«تجنيد الشباب للقتال في أفغانستان والعراق». في بداية المحاكمة، خلال نيسان، سئل سيباستيان كورتوا، محامي عبد الرحمن، إذا كان موكله سيحضر جلسات المحاكمة، فردّ إن «أصل موكلي من سوريا، وهو يقوم هناك بأعمال إرهابية ضد نظام الرئيس الأسد»، كما أوردت صحيفة «ستاندارد» البلجيكية الواسعة الانتشار. المحامي قال على سبيل المرافعة إن عبد الرحمن «يقوم اليوم في سوريا بدعم من الأمم المتحدة بالأشياء نفسها التي يتم اتهامه بها هنا في بروكسل»، ويضيف بلهجة ساخرة «في العراق كان يحارب الأميركيين ولم يكن ذلك مسموحاً. في سوريا يحارب الأسد، وهذا مسموح. إن مسالة اعتبار شخص ما إرهابياً أو بطلاً أمر يتعلق في شكل أساسي بمصالح بلادنا الجيوستراتيجية».وعبد الرحمن ليس أي أحد، فهو ابن الشيخ بسام العياشي، الذي من كثرة ما تناولته الصحافة البلجيكية وصلت إلى تلقيبه بـ«الشيخ ذي العينين الزرقاوين». لكن الأهم من هذا اللقب، هو الوصف الآخر «الخطر رقم واحد» عاد ليتجول في ضاحية مولنبيك ببروكسل. وفي العام 2008 ألقت السلطات الايطالية القبض عليه بشبهة التخطيط لهجوم إرهابي، لكنه عاد إلى بلجيكا أخيراً بعدما أطلق سراحه لعدم توفر أدلة كافية.الرجل غادر سوريا في الستينيات إلى فرنسا، ومنها إلى بلجيكا، حيث يقيم حتى الآن. وأسس في العام 1992 «المركز الإسلامي البلجيكي» في ضاحية مولنبيك. وحسبما نشرت الصحافة البلجيكية فإن «كل المجاهدين الذين حوكموا في بلجيكا كانوا أعضاء في هذا المركز». مركزه أقفل في العام 2002، لكن نشاط العياشي (66 عاماً) استمر. وأكد أن ابنه عبد الرحمن «يقاتل» الآن في سوريا، ويضيف «هو خبير في الاتصالات ولديه منصب عال في الجيش الحر حول حلب». ينبغي أخذ «الخبر» في كلام العياشي، أما حكاية «المناصب» فهي طويلة عنده، فهو يقول أيضا إن ابنه سيكون «سفيراً للنظام الجديد في فرنسا أو بلجيكا، بعد تحرير سوريا».وليست بلجيكا نقطة الانطلاق الوحيدة لدعوات «الجهاد» إلى سوريا. وكالات أنباء وصحف عربية وأجنبية أوردت تقارير عن توجه «جهاديين» إلى سوريا، من العراق وفرنسا والجزائر. وقبل أيام، بثت قناة «فرانس 24» تقريراً من تونس عن القضية ذاتها. التقرير رصد كيف تلقى أهل أحد «الجهاديين»، ويدعى مروان، خبر مقتله الذي بثه التلفزيون السوري. أكد أهله ذهابه للقتال، وعبروا عن فخرهم به. وبعد سؤاله عن الظاهرة، خلص التقرير إلى أن «هناك عشرات من جهاديي تونس يقاتلون في سوريا، ويترك عدد من الشبان تونس كل أسبوع للانضمام إليهم». وليس واضحاً تحت أي لواء وكيف ينشط «الجهاديون». فعندما خطف صحافيان، هولندي وبريطاني، الشهر الماضي، أوردت تقارير صحافية أجنبية أن من خطفهما «إسلاميون غير سوريين»، قبل أن يقوم «الجيش السوري الحر» بالإفراج عنهما بعد أسبوع.وبالعودة إلى بلجيكا، لا يبدو أن «الاستثمار» الذي تقوم به شبكات المتشددين خاسر. فالحكومة فشلت، حتى الآن، في علاج مشاكل اجتماعية واقتصادية جعلت من بعض أوساط المهاجرين أرضاً خصبة لتلك الاستثمارات. «هذا النوع من الجهاد ليس غريباً علينا. حدث في حالة العراق وأيضاً ليبيا»، كما يقول لنا رجل، بلجيكي من أصول مغاربية، وقع لفترة ضحية إحدى شبكات التشدد، ويشكر الآن «القدر» الذي جعله «يستفيق» بعدما كان قاب قوسين من القبول بالذهاب «للجهاد» في كوسوفو. يخبرنا أن شبكات المتشددين «لديهم عقول وممولون بشكل جيد». إضافة إلى الأموال، فدعاة «الجهاد» يقومون «بغسل دماغ ضحاياهم عبر التحريض»، كما يقول محدثنا، مضيفاً «إنهم يتوجّهون للشباب الذين لديهم مشاكل، ومن يفتقدون لأي أمل، ويعدونهم بأنهم سيرسلونهم إلى الجنة».الأمن البلجيكي يعرف ذلك. فقبل أسـبوع، نقلت الصـحف البلجـيكية عن مدير الاستخبارات قوله إن السـلفيين باتوا يشـكلون «الخطر الأكبر» على بلجيكا. مع ذلك، لم يوضح الأمن البلـجيكي لماذا لا يتم إيقاف واستـجواب من يشتبه في أنه متجه للمشاركة في نزاع مسـلح. قلقهم يتمحور حول عـودته التي ستشكل «خطراً أمنياً حقيقياً»، ولا يبــدو مهمـاً لهم على من سـيشكل هؤلاء خطراً قبل تلك العودة.. التي لا يمكن للأمن البلجيـكي تأكـيدها!
وسيم إبراهيم
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد