فلنتحدث عن ‘الأكثرية’ ... حتى ‘العظم’ !
الجمل- بقلم: د. مالك سلمان:
يجب أن أدخلَ بصدق, ليس رغبة مني في التعري أمام أشخاص لا أعرفهم, بل لقناعة عندي أن ما يَنبني على نفاق لا يمكن إلا أن يكونَ زيفاً ونفاقاً. وأنا وريثُ ثقافة مبنية, في جُلها, على صروح ضخمة من الزيف والمراوغة والنفاق. ولقناعتي, أيضاً, أن ‘المجاملة’ – وهي الرداء البهي للنفاق – في أزمنة الانهيارات الكبرى هي ضربٌ من الخيانة.
أنا لستُ من هواة ‘الأكثرية’, أية أكثرية. بل يمكنني القول إن مفهوم ‘الأكثرية’, بحد ذاته وبغض النظر عن مادته أو موضوعه, يولدُ فيَ نوعاً من الامتعاض يمكن أن يتحولَ بسهولة – تثير الإعجاب, إعجابي أنا - إلى نوع من الاحتقار. فأنا لا أؤمن أن الناس متساوون (هل يتساوى طفل مولود في الدنمارك مع طفل مولود في الصومال؟ أو طفلة آية في الجمال مع طفلة آية ... في القبح, إلخ ؟), كما لا أؤمن أن أمهاتهم ولدتهم أحراراً, ولا أؤمن أن الجنس البشري يميل إلى أي شيء يَشي بالطيبة والخير بطبيعته, بل ربما على العكس, والتاريخ البشري المعمَد بالدم والعنف والبربرية خير مثال على ذلك.
أنا من سلالة راسكولنيكوف دوستويفسكي, الذي يقسم البشر إلى "عاديين" و "استثنائيي"؛ ومن سلالة نيتشه الذي يرى أن ‘الأخلاق’ صنعت للعبيد وأن الأشخاص الموهوبين المتفوقين هم من يصنعون الأخلاق الجديدة ويدفعون التاريخَ إلى الأمام, وليس الرعاع أو "الأكثرية", التي يجب تسخيرها في إنجاز المشاريع الإنسانية الكبرى. وأنا أعتقد أن شخصاً مثلَ أرسطو كان أكثرَ أهمية للبشرية جمعاء من كل أولئك الرعاع اليونان (الأكثرية) الذين ضحوا به على مذبح "ديمقراطيتهم" الرعناء, كما أنني أعتقد أن أرسطو – في لحظة احترامه لرأي الأكثرية تلك وخضوعه لمبدأ الديمقراطية السوقية, مما قاده إلى قتل نفسه – كان أكثر سوقية منهم جميعاً.
هذا من الناحية الفلسفية والوجودية والجمالية, إن صحَ التعبير. لكن ذلك لا يمنعني بأي شكل من الأشكال أن أعتنقَ فكراً سياسياً وإنسانياً يدعو إلى مأسسة العدالة والقانون وتوزيع الثروات على أفراد الأمة ومحاربة الفساد والاستبداد, إلى آخر هذه السلسلة.
* * *
مفهوم الأكثرية
في علم "المنظور" – سواء في الرسم, أو الخطاب السياسي, أو السرد الروائي – ماتراه يحدد الموقعَ الذي تقف فيه, أو الزاوية التي تنظر منها, أو الإيديولوجيا التي تنطلق منها. باختصار, يحدد من أنت.
لنأخذ موضوعَ "الأكثرية" في سياق المجتمع السوري وعلى خلفية الأزمة السورية الراهنة, على سبيل المثال. ولنتذكر أن تعريف "الأكثرية" يعتمد هنا على "المنظور", أي على هوية الشخص:
الأكثرية في سوريا هي: العرب, الجيل الشاب, المرأة, المتعلمون, العلمانيون, المسلمون, السنة ... ... إلى آخر ما هنالك من تصنيفات تحددها مصالح ونزعات وميول الشخص الذي ينظر ويحدد ويصنف.
علينا أن نتذكر هنا أن كل تصنيف من التصنيفات المذكورة لمفهوم "الأكثرية" أعلاه يفرز, بشكل آلي, أقليتها: الأكراد والأرمن إلخ, المسنون, الرجال,الأميون, المتدينون, المسيحيون واليهود, العلويون والشيعة والدروز والاسماعيليون إلخ. كما أن كل تصنيف – فيما عدا التصنيفات الإحصائية والأنثروبولوجية والإثنية والثقافية المحضة – يستدعي بالضرورة رؤية للمجتمع تُملي بناء سياسات الدولة والمجتمع والثقافة والخطَ الذي يحدد صيرورة الأمة.
علينا أن نتذكرَ أيضاً أن المجتمعات والأمم لا تعيش في فراغ تاريخي ومادي وثقافي منفصل عن العالم وديناميته. بكلام آخر وبسيط, تتحدد صيرورة المجتمع, أي مجتمع, بالزخم الكوني والطاقة الإنسانية التي يستوجبها قانون التطور والحركة إلى الأمام بما يخدم الإنسانية جمعاء؛ أي, محور تحرك. ومعطيات الزمن التاريخي الذي نعيش فيه الآن تستحضر: العلم, التكنولوجيا, الانفتاح (الثقافي والعلمي والاقتصادي والسياسي والحضاري, إلخ), الحوار واحترام الآخر, بناء أنظمة سياسية مؤسساتية مراقبة ومحددة الصلاحيات والواجبات وقابلة – مؤسساتياً – للمحاسبة, سلطة القانون, حرية الرأي والتعبير والإعلام, التكتلات الاقتصادية والسياسية الكبيرة, تداول السلطة, دور المرأة في بناء المجتمع والدولة, إلخ.
الأكثرية السياسية
في السياق السياسي – أي فيما يتعلق بنظام الحكم, ورسم سياسة البلاد, ووضع خطط التنمية, إلخ – وخاصة في البلدان التي تتميز بتعدد الديانات والطوائف والإثنيات والأعراق, يجب أن يخرج أي كلام على السياسة عن التصنيفات المذكورة أعلاه ليحيط بتعريف جديد ﻠ "الأكثرية"؛ أي "الأكثرية السياسية". إذ إن القول بالأكثرية استناداً إلى هذه التصنيفات يحدد الإيديولوجيا التي ينطلق منها صاحب التعريف. بكلام آخر, من يحدد "العرب" كأكثرية, في سوريا مثلاً, يستبعد كل من هو غير عربي؛ ومن يحدد "المسلمين" يستبعد غير المسلمين؛ ومن يحدد "السنة" كأكثرية لا ينطلق من إيديولوجيا دينية فقط, بل يحمل فكراً طائفياً بامتياز.
ربما من المفيد هنا أن أطرح بعض التساؤلات الجوهرية في هذا السياق:
- من هي الأكثرية السورية التي كان يمثلها فارس الخوري, المسيحي البروتستانتي, عندما تم انتخابه رئيساً للمجلس النيابي السوري في سنة 1936, ثم في 1943, وبعد ذلك في 1947؛ ووزيراً للمعارف والداخلية السورية في 1944؛ ورئيساً للوفد السوري إلى الأمم المتحدة في 1945؛ ورئيساً للحكومة السورية؟
- من هي الأكثرية التي كان يمثلها ميشيل عفلق الذي كان أولَ مسيحي يتم انتخابُه وزيراً للمعارف السورية في سنة 1949؟
- أية أكثرية كان يمثلها نجيب الريس (الحموي) الذي كان أولَ سياسي تنتخبه دمشق العاصمة نائباً عنها, عن لائحة شكري القوتلي, في سنة 1934؟
- ثم إذا كانت ‘الأكثرية’ هي السنة في سوريا, والدمشقيون في دمشق, هل كان الشيخ تاج الدين الحسني يمثل الأكثرية السورية, أو الدمشقية, عندما كان رئيساً للحكومة السورية في سنة 1928, ثم رئيساً للجمهورية في سنة 1941؟ وهل يمثل حفيدُه المسلم السني معاز الخطيب الأكثرية السورية, أو المسلمة, أو السنية اليوم؟
- من جهة أخرى, هل يمثل آل سعود – المسلمون, السنة, الوهابيون– أكثرية الشعب السعودي؟
- ومن جهة ثانية, ما هي الأكثرية الأمريكية التي يمثلها اليوم رئيس أسود/مسلم/من أصل أفريقي؟
- وأخيراً, لماذا كان جمال عبد الناصر يمثل الأكثرية المصرية المسلمة والقبطية, والأكثرية العربية بكل إثنياتها ودياناتها وطوائفها في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي؟
في الأربعينيات من القرن الماضي, اعترض نجيب الريس (الحموي/المسلم/السني) على إقحام الدين في العمل السياسي والوطني, قائلاً: "لو كانت هذه البلاد للمسلمين وحدهم, لكانوا أحراراً في فرض دينهم على أنفسهم وعلى حكوماتهم وحكامهم, ولكن البلاد ليست لنا وحدنا, بل هي لنا ولغيرنا, وخصوصاً النصارى الذين كانت لهم قبلنا, والذين دخلنا عليهم, وهم فيها أصحابُ دولة وملك ودين."
وفي فترة ليست بعيدة, قال المفكر البروفسور صادق جلال العظم, في مداخلة في مؤتمر "الحداثة/والحداثة العربية": "... لا بد للكتلة الشيعية من أن تتنازلَ عن اعتبار الديمقراطية مجرد هيمنة الأكثرية وحكمها فقط لا غير," ثم طالبَ بحفظ حقوق الأقليات الدينية والطائفية على المستويات كافة, بما في ذلك "حقها في التحول إلى أكثرية انتخابية حاكمة هي أيضاً." ومن بين ما قاله أيضاً: "من قال إن الأكثرية لا تستبد؟"
مما سبق, يمكننا أن نحاولَ تحديد مفهوم الأكثرية السياسية - أو الانتخابية, نزولاً عند رغبة البروفسور العظم – بهذه الطريقة:
تتمثل الأكثرية السورية اليوم في شرائح واسعة من المجتمع السوري يغلب عليها الجيل الشاب, متعلمة, ترغب في الانفتاح على المنطقة والعالم, وتسعى إلى اللحاق بركب العلم والتكنولوجيا والعقلانية والتقدم, وتطمح إلى العيش والعمل في وطن حر ومتحرر يسوده القانون والمحاسبة وتكافؤ الفرص وتتحدد الوطنية فيه من خلال العمل المنتج بدلاً عن الولاء, وطن يؤمن بالديمقراطية ويكفل تبادل السلطة بشكل سلمي, وطن يعيش فيه المواطن بكرامته ويتمتع بكافة حقوقه وواجباته كمواطن وليس بصفته "رعية", إلخ.
إذا اتفقنا على هذا التعريف للأكثرية, يمكننا أن نرسم ملامح الحكم, ورسم السياسات الوطنية والخطط التنموية في كافة مفاصل ومجالات الحياة العامة السياسية, والاقتصادية, والاجتماعية, والثقافية. كما يمكننا القول إن "الأكثرية السياسية", أو "الانتخابية", تكتسب شرعيتها ومصداقيتها من خلال تجسيدها لتعريف الأكثرية السورية أعلاه.
وبهذا المعنى, يمكن لقيادة سورية منتخبة – تمثل الأكثرية – أن تتكون من العرب أو غيرهم, المسلمين أو غيرهم, الرجال أو غيرهم, الشباب أو غيرهم, إلخ. كما يمكن لرئيس مسلم سني, أو مسلم شيعي, أو مسلم علوي, أو مسيحي, أو سوري كردي أو أرمني, أن يمثل هذه الأكثرية أو لا يمثلها تبعاً بناءً على السياسات والخطط التي تعبر, أو تفشل في التعبير, عن طموحات هذه الأكثرية.
أكثرية ... العظم
في الآونة الأخيرة – أي خلال الأزمة السورية الراهنة – لا ينفك البروفسور والمفكر صادق جلال العظم (صاحب "نقد الفكر الديني" في الستينيات, و "ذهنية التحريم" في التسعينيات) يتحدث عن "الأكثرية" السنية في سوريا, وأن "الديمقراطية" تستدعي حكم "الأكثرية". فما هي الأرضية التي ينطلق منها البروفسور العظم في كلامه على "الأكثرية" يا ترى؟!
لن أزيدَ على هذا التساؤل غير البريء, بل أود أن أحيلكم إلى مفكر سوري آخر تحدث كثيراً – و بصفاء كامل – عن "الأكثرية" السورية على شاشات التلفزيون الوهابية. ولكن, هل تعرفون شيئاً؟ الفرق بين العظم وهذا الشيخ هو أن الثاني أكثر صدقاً مع نفسه وإيديولوجيته, كما أنه أكثر ظرفا من الأول!
الجمل
التعليقات
صادق حتى العظم
النخبة و الأكثريةالأكثرية
إضافة تعليق جديد