البديري الحلاق .. ونبيل صالح ومن قبلهما الأصفهاني
الجمل- بشار بشير: عند حلاقي صورة لحلاق دمشقي في القرن الثامن عشر، لم يرتبط الحلاق الذي يظهر بها في ذهني أبداً بأشهر حلاق دمشقي في ذلك الوقت وربما في كل الأوقات (فليسامحني حلاق المشاهير "عبد" الذي ذاعت شهرته في سبعينات و ثمانينات القرن العشرين) شهاب الدين أحمد بن بدير البديري المشهور "بالحلاق" والذي لا تعود شهرته لإتقانه الحلاقة وإنما كما تعرفون تعود لكتابه الذي أرخ به لدمشق والذي يعرف باسم "حوادث دمشق اليومية" . لم يكن البديري الحلاق مؤرخاً ولا أديباً ولا عالماً ولا شاعراً كان حلاقاً بسيطاً يجيد القراءة والكتابة وارتأى أن يكتب يوميات مدينته خلال واحد وعشرون عاماً من 1741 – 1762 م فنقل لنا نبض دمشق و صورتها الشعبية ببساطة دون محسنات لغوية ودون غايات سياسية.. بالمختصر أرخ حياة الناس العاديين الذين لم يعتد التاريخ أن يضمهم لصفحاته، وهكذا ترك لنا وثيقة تنبض بالحياة والصدق عن الفترة التي كتب عنها .
مر زمن طويل قبل أن يفكر أحد ما في توثيق الحياة اليومية لدمشق كما فعل البديري الحلاق . في الحقيقة حسب معلوماتي وأرجو أن لا أكون مخطئاً مرت أكثر من مئتي سنة قبل أن يظهر كتاب "يا مال الشام" لسهام ترجمان وهو ليس بيوميات كسابقه ولكنه يوثق شكل الحياة الشعبية ويحفظ لنا نبض الناس العاديين الذين لا يجدون ولا نجد لهم ذكراً في كتب التاريخ. أذكر أنني عندما قرأت صفحات من كتاب يامال الشام عند صدوره وجدته عادياً جداً لأنه يتكلم عن أمور عادية أراها وأعيشها يومياً في مدينتي. اليوم عرفت كم كان مهماً حفظ هذه الأمور العادية التي يتجاوزها التاريخ عادة ولكنها في الوقت نفسه تستحق أن تُحفظ بين دفتي كتاب ليعرف ويسمع اللاحقون كيف كانت حياة السابقون
في حوادث دمشق اليومية يقول البديري: بعد مضي أحد عشر سنة من جلوس مولانا السلطان محمود خان ابن السلطان مصطفى خان أيد الله عرش هذه الدولة إلى آخر الدوران . جرى على لسان العامة أنه ستحدث في الشام زلازل عظيمة تتهدم بسببها أماكن كثيرة، وأن الرجال ستنقلب نساء، وتحدثوا في حوادث كثيرة من هذه الخرافات . (اليوم من يطلق إشاعات سخيفة كهذه اسمه "التنسيقيات" ولازال حتى البسطاء يسمون هذه الإشاعات خرافات) وكانت هذه سنة غلاء في الأقوات حتى بلغ نصف رطل الرز ستة عشر مصرية والخبز الأبيض اثني عشر مصرية (هل يصح القياس أنه بعد مئتين وخمسن سنة لم يرتفع سعر الخبز الأبيض في الشام إلا ثلاث مصاري حيث أصبح الآن خمس عشرة ليرة " بدون مزاح دعم سعر الخبز هو مأثرة للدولة السورية). أما سهام ترجمان فمما تورده في كتابها مناداة الباعة على بضائعهم: عن الليمون: أنا حوشتو من عند بديعة خانم. وعن اليوسف أفندي: راس الملك هالأفندي. وعن الدراق : دشَّروا البقلاوة وأجو مشانو. وتتحدث عن أول عرس حضرته مع أمها وهي صغيرة : ..وغير بعيد عن الأسكي كان ينتصب بكبرياء سبت العروس مغطى بقماش من الشيفون الزهري الذي يخفي تحته طبقات من الملبس والسكاكر والشوكولاته حيث سيفتحه العريس ويطعم العروس "ملبسة" ثم يقذفان معاً حباته على المدعوات لتصاب بالعدوى كل من لم تتزوج بعد .
لم يترسخ هذا النوع من التأريخ للحياة اليومية ولم يصبح روتيناً كتابياً يحمل مسؤوليته كتاب ومؤرخون بشكل دائم بدون انقطاع. كان علينا مثلاً أن ننتظر حتى عام ألفين وأربعة عشر حتى يظهر كتاب آخر يمكن القول أنه يؤرخ الحوادث اليومية بشكل أو بآخر وهذه المرة لم يكتبه حلاق ولا سيدة دمشقية تعشق مدينتها، هذه المرة وفي دلالة معبرة عن تغير العصر كتبه الناس أنفسهم، حرضهم على الكتابة مشاغب من مدينة جبلة يسكن في دمشق ويعتبر نفسه خبيراً بها و بأهلها اسمه نبيل صالح. استغل التقنيات الحديثة التي أنتجت ما نسميه وسائل الإتصال الإلكترونية ليقدح زناد الكتابة والتعليق على الأحداث عند كثيرين من المتواصلين بواسطة هذه التقنيات ثم جمع ما كتبوا على مدى أكثر من سنة ووضعه في كتاب أسماه : "المختصر المفيد في حرب الشعب السوري العنيد". أحببت السجع في العنوان تذكرت الكتب التاريخية التي كان جزءاً من رصانتها وأهميتها ينبع من جمال وغرابة السجع الموجود في عناوينها رغم أني أظن أن البديري الحلاق لكان وجد هذا العنوان المسجع موضة قديمة. المختصر المفيد هو أيضاً كتاب يلتقط النبض الشعبي وحركة الناس إن لم يكن مباشرة فبين أسطره حيث يمكنك أن تقرأ مباشرة من أقلام الناس العاديين أفكارهم وآراءهم وتفاعلهم مع أخطر وأقسى ظروف مرت على هذا البلد. إن قرأته بشكل مباشر فستقرأ كتاباً سياسياً فيه الكثير من الآراء والمساجلات وإن قرأت ما بين أسطره لوجدته كتاب تاريخ يلتقط يوميات الناس ويحتفظ بها .
فيه يمكن أن تقرأ لنبيل: يأتي ليل ويذهب آخر، والسوريون عالقون بين ليلين ولا يدركهم الصباح. فلا الزوجة الناشزة تعود إلى رشدها وأسرتها بعدما استمرأت زب الغريب وماله، ولا الزوج قادر على مشاركة العشيق فراشه، بينما الأولاد منقسمون: بعضهم مع الحرية وآخرون مع الشرف الرفيع ....
ويجيبه أحد القراء: حاملي السلاح في سورية مجموعات لا علاقة لبعضها مع بعضها الآخر، وليست ذات حاضنة شعبية هامة، يقود بعضها مراهقون (بالتفكير وليس بالسن) أفلت عقالهم بعد أن وُضع بأيديهم أموال وسلاح يدير أنضج العقول، وحقنوا دينياً وطائفياً.. أكثر من ستمئة وأربعين صفحة بالكاد تؤرخ لسنة من حرب الشعب السوري العنيد. نحتاج لمئات الصفحات لكي نحتفظ ونحفظ ذاكرة أيام هذه الحرب التي لم تشهد لها سورية خلال عشرة آلاف عام مثيلاً. يجب أن يُحفظ تاريخ هذه الحرب بتفاصيله ويجب أن تعاد قراءته مرة وراء مرة .
هذا الشعب العنيد سيقرأ كتاب المختصر المفيد بعد عشرات السنين كما نقرأ نحن اليوم الأغاني للأصفهاني وحوادث دمشق للبديري الحلاق ويامال الشام لسهام ترجمان. كل ما هنالك أن هذه الأيام وحربها تحتاج لكل حلاقي دمشق وكل السيدات العاشقات لسورية وللعديد من النبلاء الصالحين ليكتبوا يومياتها الفريدة .
الجمل
إضافة تعليق جديد